أصبحنا لسان حال الأحزاب
د. محمود عباس
خدمات جليلة نقدمها لأعدائنا، دون إدراك، عندما نقدم الطرفين الحزبيين المتصارعين، ممثلين عن شعبنا، ونساهم في خلافاتهما، ونعطيهم مكانة هم دونها، ونتناسى أنهما فرضا على مجتمعنا، إلى درجة أصبح تعيير الكوردي الأخر بالانتماء إلى المجلس الوطني الكوردي، أو الى الإدارة الذاتية أو ب ي د، تهمة معيبة، بل وأحيانا خيانة. وذلك على خلفية أخطاءهم، والصراعات الساذجة المفروضة عليهم من قبل المتربصين بأمتنا.
حل هذا الوباء الفكري-الحزبي، مكان الاتهامات التي سادت في العقود الماضية، التعامل مع أحد أجهزة أمن النظام البعثي-الأسدي، أي التخوين المتبادل، وكان ينشره النظام كوباء بين مجتمعنا، ومصادر الجاري مشابه للماضي، وهي القوى المحتلة لكوردستان، باستثناء أنها أكثر كارثية وبمخططات أدق.
في خضم هذا التيه الحزبي ننسى الفروقات الواسعة بيننا وبين الأعداء في البعد السياسي والاقتصادي والقدرات الدبلوماسية، ومثلها في الخباثة، وكيفية تقديمهم لقوميتهم على المصالح الحزبية والذاتية في ساحات الصراع، ولا نولي أهمية لأساليبهم. فهم على نقيضنا، يتفقون على أبسط نقاط التقاطع عندما يكون الحوار على قادم مصالحهم القومية، ونحن نتعامل بالمطلق الحزبي قبل القومي، إما الكل أو اللاشيء.
لهذا ظل العامل الداخلي هشاً وعلى مدى القرون الماضية، مثلما نحن عليه الأن، حيث قطبي الخلافات، المجلس الوطني الكوردي ومرجعيته، وأحزاب الإدارة الذاتية وقيادتها المعروفة، المحتلين لساحاتنا السياسية، مسعرين الفوضى الحزبية بين مجتمعنا، والتي هي من أحد أهم أسباب عدم تمكننا استمالة الرأي الخارجي نحو قضيتنا بالشكل المناسب، وعدم تمكننا إنقاذ الذات من الإملاءات، وحلقات مصالح الأعداء.
في العقد الأخير، وحيث مرحلة الوعي والتفتح على العالم الحضاري، توقعنا الخروج من عالم التبعية وسيطرة الأجندات الخارجية، والسذاجة السياسية، إلى حيث الوعي والدراية، والبدء بمرحلة معالجة قضايانا بأساليب عصرية، لكننا ليس فقط لم نتحرر، بل غصنا في مستنقع الصراع العقائدي، والعسكري، والتكالب على السلطة. طرف، حمل صفة سلطة الأمر الواقع، ولم يعمل على تشذيبه، يحكم بشمولية، وفكر طوباوي، منتقلا من أبعد مجالات التعصب القومي إلى حيث الأممية الفوضوية. وأخر بتبعية، يخدم شريحة خارجية تدعي المعارضة، وهي بذاتها أداة لدولة محتلة لكوردستان تغذي منظمات، غارقة في الإرهاب، وعداوة القومية الكوردية. إلى جانب أن أغلبية قيادته، يفضلون منطق الحزب قبل الوطن، والوطن قبل القومية. كل جهة تجمل وجه من وجوه الأعداء ومحتلي كوردستان تحت منطق السياسة والدبلوماسية.
والأطراف الأخرى من الحراك، إما تدعم المجلس الوطني الكوردي أو تدافع عن أحزاب الإدارة الذاتية، وكأنه لم يعد لغيرهما وجود بين أمتنا، كالمنطق المقال لا بديل عن النظام الحالي لحكم سوريا. نتناسى إنهما طرفي النقيض، مقاساتهما محددة بحيث لا يمكن لجهة القضاء على الأخر، ولن يتم الاتفاق بينهم، نقاط التقاطع أصبحت شبه معدومة، تشكلت لكليهما إعلام خاص لديمومة الخلافات، وفي الواقع كل جهة تطعن في ذاتها أكثر مما تقضم مكانة الأخر، متناسين أن كثرة المدح أو التهجم من كتاب الطرفين، تخلق حالة النقيض.
أحزاب الإدارة الذاتية:
أو لنقل جلهم، وعلى رأسهم الـ ب ي د، تدعي على أن أبوابها مفتوحة للحوار، وتدعي الديمقراطية، وكل القضايا مطروحة على طاولة المباحثات، ولا قيود على الاتفاق، رغم أنها تتهم كل من لا يتعامل معها بالخيانة، وفي مقدمتهم المجلس الوطني الكوردي، لكنها في الواقع تستند على منهجية الأحزاب الشمولية، حيث لا وجود للشراكة في منطقها، وكل تعامل إما أن يكون بتبعية أو عدم الاعتراض، أو ستظهر الإشكاليات لئلا تنجح الحوارات. والغريب أن علاقاتها السياسية والحزبية هذه تختلف مع القوى الأكبر منها والأكثر حنكة وهيبة.
