الفساد في العراق.. رؤية امريكية تربط بين حكم البعث والغزو وسيطرة "الميليشيات"
شفق نيوز/ ربط "معهد بروكينغز" الأمريكي ظاهرة الفساد القائمة في العراق، بالمرحلة التي سبقت الغزو الامريكي العام 2003، في "الحقبة البعثية"، وبما تلاها حيث قام الأمريكيون بتوزيع الاموال بشكل عشوائي وغير منظم لتمويل عمليات اعادة الاعمار، ما اطلق العنان امام عمليات الكسب غير المشروع.
وبداية، ذكر المعهد الامريكي في تقريره الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، بتصريح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بعد 20 سنة على الغزو الامريكي، بان الفساد هو احد اكبر التحديات التي تواجه العراق، وبانه "لا يقل خطورة عن تهديد الارهاب".
وبعدما لفت التقرير الامريكي الى ان العديد من مواطني العراق البالغ عددهم 43 مليون نسمة يتفقون مع السوداني، الا انه اشار الى ان القليل منهم يربط ازمة الفساد بحرب العام 2003 وبالاحتلال الامريكي اللاحق، حيث يحملون المسؤولية بدرجة كبيرة لاتفاق تقاسم السلطة وعلى اعضاء النخب السياسية الثرية.
الا ان التقرير اعتبر ان صراع العراق مع الفساد، وتحديدا فيما يتعلق بالقطاع العام، يعود الى مرحلة سياسات اعادة الاعمار في حقبة الوجود العسكري الامريكي والى الحقبة البعثية، مشيرا الى انه خلال مرحلة اعادة الاعمار، وزعت الولايات المتحدة الاموال بطريقة غير منظمة وبدون رقابة في العديد من المشاريع، وهو ما اطلق التعطش للتربح غير المشروع والمال المكتسب بسهولة على كل مستوى من مستويات الحكومة، وحتى في اوساط منظمات المجتمع المدني.
كما شدد التقرير على ان الفساد والتوزيع الانتقائي للخدمات العامة كانا موجودين بشكل مؤكد قبل الغزو، في ظل حكم نظام صدام حسين الذي استثمر منذ استيلائه على السلطة، بشكل مكثف في توفير الخدمات العامة التي تغذيها عائدات النفط.
وتابع ان تراجع عائدات النفط خلال الثمانينيات، واثناء الحرب مع ايران، ادى الى الحد من انفاق الحكومة على الخدمات العامة، بينما تسببت حرب الخليج العام 1990 والعقوبات التي تبعتها، الى تدمير البنية التحتية للدولة، ولا سيما شبكات الكهرباء المياه.
وذكر التقرير بانه مع حلول نهاية التسعينيات من القرن الماضي، لم يكن يتوفر لغالبية الاسر العراقية امكانية الوصول المستمر الى الخدمة الكهربائية وتزايدت معدلات سوء التغذية بشكل كبير، خصوصا بين الاطفال. وفي ظل تطبيق برنامج "النفط مقابل الغذاء" خلال التسعينيات، فان البرنامج شهد عمليات احتيال واسعة من جانب المسؤولين العراقيين والشركات الدولية وموظفي الامم المتحدة.
وذكر التقرير ان صدام والدائرة المحيطة به، حصدوا غالبية المكاسب من هذا البرنامج، وظهرت انماط جديدة من الفساد خلال مرحلة العقوبات، بينما ادى الارتفاع الكبير في نسبة البطالة الى زيادة عدد الموظفين البيروقراطيين الذين يفرضون رسوما مقابل حصول المواطنين على الخدمات العامة خلال التسعينيات، وهو نمط من الفساد لا يزال مستمرا الى ايامنا هذه.
الا ان التقرير اعتبر ان تدفق المساعدات لاعادة الاعمار بعد العام 2003 وعدم وجود المساءلة عن العقود وعمليات الانفاق، تسببت في وصول الفساد داخل القطاع العام، الى مستويات حادة جديدة.
واوضح التقرير انه فيما بين العام 2003 والعام 2014، جرى انفاق اكثر من 220 مليار دولار على اعادة الاعمار وحدها، بينها اكثر من 74 مليار دولار من المساعدات الخارجية.
ولفت الى انه من بين ما اعاق جهود اعادة البناء، الهدر والفساد في الانفاق الكبير على كافة المستويات.
وتابع التقرير ان عددا كبيرا من مقاولي مشاريع المساعدات والمسؤولين العراقيين والامريكيين، انخرطوا بشكل مباشر في الفساد خلال تنفيذ مشاريع اعادة الاعمار، مشيرا الى تقارير اكدت تورط العديد من المتعاقدين والافراد الامريكيين بارتكابات سرقة واضحة للمساعدات ومخططات للرشوة.
وبحسب التقرير، فان المقاولين الدوليين والمحليين، تمكنوا من تحقيق ارباح من خلال مشاريع التي رفعوا فيها تقديرات الكلفة، وحدثت فيها عمليات هدر ونفقات مهدورة، مذكرا بان تقرير المفتش العام الامريكي الخاص باعادة اعمار العراق، خلص الى ان ما لا يقل عن 8 مليارات دولار من اكثر من 60 مليار دولار لاعادة الاعمار، قد تم هدرها بالكامل.
