النظرية السياسية الرابعة ومستقبل النظام الدولي

النظرية السياسية الرابعة ومستقبل النظام الدولي

عبدالحسين الهنين

2022-12-01T15:30:13+00:00

لا بد من التوضيح ان المقال ليس الغرض منه تبني وجهة نظر معينة وإنما تسليط الضوء على ما يحدث في العالم من تحولات كبرى ومحاولة فتح نقاش موضوعي عما يجري من تغييرات تعيد رسم معالم العلاقات الدولية بشكل مختلف عما كان عليه الأمر في الخمسين سنة الماضية، أو بالأحرى هي محاولة تأصيل عراقي لفكرة او نظرية أصبحت متداولة على نطاق واسع في الأروقة السياسية العالمية، كذلك هي فرصة للإشارة إلى أن هذا المنهج لم يتفرد به الكسندر دوكين بل هو استطاع تكثيف عدد من الدراسات التي سبقته في كتاب يحمل عنوانا لنظرية جديدة، وقد ساعد في شيوعها انتماؤه لدولة عظمى (روسيا) وقربه من القيادة الروسية، التي تتبنى نفس الأفكار بهدف اعادة مكانة روسيا الطبيعية قطبا فاعلا ومؤثرا في النظام الدولي.

وبهدف التمييز فقد استخدمت كلمة (الرأسمالية) محل (الليبرالية) في مواضع مختلفة لمنع اللبس بين المفاهيم الإيجابية التي تحملها الليبرالية وبين الرأسمالية وعللها الاجتماعية، وبسبب الترابط الجدلي بين المصطلحين، برغم ان الكسندر دوكين عادة ما يقدم الليبرالية بشكل بشع وشرير في كثير من مقالاته. محاولة التمييز مردها ان الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية تمثل انواعا من الأنظمة، بينما الليبرالية والفاشية هي سلوكيات، اما القومية فهي انتماء. ولا شك في ان أي نظرية سياسية تعبر عن فكر صاحب النظرية وعادة ما يكون لها محددات وشروط ومبادئ تساهم في عملية التطور السياسي مثلما قدمت النظريات الثلاثة المعروفة (الرأسمالية والقومية والشيوعية) قبل ان تطغي النظرية الرأسمالية بعد تزعم الولايات المتحدة الأمريكية النظامَ الدولي، الأمر الذي جعلها تمثل المعيار الذي تقاس على اساسه العلاقات الدولية ما ادى الى انتشار مفاهيمها وشعاراتها التي تركز على الفردية والحرية وحقوق الإنسان بحيث أصبحت من لوازم الخطاب السياسي الدولي برغم انه لا يوجد اتفاق موحد حولها.

ولكي نفهم (النظرية السياسية الرابعة) لا بد من العودة الى الفلسفة التي تصنف مجموعة الآراء التي تستند الى وقائع علمية وفنية مختلفة على انها نظرية محددة، وعمليا ارتبط المصطلح باسم المفكر الروسي الحديث ألكسندر دوغين (Alexander Dugin ) الذي يعتقد أن نظريته تمثل البديل المنطقي لما بعد الرأسمالية، وهو يدعي انها ليست تنظيما أيديولوجيا بل هي فكرة روحية تعارض المادية، ولا تمثل امتدادا لفكرة معينة، بل هي نظرية بديلة للنظرية الأولى الرأسمالية (الليبرالية) وبديلة عن النظرية الثانية (الشيوعية) وبديلة عن النظرية الثالثة (الفاشية)، وهي تشكل مقاومة فكرية للمفاهيم التي تصدرت العالم للمرحلة التي يطلق عليها بما بعد الحداثة أو المجتمع ما بعد الصناعة، كما أنها تسمح بالتوصل الى التفسير الصحيح للكينونة وفهم التقاليد ورفض الليبرالية والحداثة وما بعد الحداثة الغربية. انها رد مباشر على العلل التي عززها اعتناق الغرب للديمقراطية الليبرالية. وبمعنى ادق هي تصفية بقايا الحقبة الاستعمارية.

الكسندر دوكين الذي وضعته مجلة فورين بوليسي (Foreign policy ) ضمن افضل 100 مفكر عام 2014 يعتقد أنّ خلال القرون التي سبقت القرن العشرين، لعب الدين والسلالات والطبقات والدول القومية أدواراً في تكوين المجتمعات وحياة الشعوب. بينما في القرن العشرين لعبت الأيديولوجيا السياسية الدور الأبرز والمسيطر على خريطة وحضارات العالم، حتى برزت أزمة الأيديولوجيات التي تقاتلت في ما بينها لاحقا. تلك النظريات تمثلت بالليبرالية بيمينها ويسارها، والشيوعية بما فيها الفكر الماركسي والاشتراكي او الاشتراكية الديمقراطية، ثم الفاشية بما فيها الفاشية القومية وانواعها مثل النقابية الوطنية، التي جسدها حكم الجنرال فرانكوا في اسبانيا.