وبالمقابل أحزاب المجلس الوطني الكوردي:
أو بالأحرى أغلبية القيادة، يؤكدون على عدمية كوردية الـ ب ي د، ونحن هنا لا نتحدث عن أيديولوجيتها الطوباوية، ولا عن جرائمها بحق السياسيين الكورد، بل اتهامها بالتخطيط على تهجير الكورد، وتقديم الجيل الشاب إلى مقصلة الحروب الخارجية، والتعتيم الثقافي، وتبعيتها للحزب الأكبر المتهم سلفاً من قبلهم بالعمالة للدول الإقليمية ما بين إيران وتركيا، إلى جانب علاقاتها مع سلطة الأسد الأكثر واضحة، والتي لا تحتاج إلى تعليق. والأغرب، أنه ومن خلال الائتلاف الوطني، المسير بالإملاءات التركية، تساير الاحتلال التركي، على مضض، تحت منطق السياسة المرنة لتحصيل أقل ما يمكن الوصول إليه، إلى درجة يتأفف بعض قيادييها من الإهمال التركي لهم، على أن المجلس كان يتلقى معاملة طيبة منها، لكن حواراته مع الـ ب ي د وبياناته التنديدية عند احتلال عفرين، خسرتهم هذه المكانة لدى تركيا. وتدعي بأنها رغم كل ذلك تعمل جاهدة لديمومة الحوارات، والدخول معها في شراكة لإدارة المنطقة، وهنا تتناسى أنها تتعامل مع الواقع، بوجهين، أحدهما للظهور أمام المجتمع، أي خداع الشارع الكوردي على أنها أحزاب وطنية، والوجه الأخر يمثل البعد الانتهازي وهو التكالب على السلطة، مثلما يفعله الـ ب ي د، إما عن طريق مؤسساتها أو الأحزاب المشكلة للكتلة المتحاورة.
ما تكتبه شرائح من الحراك الثقافي:
عن هذا الخليط الغريب من التناقضات، من التهجم إلى إلصاق الأخر بأحد الطرفين من خلال طروحات ما، تعكس واقع كارثي إلى درجة تصبح آفاق الخلاص شبه مستحيلة، ونحن هنا لا نعني الشرائح التي تستخدم من قبل قيادات حزبية، أو تسخر أقلامها لأحدى الطرفين، بل نتوجه إلى الذين لهم قدرة على التغيير وربما التنوير، والتي تقدم للشارع الكوردي أضعاف ما تقدمه قادة الأحزاب، ونطالبهم أن نهدأ الواقع المزري، ونساهم في النقد البناء، ومحاولة إنقاذ قيادات الطرفين، المسؤولين عن هذا الدمار، من السذاجة الحزبية، أو تصحيح مساراتهم على الأقل.
نتناسى أننا بهذه الأساليب، خلقنا مجتمع كوردي منقسم على ذاته، وفرضنا منطق الكتل الحزبية التي لا تستحق تمثيل القضية ولا الشعب في الداخل أو في المحافل الدولية، والأغرب أن أغلبية الأخوة من الحراك الثقافي، يقنعون ذاتهم، قبل الشارع الكوردي، بأن الطريق يمر من خلال مستنقع الصراع هذا، فيبدعون في عرض الحجج، وتحليل الإشكاليات، ويعمقون من الخلافات المنطقية نظريا، والمدمرة عمليا، للقضية ولقادم الأمة، وهنا ينعدم المنطق السياسي، وتتعالى العواطف.
والمؤلم، أن الحركة الثقافية الواعية، بدل أن تدرس الحقائق، والظروف، كثيرا ما تتبع صخب الأحزاب، وتتيه مع الضجيج، ولم تعد تؤمن بمساعدة الطرفين الحزبيين، وتصحيح مساراتهما، بل تساهم لإزالة أحدهما، وهي عمليا؛ منهجية تتجاوز مدارك معظم قادة الطرفين، لأنهم في الحقيقة غارقون في ديمومة الخلافات، وجميعنا يدرك، نظريا، أن خسارة طرف كوردي وضعفه تعني تقزيم الأطراف الأخرى، وهذه مسيرة مرفوضة للمتربصين بنا، ولتجاوز هذه الحكمة تم تعميم مفهوم الأممية من جهة، وعزل الأخر من الانتماء الكوردي والكوردستاني من جهة أخرى.
