الصراع الهوياتي كظاهرة عالمية
قصي الصافي
اعادة اصطفاف القوى الاجتماعية تحت خيمة المشتركات الدينية أو الطائفية أو العرقية، والتي يجتمع تحت خيمتها المهمشون اقتصاديا وسياسياً مع مستغليهم في فريق واحد، انما تهدف الى تغريب ابناء الطبقات المسحوقة عن واقعهم الاقتصادي والسياسي، بغية حرف أنظارهم عن مصدر معاناتهم الحقيقي، وزجّهم في صراعات لا صالح لهم فيها، ضد اعداء افتراضيين يتم تنميطهم ضمن كتله واحدة.
لقد كُتب الكثير في دراسة أسباب تفاقم الصراع الهوياتي في الدول العربيه والاسلامية تحديداً، و تناولت معظم تلك الدراسات الظاهرة من منطلقات تأريخية وسياسية وثقافية، فقد أبحر جورج طرابيشي في رحلة طويلة في اعماق التاريخ العربي الاسلامي منقّباً عن تفسير لتفشي النزوع الطائفي في المجتمعات العربيه، خلص في نهايتها الى أن حرب الطوائف ظاهرة قديمة قدم تأريخنا، بينما يرى عزمي بشارة انها ظاهرة جديدة أنتجتها الدولة الحديثة في خضم الصراع على السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي، كما يعزو البعض حمّى التعصب الطائفي الى ضعف مؤسسات الدولة وقمع الحريات وتركات الأنظمة الاستبدادية، علاوة على قصور المؤسسات التعليمية والثقافية في التوعية العامة ومكافحة الجهل.
على أهمية تلك الدراسات إلا انها اقتصرت على دراسة الظاهرة في المنطقة العربية دون غيرها، رغم أن صراعات مشابهة قد تأججت في معظم بلدان العالم، وإن اختلفت في حدتها وطبيعتها، فهي على سبيل المثال ذات طابع عرقي -قومي في اوربا الغربية والشرقية، عرقي -عنصري في اميركا والبرازيل، ديني-قومي في الهند. وقد هيأت تلك الانقسامات المجتمعية مناخاً مناسباً لصعود اليمين المتطرف وتوسيع قواعده الشعبية، كما أنها وفرت مناخاً مناسباً أيضاً لمزايدة الأحزاب اللبرالية باسم نصرة الأقليات المهمشة للتغطية على لقاءها مع اليمين في التخادم مع رجال المال والاعمال والشركات الكبرى. ( لا نقصد بهذا التقليل من أهمية الدفاع عن الحقوق المدنية للاقلّيات، ولكن العدالة رقم غير قابل للقسمة بتعبير انجيلا ديفز، وقد كان مارتن لوثر كنغ يدرك ان الدفاع عن حقوق السود في اميركا لا ينفصل عن محاربة الفقر والاستغلال الاقتصادى أو الدفاع عن حق الشعوب في تقرير المصير).
كان الكاتب أمين معلوف من بين قلة من الكتاب العرب الذين تناولوا الصراع على الهوية كظاهرة عالميه و باسلوب شيّق ومبسط، وانطلق في دراستها وتعيين أسبابها من مفهوم الهوية الفردية، فقد عرّف الهوية الفردية ببساطة ( هويتي هي كل ما يجعلني غير متماثل مع غيري )، و لهذا تجنّب استعمال مصطلح الهويات الفرعية، فكلّ من الدين أو الطائفة أو العرق أو القبيلة لا تمثل إلا جزءاً من الهوية الفردية، وبالتالي فهي انتماءات تترك بصماتها على هوية الفرد مثلما يترك هو بصماته فيها بدرجات متباينة ولكنها لا تشكل كامل هويته، إلا أن ايّاً من هذه الانتماءات قد يتحول الى هوية للفرد في ظرف ما، كأن تتعرض جماعة الى ابادة أو انتهاكات صارخة أو تهميش واحتقار، أو في حالة الحرب أو الصراع على النفوذ أو السلطة، عندها قد تذوب باقي الأنتماءات تحت عباءة انتماء واحد كالدين أو الطائفة أو العرق فتصبح هوية الفرد دينيه أو طائفية أو عرقية حصراً، وهكذا تولد ما يسميه معلوف بالهويات القاتلة، إذ يتماهى الفرد مع الجماعة فتمّحي هويته الفردية لانتفاء تميّزها كشرط اساسي للهوية الفردية حسب التعريف الذي اعتمده معلوف أعلاه.