ومع ذلك، اعتبر التقرير ان تحديد المدى الدقيق لعمليات الاحتيال والهدر التي جرت، يعتبر امرا مستحيلا، مضيفا ان المحاولات التي جرت فيما بعد العام 2003، من اجل مكافحة الفساد، تبين انها لم تكن تشكل حاجزا رادعا امام مسؤولي الحكومة والوزارات الذين يوفرون الحماية للافراد من المحاسبة، على اساس الولاءات الطائفية والحزبية.
وبعدما اشار الى اتساع نطاق الرشاوى في قطاعات مهمة مثل الصحة والكهرباء من جانب مسؤولي القطاع العام، قال ان هذا النمط سبق مرحلة الغزو، لكنه تفاقم بشكل كبير في مرحلة ما بعد العام 2003 مع تدفق الاموال.
وفي حين ذكر بما كتبه الخبير العراقي عباس كاظم في العام 2010، بان النظام القانوني المدعوم من الولايات المتحدة، اتاح للاحزاب الطائفية حماية المسؤولين الفاسدين من المساءلة، اشار التقرير الى ان اعمال العنف والاغتيالات ضد مسؤولي مكافحة الفساد اظهرت انها تشكل تحديا قاتلا اضافيا، مشيرا على سبيل المثال الى ما جرى في العام 2006 ، عندما جرى خطف نائب وزير الصحة عمار الصفار وقتله على يد جماعة مسلحة تسيطر على وزارة الصحة، بسبب تحقيقات مكافحة الفساد التي كان يقودها.
وذكر التقرير بانه خلال التسعينيات ايضا، جرى توظيف اشخاص من مدينة تكريت، مسقط رأس صدام، بمعدلات اعلى في القطاع العام مقارنة ببقية السكان العراقيين، مضيفا انه بعد 20 عاما من الحرب، لا تزال الخدمات العامة متضررة بسبب اشكال فساد النخبة المترسخة في فترة ما بعد الحرب.
ونقل التقرير عن دراسة اجرتها "منظمة PLOS" انه من بين 405 الاف حالة وفاة مرتبطة بفترة الحرب بين عامي 2003 و 2011، كان ثلثها بسبب سوء البنية التحتية مثل الصرف الصحي والنقل والصحة.
وتابع التقرير ان غالبية العراقيين ليس لديهم كهرباء لمدة نصف اليوم، وانه وفقا لمنظمة الامم المتحدة للطفولة، فان 3.2 مليون طفل في سن الدراسة لا يلتحقون بمدارسهم، في حين احتل القطاع العام في العراق المرتبة 23 في العالم الاكثر فسادا في العام 2022، وهو يشكل تحسنا مقارنة بالوقت الذي كان فيه ثاني اكثر القطاعات فسادا في العام 2006.
والان، يقول التقرير ان العراق يمتلك 115 مليار دولار من الاحتياطيات الاجنبية وقد وافق مجلس الوزراء على ميزانية (تنتظر الان موافقة البرلمان) بقيمة 152 مليار دولار، وهي اعلى الارقام التي شهدها العراق في تاريخه بعد العام 2003 ما يمثل فرصة للاستثمار طويل المدى في البنى التحتية والخدمات العامة.
ومع ذلك، نبه التقرير الى ان هذه الارقام تثير المخاطرة بالسعي الى المزيد من الكسب غير المشروع، مشيرا الى انه في ظل ادارة مصطفى الكاظمي اختفت 2.5 مليار دولار من البنوك المملوكة للدولة فيما وصف بانه "سرقة القرن".
وختم التقرير بالقول ان محاربة الفساد هي عملية وقائية وتفاعلية، مذكرا بان الخبراء طالبوا منذ فترة طويلة بمضاعفة الجهود في مبادرات مكافحة الفساد، بالاضافة الى ان حكومة السوداني بدأت العمل على هذه القضية تحت ضغط من الولايات المتحدة المنخرطة بشكل مباشر في انشاء القطاع المصرفي وفي تنظيم مزاد الدولار الذي اصبح لاحقا وسيلة لتبييض الاموال لصالح ايران وتركيا المجاورتين.
وتابع قائلا ان الاحزاب السياسية والجماعات المسلحة كافحت بقوة ضد اي تنظيم لاموال العراقيين، وهي ثروة كانت استخدمت كاداة محسوبية في عراق البعث وفي عراق ما بعد البعث، لكن يتحتم ان ينظمها الشعب العراقي اذا كانت ستتوفر اي فرصة امام العراق للتغلب على الفساد.
ونقل التقرير في الختام المثل الشائع في العالم العربي والذي يقول ان "المال السائب يعلم السرقة"، مشيرا الى ان عراق ما بعد 2003 هو امثال الاوضح على ذلك.
وخلص الى القول ان التداعيات الطويلة المدى لتدفق الاموال خلال فترة اعادة الاعمار، ساعدت في ترسيخ القطاع العام كمركز للفساد، مضيفا ان فهم انماط الفساد خلال فترة اعادة الاعمار، يمثل جزءا مهما من مساعدة العراق على اجراء اصلاحات في القطاع العام في العراق من اجل خدمة العراقيين.