لا نظن أن أية قوة كردية حاليا تستطيع أن تزيل الأخر، الطرفين أدوات لقوى خارجية لن يسمحوا بذلك، إن كان المجلس الوطني أو الإدارة الذاتية، مثلما لن يسمحوا لقوى كردية أخرى متمكنة، مدركة، ومتنورة، منافسة الطرفين، أو الحلول مكانهما، وإن تم القضاء على أحدهما، ستكون بموافقتهم، لأن المخطط هو القضاء على قضيتنا في سوريا لعقود قادمة. ولهذا عندما تظهر أصوات وطنية لها القدرة على التصحيح والحد من تجاوزاتهم، يقومون بمحاربتهم بكل الأساليب، من التهم بالانتماء إلى أحد الطرفين أو بالعمالة، ويوجهون أعلامهم عليه، أو يسخرون أقلام سطحية للمهمة، وغيرها من الأساليب.
أين غابت الحكمة؟
والتي تفرض علينا ألا نكرر تجارب التاريخ الفاشل، والتي دائما كان هناك طرف متهم وأخر وطني، والنتيجة كانت دمار القوتين، وتعتيم القضية، أو تأخيرها إلى عقود. فهل بإمكاننا أن نبلع أخطاء بعضنا؟ الكارثية منها كما نصفها أحيانا، ونعمل على خلق تفاهم على المبدأ السياسي، أي مصالح شعبنا المعاني في الداخل. وفي الواقع ومن خلال دراسة تجارب التاريخ، تتبين أن القوى التي نجحت في إنقاذ شعوبها، صفاتها ومنهجيتها أمتن بكثير مما تقف عليه الطرفين الكورديين المتصارعين.
للأسف نحن كحراك كوردي، لم نبلغ حتى اللحظة منهجية السياسيين، رغم كل الحوارات والصراعات الفكرية والنقاشات، لم نتعلم من تجارب، أمريكا وروسيا وتركيا وإيران وغيرهم، وهم أمام أعيننا، رغم خلافاتهم العميقة؛ مصالحهم تدفعهم إلى ديمومة الحوارات، والاتفاق على نقاط التقاطع، وما أقدمت عليها روسيا مع تركيا وإيران في مؤتمرات أستانة وسوتشي، خير تجربة، كان بالإمكان تعلم بعض المنهجيات السياسية منهم، لكننا وللأسف نتحاور في العلن ونعمل لنقضي على بعضنا في العلن والخفاء.
على خلفية ما قامت به الأطراف الحزبية وخاصة في العقد الأخير، وفي مقدمتهم الـ ب ي د، وأسلوبه في الإدارة الذاتية، خسرنا ديمغرافيتنا، وقسم واسع من جغرافيتنا، وأصبح هناك من يطعن في قضيتنا كشعب على أرضه التاريخية، واليوم القوى الإقليمية، تركيا وإيران والنظام ومعارضته التكفيرية، تتربص بنا لتنفيذ المؤامرة التي تم التخطيط لها في عام 2016م وكتبنا عنها حينها، وذلك بالإتيان على الوجود الكوردي في غرب كوردستان، سياسيا وديمغرافية.
ونحن، تجاوزنا منطق الحوارات التي كانت متوقعة أن تؤدي إلى نتيجة ناجحة، ولم نتمكن من أحلال النقد الهادف مكان التشهير والتخوين والتهم، وهكذا أصبحنا نسير في المستنقع ذاته، لا أفق لنا ونحن تائهون بين أداتين لقوى إقليمية ودولية لا يرقيان إلى سوية الأحداث ولا القضية، ولا مكانة شعبنا، يتكالبان على السلطة. ولا نعني هنا أن التعامل مع تلك القوى سياسيا وعسكريا واقتصاديا حالة سلبية، بل نطالب بتقوية الذات، من خلال تشكيل هيئات تمثل الأمة من كلية الحراك، للتحرر من ساحة الإملاءات الإقليمية والعمل معهم كأدوات.
النقد رائع:
بها يتطور الفرد، وترقى المؤسسات، والدول، لكننا نتناسى أن له أوجه عدة، أنقاهم عندما تكون واضحة وصادقة، هادفة لبناء الإنسان، وتحرير الفكر، لا تنطلق من أجندات قوى مطعونة في مصداقيتها.
نحن كحراك كوردي، ننقد إما بخجل، أو بسذاجة، أو عن كراهية، ونحن هنا لا ننوه للصادرة عن كتبة البلاط والذين يبتذلون منهجية النقد الإيجابي، ومن النادر نستخدم الحكمة والدراية والتحليل المنطقي، وبالتالي النتائج تكون كارثية، فاسدة، مبتذلة.
لنترك الأحزاب كمؤسسات، وفي مقدمتهم الطرفين المنوهين، ونحاول توعية قياداتها أو إقناعهم لتعديل مساراتهم، خاصة الغارقة في الخلافات الشخصية قبل الحزبية، ونعمل على ردم الشرخ الذي خلقوه بين المجتمع، بنشر مفاهيم تقبل البعض إلى حين.