لماذا يرفض المثقّف الظهور في البثّ المباشر؟
إدريس سالم
إن أنصاف المثقّفين والسياسيين والمتعلّمين لديهم حبّ الظهور، يخرّبون كلّ ما هو جميل وإيجابي، يقطعون الطريق دائماً أمام المثقّف، يأخذون بالنصف ويتركون النصف الآخر، إذ أن معظم المعاضل الكوردية في كلّ المجالات المختلفة سببها أنصاف المثقّفين، أنصاف الإعلاميين، أنصاف الأطباء، أنصاف الاقتصاديين، أنصاف السياسيين «الجاهل لا يستطيع حتى أن يبرهن على أقواله، أما نصف المثقف هو أشدّ خطراً من الجاهل! ونصف المعرفة أشدّ خطراً من الجهل»، الأمر الذي جعل المثقّف يفكّر ملياً قبل الظهور في أيّ قضية أو إشكالية، لتوضيحها وطرح الحلول لها «هل يعتبر سبباً مقنعاً في عدم ظهور المثقّف على البثّ المباشر؟».
الخطر الحقيقي وراء هذا النوع من المثقّفين أنه تحوّل إلى ظاهرة خطيرة، والتي أدّت بدورها إلى تدمير المهنة وقلة احترام التخصّص، فتجد مَن قرأ مقالاً في الطبّ ظنّ نفسه طبيباً ماهراً، ومَن نجح في نشر بثّ مباشر على الفيس بوك ظنّ نفسه مذيعاً أو إعلامياً، ومَن حلّل حدثاً ليتحوّل لاحقاً وبالصدفة إلى واقع ظنّ نفسه محلّلاً سياسياً، فصار الجميع أطباء وإعلاميين وسياسيين ومحلّلين!! الجميع يعرف كل شيء عن كل شيء، فلا تكاد تعرض مسألة أو حادثة إلا والجميع يدلي بدلوه! فلا أحد يحترم المهنة ولا أحد يحترم التخصّص.
لا يستطيع أشخاص محدّدون تقييم البثّ المباشر من سلبياته وإيجابياته، فالاستبيان أو التقييم يحتاجان إلى الآلاف من المصوتين والمعلّقين، تشرف عليه مراكز إعلامية وتقنية متخصّصة في شركة الفيس بوك، لأن الرجل المناسب إن لم يكن في المكان المناسب، فسيضيع كل شيء، ليعيش الفرد والجماعة في دوّامة الفوضى والعنف والاستبداد.
أولاً: سلبيات البثّ المباشر:
1ــ التضليل:
ليس كل ما يكتب أو يُحكى أو يُسمع في مواقع التواصل الاجتماعي حقيقة أو قابلاً للتنفيذ أو النشر، فقلة هي التي تتميز بالأمانة، البعض يبثّ الأكاذيب، والبعض الآخر يروّجها، وضعفاء العقل يصدقونها.
2 – العُزلة والإدمان:
يقضي كثيرون وقتهم في إعداد أو متابعة الحلقات الحوارية، وهو ما يُمكن أن يُبعدهم عن عائلاتهم وأصدقائهم، ويُسبّب لهم مَشاكل اجتماعية، أو حتّى اضطرابات نفسية، وإدمان فعلي، ما يُقلّص من قدرتهم الإنتاجيّة والتعليمية والفكرية.
3 – مصدر للدعاية الحزبية:
حيث هناك فئتان، الفئة الأولى تعمل على نشر مواضيع وأحاديث، بهدف نشر الدعاية الترويجية لأهداف وسياسات ومشاريع وأجندات جهة حزبية معينة، فيما الفئة الثانية تهاجم الفئة الأولى، وتفتح عليها حرباً إعلامية، ففي كثير من الأحيان نرى مستخدماً للبثّ أو ضيفاً دائماً ما يتكلم حول موضوع معيّن، وكأن هناك جهات تموّله أمنياً ومالياً.
4 – نشر المعلومات والرؤى الخاطئة:
قد تكون بعض المعلومات والرؤى حول مواضيع معينة غير حقيقية، وبالتالي تحمل تفسيراً خاطئاً للظواهر والمواقف، فقد يؤثّر ذلك على المعلومات والحقائق التي يعرفها المستمع على أرض الواقع.