لم ينهك معلوف نفسه في الغوص في تواريخ وثقافات الشعوب أو نصوص الأديان، فهو يدرك أن لجميع الشعوب ثقافات دينيه أو علمانية يمكن استحضار الاساطير والقصص والنصوص منها لتشكيل إيديولوجيا تجمع حولها الحشود باسم الهوية، فالهندوسية مثلاً عادة ما يرتبط تأريخها و نصوصها الدينية بالساتياغراها و ثقافة السلام والمحبة التي استرشد بها غاندي، ومع ذلك فقد نجح مودي في تحشيد الهندوس تحت راية هوية الكراهية والعنف ضد السيخ والمسيحيين والمسلمين ( المفارقة أن مودي قد نشأ في الحزب الذي اغتال غاندي، واليوم يكمل المشوار في اغتيال نهجه السلمي بتعبئة أفراد طائفته ذاتها).
ولم يدر في خاطر أحد ان تتحول البوذية رمز المحبة والايثار الى هوية التطرف والعنف في ميانمار، فقد كانت صدمة للعالم ما جرى من حملة اغتصابات وقتل وتشريد ما يقارب 700 ألف مسلم خارج بلادهم.
والبوسني قبل الحرب وقبل تقسيم يوغسلافيا مثلاً، لم يكن ليعرّف نفسه كمسلم بل كيوغسلافي أولا، والصربي لم تكن لتراوده الرغبة بإيذاء أو قتل مواطنيه سابقاً من البوسنه أو كرواتيا قبل اندلاع الحرب.
وقد شهد العقد الاخير تناميا متزايداً للشوفينية والعنصرية بسبب كثرة الملونين واللاجئين مما استثار مشاعر الخوف والقلق لدى البيض على انحسار تفوقهم العرقي الذي يرونه مشروعاً، بدا ذلك جلياً بعد انتخاب اوباما وانتشار شعار (نريد استرجاع بلدنا الينا). ورغم أن معظم المسلمين في اوربا واميركا لم يكونوا في بلدانهم الاصليه على علاقة إيمانية وطيدة بدينهم، إلا ان أعداداً كبيرة منهم قد توحّدت تحت هوية الإسلام، وذلك كرد فعل لكثرة ما تتعرض ديانتهم الى الاتهام بالتخلف والارهاب أو عدم الاعتراف بها كديانه سماوية، علاوة على انشغالات سياسية تتعلق ببلدانهم الأصلية.
تشير الأمثلة السابقة عن الصراع الهوياتي في بلدان العالم بوضوح إلى ان تخلّي الفرد عن استقلالية هويته الفردية لصالح ما يسمى الهويه الفرعيه، ونزوعه للعنف ورفض الآخر لا يمكن تفسيره بالرجوع الى التاريخ والثقافة والنصوص الدينية فقط، بل يجب دراسة المناخات السياسية والاقتصادية وما يترتب عليها من ضغوط نفسية على الفرد. الضغوط النفسية التي تنكأ جراح الذات وتدخل المرء في حالة من العزلة المكثفة وفقدان القدرة على التكيف مع المجتمع أو مع العالم المعاصر، فتلتقي الذوات التي تعاني من العزلة والاغتراب لتنتظم فيما يشبه العشيرة في جبهة دفاع عن الهوية، وتجدر الاشارة الى ان تلك الضغوط النفسية قد تنشأ عن انتهاكات حقيقية كما هو في حالة زنوج أميركا، أو القلق من ضياع امتيازات ونفوذ أو تفوق عرقي غير مشروع كما في حالة البيض المتطرفين.
ولكن لماذا يعبّر الانسان عن انتماءه لجماعة ما بنفي أو كراهية الآخر، لا بالتفاعل السلمي معه؟، لماذا يكسّر الناس رؤوس بعضهم لنصرة فريق كرة قدم أو عشيره أو طائفة أو عرق ؟، ربّما لم يزل الانسان - ورغم التقدم الحضاري - يحمل شيئاً من رواسب النزعة القبلية، فبعد اكتشاف الزراعة وبدء التجمعات البشرية الاولى تشكلت القبائل لتنظيم العلاقات بين الافراد وحمايتهم من هجمات القبائل الأخرى، فكانت القبيلة هي الهوية الجماعية الاولى وكان التعصب للقبيلة آنذاك ضرورياً كما هي رابطة المواطنة في الدولة الحديثه.
اذا كان الاغتراب المكثف هو ما يحفّز الافراد على هجران الهوية الجامعة، والبحث عن تحقيق ذواتهم المهزومة بالتماهي مع ذات الجماعات الفرعية، فلابد من البحث في أسباب تزايد عزلة و اغتراب الفرد على المستوى العالمي في العقود الأخيرة، وهل لنظام العولمة النيولبراليه علاقة بفقدان الفرد لقدرته على التكيّف مع متغيرات العالم الجديد، اتطلع أن يكون ذلك موضوع مقال قادم.