تاريخيا، برزت النظرية الأولى (الليبرالية) في القرن الثامن عشر، وكان موضوعها الأساسي الفرد، وكانت هي الأنسب لمفهوم الحداثة وقد استطاعت التغلب على خصومها بشكل واضح، يساندها اعلام غربي طاغ، ومؤسسات مالية متحكمة في الاقتصاد العالمي. أما الشيوعية فقد جاءت كرد فعل على الرأسمالية، وكانت الطبقية موضوعها الأساسي. اما الفاشية فلم تصمد طويلاً واختفت بعد صعود هتلر والنازية والنتائج المفجعة للحرب العالمية الثانية، ما جعل التنافس محصورا بين الرأسمالية (الليبرالية) والشيوعية الذي استمر خلال حقبة الحرب الباردة و الثنائية القطبية لغاية سقوط الاتحاد السوفياتي، الذي انهى عمليا النظرية السياسية الثانية (الشيوعية)، واعلان انتصار الليبرالية وتفردها في النظام العالمي وبروز العولمة وانتشارها في كافة أنحاء العالم، الأمر الذي دفع (فرانسيس فوكاياما) الى ان يعلن نهاية التاريخ واعلان الانتصار النهائي للنموذج الغربي الليبرالي، كما ورد في كتابه (نهاية التاريخ والانسان الأخير)، حيث وضع الاقتصاد بدلا من السياسة. وتوقع ان الدول والأمم ستتحلل وتنصهر في بوتقة العولمة قبل ان يتراجع ويعترف بخطأ تقديراته.

كان فوكاياما يعتقد ان الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية، وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ. لم يكن يدرك أن هذا الطرح الإيديولوجي لم ينطلق من رؤى واستقراءات عميقة في التاريخ والصيغ والنماذج البشرية، بل كانت تخميناته لا ترقى إلى علم المستقبليات الذي يتطلب استقراءات واقعية. كان يعبر عن الزهو الغربي بعد انهيار الفكر الاشتراكي و انهيار النظم الشمولية في المعسكر الشرقي، وهو لم يعلل حينها ان هذا الانهيار لا يعبر عن انتصار الليبرالية الرأسمالية بقدر ما يكشف عن سوء الإدارة في النظم الاشتراكية والقمع والقهر والاستبداد الذي صاحب هذه النظم ما جعلها تتراجع وتنهار بالصورة التي تمت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي.

في دراسة نشرت في كانون الاول 1990 بعنوان (بنية ومرتكزات النظام الدولي) كتب عادل عبدالمهدي (ان الخط العام للنظام الدولي سائر الى تفكك بالمنظور التاريخي وان علامات الضعف المختلفة التي اخذت تظهر على تركيبته هي امر يلمسه كل مراقب)، و(ان تطور مجتمعات الرفاه، وصور التقدم الهائل في الدول المتقدمة الصناعية، بقدر ما يشير الى الامكانات العظيمة التي لا بد ان تأتي قدراتها وطاقاتها في مجالات عالمية وليست محلية، يشير في جانب اخر الى حقيقة تاريخية، وهي ان المغالاة في الرفاه مؤشر في جملة المؤشرات الكثيرة المؤذنة بحلول الخراب والخط التنازلي، وهذه حقيقة اكدها مصير كل الحضارات والتجارب السابقة التي قامت على اسس و منظومات متشابهة)، ثم يتبعه الكسندر دوكين عام 2007 في تحديد قناعته بإيجاد النظرية السياسية الرابعة، وتسميتها حيث يقول (وهكذا تتزامن بداية القرن الحادي والعشرين مع نهاية الأيديولوجيات الثلاث)، وحدد ان لكل منها نهاية مختلفة، فقد تم تدمير النظرية السياسية الثالثة في شبابها وتوفيت الثانية بسبب شيخوخة متداعية وولدت الأولى من جديد كشيء آخر (ما بعد الليبرالية ومجتمع السوق العالمي). وهو يشترك مع عبدالمهدي في فكرة تصفير الاستعمار.

ويؤكد أنّ النظريات الثلاث هي نظريات غربية نشأت في الغرب وفُرضت على العالم بأكمله، فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا تمارس العدوان الثقافي ضد الثقافات الأخرى، وتحاول تصدير ثقافتها بالقوة أو التأثير، كما في العراق وأفغانستان وليبيا وأماكن اخرى في العالم. واقعاً، أن الشعوب والثقافات الأخرى قبلت بهذه النظريات الثلاث، وباتت أسيرة لها، لكن انتصار الرأسمالية على الفاشية والشيوعية في مرحلة الحداثة لن يستمر طويلا بالمعيار التاريخي وانما بدأت مرحلة ما بعد الحداثة الذي كانت اهم نتائجه اختراق النظام الليبرالي، بحيث أضحى من الممكن الحديث عن القيم والتقاليد بعدما كان محظوراً في السابق، حينما كان يعتبر تجنب الحديث عن الدين والتقاليد من لوازم الحداثة التي هدفت إلى إسقاط التقاليد والتسلسل الهرمي للمجتمع والأسرة، لكن مرحلة ما بعد الحداثة أثبتت ان كل ما هو قديم له قيمة ومصداقية، وان عودة اللاهوت والحديث عن الله اصبح عنصراً أساسياً في حياة الأمم والشعوب.

النظرية السياسية الرابعة كغيرها من النظريات واجهت انتقادات عديدة، لكن أهم هذه الانتقادات الموجهة لصاحب النظرية هو انه يعتبر اللبرالية شرا مطلقا، وان نظريته تشجع على الديكتاتورية والتطرف والسلطة المطلقة. وقد يشفع لدوكين رؤية عبدالمهدي الاستراتيجية التي كتبها قبل سبعة عشر عاما من اطلاق النظرية السياسية الرابعة: (ان النظام الدولي يعيش خطا تراجعيا على صعيد بنيته القاعدية، لكنه ينظم خطا هجوما على صعيد بنيته الفوقية).

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon