لماذا لم يستفد العراق من نظام المؤسسات وأبدله بالمحاصصة؟!

صادق الازرقي
يحاول العراق منذ أكثر من عشرين عاما منذ إسقاط النظام المباد السابق، إقامة نظام بديل يفلح في إنقاذ الشعب من محنته التي اكتوى بها في الأقل منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 ثم مرورا بالتغيرات التي وقعت بفعل تحركات الجيش التي لم تفلح في تأسيس وضع يطمئن العراقيين على حاضرهم ومستقبل اجيالهم.
لقد كان مفترضا أن يكون التغيير الاخير في نيسان 2003 فاتحة خير على البلد يؤدي إلى انعتاقه ورفعته ورخاء شعبه؛ والأسباب كانت متوفرة لذلك التكهن منها التجربة المرة التي خبرها العراقيون طوال عقود، فضلا عن تعهدات قادة المعارضة السياسية السابقة الذين اصبحوا من ثم حكاما، وكثيرا منهم عاش وتربى في دول ديمقراطية تقاد بنظام المؤسسات، وكان يفترض أن يستلهموا من تجربتها بما ينفع العراق؛ غير أن الأمور سارت بعكس ذلك، ويتفق الجميع على أن العراق أخفق ولم يبني نظام المؤسسات ما جعل الأمور الامنية والاقتصادية والمعيشية سائبة حتى الآن باتفاق معظم المراقبين والباحثين.
فلماذا أخفق العراق في بناء نظام المؤسسات برغم ضرورته للانتقال بحياة أناس إلى سقف تطلعاتهم، لاسيما مع توفر مصادر الثروات؟ وبدلا من ذلك اصر السياسيون على اللجوء الى نظام المحاصصة في إدارة شؤون البلد.
لابد في البداية من التعريف بنظام حكم المؤسسات، اذا جاز القول؛ وفيه تؤدي المؤسسات دورا حاسما في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
والمؤسسات هي الهياكل والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية التي تحدد قواعد الممارسة الديمقراطية في المجتمع، و تشمل الأجهزة الحكومية، مثل "البرلمان والقضاء والإدارة العامة"، والخاصة مثل "الشركات والمنظمات غير الحكومية والمجتمعية" مثل النقابات والجمعيات.
ومن اهداف تلك المؤسسات أنها تضع القواعد والمعايير التي تنظم سلوك الأفراد والجماعات، مما يقلل من النزاعات ويحسن من التنسيق والتعاون، وهي تساعد على توزيع السلطة ومنع تركزها في يد شخص واحد أو جهة واحدة، مما يحد من الاستبداد ويحمي الحريات، و تسهم المؤسسات في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي بتوفير إطار عمل واضح ومحدد، مما يقلل من حالة عدم اليقين ويشجع على الاستثمار والتنمية.
و تعمل المؤسسات على مساءلة الحكام والمسؤولين عن أفعالهم وقراراتهم، مما يعزز الشفافية ويحسن من الأداء العام، و تشجع على المشاركة المدنية والتعبير عن الآراء، مما يسهم في تطوير المجتمع وتحسين جودة الحياة.
والمؤسسات السياسية التي تشمل البرلمان والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، تعمل على تنظيم الحياة السياسية وضمان مشاركة السكان في صنع القرار، و المؤسسات الاقتصادية التي تشمل الشركات والبنوك والأسواق المالية، تعمل على تنظيم النشاط الاقتصادي وتوفير فرص العمل وتحقيق النمو الاقتصادي، والمؤسسات الاجتماعية، مثل المدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الثقافية، وغيرها، تعمل على توفير الخدمات الاجتماعية والتعليم والصحة والثقافة للسكان.
ويمكن أن يفتك الفساد بالمؤسسات، اذ يؤدي إلى تآكلها وفقدان ثقة الناس بها، وهو ما يلمس بصورة واضحة في الوضع العراقي باتفاق جميع المحللين الذين يشيرون إلى أن الفساد وغياب النزاهة في شتى المؤسسات أفقدها مصداقيتها وغيب المغزى من تواجدها، وقد تعاني بعض المؤسسات من ضعف في القدرات والموارد، مما يحد من فعاليتها وقدرتها على تحقيق أهدافها.
الأمر الآخر الذي يفقد المؤسسات دورها هو "التسييس" الذي يؤدي إلى تدخل السياسيين في عمل المؤسسات وتوجيهها لخدمة مصالحهم الخاصة، وهو ما يحصل بقوة في الوضع العراقي، كما يمثل تدخل المؤسسات الدينية في شؤون مؤسسات الحكم عاملا محبطا رئيسا لدورها المفترض، وقد تميز الوضع العراقي بذلك التداخل بصورة قاسية.
ومن الأمثلة على دور المؤسسات في نظام الحكم، أن البرلمان يراقب عمل الحكومة ويقرر الميزانية العامة للدولة، و القضاء، اذ تضمن استقلاليته تطبيق القانون على الجميع بشكل عادل؛ وبحسب الباحثين فإن القضاء العراقي لطالما تعرض إلى خرق استقلاليته وتدخل السياسيين في شؤونه وقراراته.
من اقسام المؤسسات الأخرى الإدارات العامة، تقوم بتنفيذ السياسات الحكومية وتقديم الخدمات للسكان، و الشركات تسهم في تحقيق النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، أما منظمات المجتمع المدني فانها تعمل على الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية والمشاركة المدنية.
ان تطبيق نظام المؤسسات في العراق يواجه تحديات كبيرة ومعوقات متعددة، فان النظام السابق ترك إرثا ثقيلا من المركزية الشديدة وتهميش المجتمع المدني، مما أضعف دور المؤسسات، وان الصراعات السياسية وعدم الاستقرار أثرت سلبا على بناء مؤسسات قوية ومستقرة، و عانى العراق من الإرهاب الذي استنزف موارد الدولة وأعاق جهود التنمية وبناء المؤسسات، و أدت الحروب والنزاعات الداخلية إلى تدمير البنية التحتية والمؤسسات.
وتمثلت العوامل الاقتصادية التي اضعفت نظام المؤسسات في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة الذي قوض جهود الإصلاح واضعف الثقة بها.
وبرأي بعض المراقبين فإن اعتماد اقتصاد العراق بشكل كبير على النفط، يجعله عرضة للتأثر بتقلبات الأسعار ويقلل من الحاجة إلى تطوير قطاعات أخرى، فيشجع ذلك جهات سياسية متنفذة على محاولة التحرك بالضد من نظام المؤسسات باحتكار الثروة في ايديها والتأثير على نيل السكان استحقاقات تلك الثروة والتأثير في مبدأ العدالة والمساواة التي هي شروط أساسية لنجاح عمل لمؤسسات.
من التحديات الاجتماعية التي تواجه عمل المؤسسات النزاعات الطائفية، اذ أدت إلى تفتيت المجتمع العراقي وإضعاف الثقة بين مكوناته، مما أثر سلبا على بناء مؤسسات وطنية قوية، كما أن فقدان الثقة بين الناس والمؤسسات الحكومية شكل تحديا كبيرا أمام جهود التصحيح.
أما التحديات الإدارية فتضمنت ضعف الكفاءات، اذ تعاني المؤسسات العراقية من نقص في الكفاءات والخبرات المطلوبة لإدارة شؤونها بفعالية وان البيروقراطية المعقدة والمتشابكة تعوق عمل المؤسسات وتزيد من فرص الفساد.
وقد أثرت التدخلات الخارجية في الشأن العراقي على استقلالية القرار السياسي وقدرة المؤسسات على العمل بحيادية، فضلا عن عدم تواجد إرادة سياسية قوية لدى بعض القوى السياسية لتطبيق إصلاحات حقيقية في نظام المؤسسات، و بعض القوانين العراقية قد تكون قديمة أو غير فعالة ولم يجري تغييرها، مما يعوق عمل المؤسسات، كما يبرز ضعف تطبيق القوانين وعدم تواجد آليات فعالة للمساءلة.
ان الخروج من الازمة و الارتقاء بنظام المؤسسات في حكم العراق يتطلب تبني مجموعة من الأساليب والوسائل التي تهدف إلى تحسين الأداء الحكومي وتعزيز المؤسسات العامة ومن ذلك تحديث الأنظمة الإدارية وتطبيق أساليب إدارة حديثة تساعد في تسريع الإجراءات وتقليل البيروقراطية، و رفع كفاءة الموظفين الحكوميين عبر التدريب المستمر والورشات التعليمية.
كما يستوجب ذلك إنشاء هيئات مستقلة فعلا للتحقيق في قضايا الفساد وتحسين تطبيق القانون على جميع المستويات، و تطوير قوانين وضوابط تضمن مساءلة المسؤولين أمام الشعب والمؤسسات القانونية، و تحديث وتعديل القوانين بما يتماشى مع متطلبات العصر الحديث ويسهم في تعزيز حقوق المواطن وتنظيم العلاقات بين المؤسسات.
وأيضا يجب تحسين قدرة المؤسسات على تطبيق القوانين بشكل فعال، و إعطاء سلطات أوسع للحكومات المحلية والمجالس البلدية لتمكينهم من اتخاذ قرارات تتناسب مع الاحتياجات المحلية، و تحسين العلاقات بين الحكومة والمواطنين بحيث تكون هناك قنوات تواصل مباشرة لتلبية احتياجاتهم.
ومن الأمور الواجبة، تطبيق الأنظمة الإلكترونية في كل مجالات الإدارة الحكومية لتسهيل الحصول على الخدمات الحكومية والحد من الروتين، و أتمتة الأنظمة في تقديم الخدمات المتنوعة لتقليل الأخطاء البشرية وتحسين السرعة والدقة، و إشراك السكان في صنع القرار بوساطة استطلاعات الرأي والمشاورات العامة لتعزيز الحوكمة الرشيدة مثلما توصف، و نشر المعلومات المتعلقة بالمشاريع الحكومية الكبرى، بما فيها تفاصيل التعاقدات والمناقصات، و توجيه الاستثمار نحو تحسين البنية التحتية التعليمية والصحية والمرورية والتكنولوجية بما يسهم في تعزيز أداء المؤسسات الحكومية.
ويجب وضع سياسات تدعم جذب الاستثمارات، تسهم في تحسين أداء المؤسسات و توفير فرص العمل والمساواة بين جميع المواطنين في تقديم الخدمات الحكومية، و العمل على تقليل الفجوات التنموية بين شتى المناطق في العراق، مع التركيز على المناطق النائية أو الأقل تطورا، و ضمان إجراء انتخابات نزيهة وشفافة، مع تعزيز دور المؤسسات الرقابية المستقلة مثل البرلمان والقضاء، و تشجيع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني على المشاركة الفعالة في صناعة القرارات السياسية.