5 – الاستخدام الخاطئ:
يؤدّي الاستخدام الخاطئ لأداة البثّ المباشر إلى غرس أفكار ومفاهيم وعادات سيئة بين الشباب، والتي توجّه عقول الشباب إلى الطريق الخاطئ، فمثلاً قد يتعلّم الأطفال العنف من خلال الاستماع للشتائم والإهانات والتخوين.
6 – التأثير على التوعيّة المجتمعية وتثقيفها:
يساهم روّاد البثّ المباشر في التأثير على زيادة اطّلاع الناس ومعرفتهم بالأمور المتنوعة، حيث أتاحت صفحاتهم للكثير من الناس نشر الأفكار والتعليقات الغبية والمسيئة، التي تنم عن جهل كبير، ويصدقها الكثير من الفارغين.
7 – القضاء على المواهب الفكرية:
عندما يتابع شاب ما، صفحة فيسبوكية رياضية غنية بالأخبار والمعرفة الرياضية، فحتماً سيتكون لديه قسط مهمّ من الثقافة والمعرفة، أما عندما يتابع حوارات البثّ المباشر اليومية بكل إشكالاتها، المفتقدة للمعلومة الصحيحة وأفكار التربية الصحية، فحتماً سيقضي هذا البثّ على موهبته وتربيته، ويحرمه من تعلم أو تنمية أي مهارات حقيقة كقراءة كتاب أو لعب الشطرنج أو تعلم العزف على آلة موسيقية.
8 – تقديم مَعلومات عشوائية للمستخدمين الصغار:
كل رائد من روّاد البثّ المباشر يرى بأنه السبّاق في تفعيل ميزة البثّ المباشر، وغالبيتهم يستخدمون لغة التخوين والتجريح، لدرجة أن حواراتهم الكوميدية والترفيهية شكلاً وليس مضموناً ساهمت في أن تصبح مَصدراً مُشوّقاً للضحك وتقميص الأدوار للأطفال المُتابعين لها، فوجود مواد غير مُناسبة لأن يَسمعها أو يُشاهدها الأطفال، هو ما يُمكن أن يكون تحديده ومراقبته من قبل الأهل صعباً في أغلب الأحيان.
9 – الترفيه غير الهادف:
خلال متابعتي للبثّ المباشر، سمعت وقرأت كثيراً عن بعض طرائف وعثرات معدّي الحوارات الفيسبوكية، كالتعليق على شارب وجبين أبو جورج الكوردستاني، وطريقة شتم أبو جيجو الإسرائيلي للشيعة وأعداء الكورد وهو يأكل اللحم بطريقة عجيبة، ولفّ أبو علي كصاب للسيجارة أثناء البثّ وإغراق الشاشة بالدخان، وعن صراخ وشتائم مختار إسبانيا لكل مَن يعاكسه، وهذه القصص الطريفة – لو تكررت دائماً – فسنحظى بجيل جديد، غير قادر على مواجهة أسهل صِعاب الحياة.
10 – الفشل الذريع لنقل ثقافة وحضارة الدول الأوروبية الراهنة:
باعتبار أن الفيس بوك وتقنياته الحديثة وبرامجه المطوّرة باتت أكثر انتشاراً وسرعة من وسائل الإعلام، فلم يستطع روّاد البثّ المباشر الموجودين كلاجئين في مُختلف الدول الأوروبية من نقل صورة تعامل المجتمع الأوروبي مع اللاجئين، أو طريقة استقبالهم، والاطّلاع على عاداتهم وأسلوب حياتهم ومقارنتها مع العادات والأساليب التي كان يعيشها في وطنه قبل الثورة والأزمة.
11 – تجريح الكرامات:
المعدّ ببرامجه أو حواراته، والضيف بمداخلاته، والمتابع بتعليقاته، يهين كرامة المناضلين والشرفات وبعض الأحزاب التي لها باع طويل في النضال، فعند نقد أو إبداء الرأي على أيّ بثّ ما، فإن أول جملة يقولونها "تعالوا وقدّموا الأفضل"، وكأن البثّ هو مقياس لكل أمور الحياة، وأساس لكسب الحقوق والتحرّر.
12 – التأثير على القضية الكوردية:
لم يستطع حتى الآن أيّ مختار من مخاتير البثّ المباشر تقديم الفائدة الفعلية والواقعية للقضية الكوردية في غربي كوردستان، بل على العكس فشلوا فشلاً ذريعاً في استقطاب القيادات الكوردية – سواء قيادات الدرجة الأولى أو الثانية – للظهور على البثّ المباشر، ومواجهة الناس، والإجابات على كل تساؤلاتهم.
13 – ساحة حرب وانتقام:
تحول البثّ من أداة للتواصل الاجتماعي إلى منبر للشتائم والتخوين المتبادل وخلق الفتنة بين القومية الواحدة، وحرب إعلامية بين مؤيّدي ومعارضي الأحزاب السياسية الكوردية.
14 – فوضى عارمة:
كزرع التعصّب الحزبي على حساب القومي، والتهديد بالقتل والاغتصاب من خلال الأسلوب الكلامي الخطير، وتعليم الأطفال على كل أنواع الشتائم والإهانات، والروتين اليومي والتضييع الوقتي، وزرع الحقد والعنف.
15 – غياب التنظيم والحوارات العشوائية المزاجية:
غالبية النقاشات المباشرة والحية تفتقد إلى التنظيم الفعّال والهادف، حواراتها ومواضيعها مختارة بشكل عشوائي ومزاجي، وحتى يكون منظماً بحواراته عليه أن يختار مواضيع وضيوفاً محدّدين، من أصحاب الأقلام، القادرين على أن يفيدوا الناس بأمور إيجابية مؤثّرة.
16 – نقص في الثقافة والمعرفة:
المنصّات الاجتماعية أصبحت فرصة للكثيرين من الذين لا يمتلكون المستوى الذهني الكافي والتفوق الفكري، للعبث بمقدّسات المجتمع وأعراض الناس ونشر المعرفة المريضة التي تضرّ الثقافة الجمعية للمجتمع.
ثانياً: إيجابيات البثّ المباشر:
1 – فتح آفاق كبيرة للتواصل والتفاعل بين الناس، دون أيّ حواجز ومعوّقات، بسلبية أو إيجابية.
2 – نقل الأخبار والأحداث بسرعة كبيرة وبزمن قليل رغم عشوائيتها.
3 – وسيلة للتسلية والترفيه، وباحة تنفيس نفسي.
4 – الرقابة على أداء الأحزاب الكوردية وكشف ممارساتهم، ودعوتهم إلى الالتزام بتحقيق مطالب الشارع الكوردي، ولو أنهم يستخدمونها في غالب الأوقات بطريقة خاطئة.
5 – كشف صفحات وهمية مخابراتية كانت تزرع البلبلة والمشاكل بين الناس والمجتمع.
6 – إتاحة الفرص أمام كافّة أصناف الناس للتعبير عن آرائهم، وإيصال أصواتهم، ومواجعهم إلى الجهات المعنية، وإلى كلّ من يهمّه الأمر.
7 – كشف ومواجهة ممارسات الفصائل الإسلامية والشيعية التي ارتكبت أبشع المجازر بحق المدن الكوردية في عفرين وكوباني وشنكال وكركوك.
8 – تنمية وتطوير الذات، من خلال اكتساب مهارات التواصل النشط وآلياته.
9 – الدعاية الفكرية والثقافية، حيث يجد أصحابها منابر سهلة لهم للتعبير عن أفكارهم والدعوة لثقافتهم.
10 – تناول المواضيع الحسّاسة والضرورية، والتي لم يستطع الإعلام الرسمي وغير الرسمي التطرّق والاقتراب منه.
11 – أصبح يشكّل حراكاً وتواصلاً ثورياً، ضدّ سياسة الأحزاب التقليدية ودور المنظمات الإنسانية والمؤسّسات الإعلامية.
12 – تعزيز فكرة التواصل والتفاعل المجتمعي، حول أمور الحياة، بسلبية أو إيجابية.
13 – وضع الشعب الكوردي على إطلاع مباشر ودائم بما يجري، خاصة في المدن الكوردية الملتهبة، من أحداث سياسية وجرائم ومجازر متوحّشة.
14 – ظاهرة طبيعية مرافقة لهامش الحرية والقفزة النوعية في مجال الاتصالات والتواصل، والزمن كفيل في غربلة هذه الظواهر وتحييدها وتطويرها.
لماذا يرفض المثقّف الظهور في البثّ المباشر؟
يقول فرانك زابا: «جزء كبير من الصحافة عبارة عن أناس لا يجيدون الكتابة، يقابلون أناساً لا يجيدون التحدّث، لأناس لا يجيدون القراءة». هذا ما ينطبق على البعض من مستخدمي برامج وتقنيات الفيس بوك، فالإعلام مهنة لا تقبل الاستهتار، بكل وسائله.
قبل الإجابة عن هذا السؤال، الذي يسأله معظم روّاد البثّ المباشر، عندما يتعرّضون إلى أيّ نقد بسيط من مثقف ما، فيقع على عاتق هذا المثقف مهمّة وجود توعية، من خلال عقد ورشات عمل وندوات، تضمّ خبراء تقنيين في مواقع التواصل الاجتماعي، لتوعية مستخدميها ووضعهم في الطريق الصحيح، خاصة اهتمام الأهالي بالأجهزة الذكية الخاصة بهم، لأن هذا الأمر قد يسبّب لهم إحراج ونوع من إفشاء الأسرار والخصوصية وخلق الفوضى المجتمعية.
إن الفيس بوك بكل ميّزاته وخاصياته هو ملك لكل مستخدم يعمل على إدارتها، بصفحاتها الخاصة والعامة ومجموعاتها، هناك مَن يستخدم هذه الميّزات والخاصيات بشكل منفعي، وهناك مَن يستخدمها بشكل مُضرّ، ومنها خاصية البثّ المباشر التي لا يجد أغلب المثقفين أنفسهم فيها، وهذا لا يعني أن لا ينتقد هذا المثقف أولئك المستخدمين، الذين يديرونها بشكل سلبي، لدرجة أن عواقبها وخيمة جداً على المجتمع والقضية.
لقد وجّهت سؤالاً لعدد من المثقفين الكورد حيال رفض المثقف للظهور في برامج البثّ المباشر، فيجيب الناشط إدريس عيسى أن "بعض أشباه المثقفين جعلوا المثقف يفكر مرتين قبل الخروج أو الظهور على البثّ المباشر، بسبب ردود الفعل السلبية على أداء مَن سبقهم"، أما الكاتب ماجد ع محمد فيقول "البثّ المباشر فقد مصداقيته، منذ البدء، لأن الغوغاء سيطروا عليه، واستخدموه منذ البداية"، فيما المحلل السياسي محمود عباس فله رأي مغاير لرأي كل من عيسى ومحمد "بشكل عام، ربّما البعض يظنّ أنه لا أهمية للبثّ الحيّ في الفيس بوك، أو ربّما لا يودُّ المواجهة المباشرة مع المستمعين"، والناشط ريزان صالح إيبو قريب من فكرة عباس "البثّ المباشر لم يظهر لفئة معينة، أيّ كما هو متعارف عليه الفئة المثقفة والفئة العامة، فبدلاً من أن يتم استغلال هذه الميزة من قبل المثقفين نأوا بأنفسهم، بل وأساءوا لها، حتى ابتعد عنها جميع المثقفين".
خلاصة القول:
يفتقد البثّ المباشر عبر الفيس بوك إلى المهنية والموضوعية والمسؤولية الأخلاقية، والحسّ القومي والهمّ الاجتماعي والبعد الفكري، إضافة إلى طرح مواضيع ومعلومات ومعارف بقدر ما تفيد المجتمع فهي تضرّه بضعفين أو ثلاثة أضعاف، له سلبيات ورذائل، بقدر ما له إيجابيات وفضائل، حيث يستخدم الملايين شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، لدرجة أنها أصبحت جزء من الروتين الفكري اليومي لهم، وعقدة لا يستطيعون حلّها وتوظيفها لصالح العام، أو التخلي عنها، وإراحة أنفسهم، وإزاحة الحقد والعنف من عقولهم.