السياسة النقدية لدى أردوغان، والانتخابات التركية القادمة

السياسة النقدية لدى أردوغان، والانتخابات التركية القادمة

شوان زنكَنة

2021-10-31T15:53:41+00:00

للمرّة الثانية خفّضَ البنك المركزي التركي سعر الفائدة بمقدار نقطتين ليصبح معدل الفائدة 16%، وأبقى البابَ مفتوحًا لتخفيضٍ آخرٍ بمقدار نقطة أو نقطتين، ليكون من المتوقع استقرار معدل الفائدة بحدود 14% أو 15% مع نهاية هذه السنة، وذلك بأمرٍ من الرئيس أردوغان، ويبدو أن هذا التخفيض قد تسبّب بانكماشٍ ملحوظٍ لسعر صرف الليرة التركية.

ولنا أن نسأل: هل الرئيس أردوغان والاقتصاديون الذين يحيطون به يجهلون نتائج صنعتهم هذه؟ خاصّةً وأن البنك المركزي التركي يحتضن خيرة أساتذة وعلماء الاقتصاد في تركيا.

ما قام به البنك المركزي من تخفيض هو جزء من منظور الحكومة في معالجة المسألة الاقتصادية، وعلينا نحن المراقبين من خارج الحكومة أن نسعى لفهم منظور الحكومة هذا، بدل أن نعلن عن استغرابنا، ودهشتنا، واستنكارنا لهذه الخطوة، وغيرها من الخطوات الحكومية، ولِنتَتبَّعَ معًا فهمَ هذا المنظور كالآتي:

* ينظر الرئيس أردوغان إلى الفائدة على أنها ربا محرم، وأنها أم المصائب الاقتصادية، وذلك من منطلق ديني، وبغض النظر عن صحة هذا المنظور أو خطئه، فإن الدوافع الانتخابية وتحفيز التفاف الجماهير حول منظور الحكومة، قد عززت تشبُّثَ أردوغان بهذا الفهم للفائدة وربطها بالربا، فأصبح كل من هذا المنطلق الديني، وتحشيد الجماهير حول الحكومة لضمان ديمومتها، الأساس الذي بنى عليه أردوغان مشروعه لمعالجة الأزمة الاقتصادية.

* المجتمع التركي، يتكون -في العموم- من شريحتين اجتماعيتين اقتصاديتين متناقضتين، شريحة كبار الأغنياء المدعومين من التيار اليساري، ومن العلمانية (شريحة الرأسمالية)، وشريحة البورجوازية الوسطى فما دون المدعومة من التيارين المحافظ والقومي اليميني (شريحة الرأسمال الأخضر)، وقد اتخذ أردوغان موقفه الداعم للبورجوازية التي تُعتبَرُ القاعدة الطبيعية لفكر أردوغان وحزبه وحكومته، فبنى منظوره لمعالجة القضية الاقتصادية مخاطبا مصالح هذه الشريحة.

* خفضُ سعرِ الفائدة أدّى إلى انكماش العملة المحلية، وبالتالي زيادةٍ ملحوظةٍ لنسبة التضخم.

* تسعى حكومة أردوغان من وراء هذا الخفض إلى توفير التمويل المنخفض الكلفة بالليرة التركية للقطاعات التالية: التجارة الخارجية (التصدير)، السياحة، الإنتاج، صغار التجار، الإنشاءات والعقار، وذلك لمعالجة الركود، وزيادة الإنتاج والتصدير، ومعالجة البطالة، ورفع وتيرة النمو.

* الشريحة الرأسمالية قادرة على حيازة العملة الصعبة من تجارتها الخارجية، وقادرة كذلك على الاقتراض الخارجي بالعملة الصعبة وبنسب لا تتجاوز 5%، فهي بالتالي غير معنية بهذا الخفض في سعر الفائدة بالليرة التركية، وهي تعلم أيضا أن الحكومة لم تقصد استفادتها من هذا الخفض، ولكنها منزعجة جدا منه، لإنها معنية بنتائج هذا الخفض على زيادة نسبة التضخم، وبالتالي عدم استقرار الاقتصاد.. وقد رفعت هذه الشريحة من وتيرة انزعاجها من السياسة النقدية للحكومة، ومن ممارساتها الاقتصادية والسياسية الأخرى من خلال مؤسستها الاقتصادية "جمعية الصناعيين ورجال الأعمال التركية TUSIAD".

* يعتقد أردوغان وكادره الاقتصادي أن انخفاض سعر صرف الليرة التركية تجاه العملات الأجنبية يعطي الليرة سعر صرف منافس، فيجعل السلع التركية أرخص من منافساتها العالمية، وبالتالي تحصل هذه السلع على وضع منافس أفضل، وحصة أكبر في الأسواق العالمية، وهذا صحيح من الناحية النظرية، وغير دقيق من الناحية العملية، ولهذا لا تسعى الحكومة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الليرة التركية في المرحلة الراهنة.

* التضخمُ أثرٌ سلبيٌّ من آثار انكماش الليرة التركية، ولو أضفنا إليه التضخم المحلي والعالمي الذي يعاني منه العالم لأسباب عديدة، فإننا سنكون أمام موجة قاسية من التضخم، يعتقد محافظ البنك المركزي أنه مؤقت، وهو واهم فعلا، لأن التضخم هيكلي هجين، ناتج عن جملة أسباب وليس الطلب وسعر الصرف فقط كما يظن محافظ البنك المركزي.

* يعتقد أردوغان وكادره الاقتصادي أن التضخم مؤقت، لذلك سيترك التضخم لفترة من الزمن، وسيكتفي برفع الأجور والرواتب في المرحلة الحالية، وذلك لتلافي بعض آثار التضخم السلبية على المواطنين، وسيقوم، فيما أعتقد بالإجراءات الجذرية بعد الانتخابات القادمة، كي لا تتأثر خطته الحالية في معالجة الأزمة الاقتصادية.

* يركّز أردوغان وكادره الاقتصادي على الحفاظ على نسبة نمو 9% في نهاية هذا العام، ونسبة نمو لا تقل عن 5% للعامين المقبلين على التوالي، وهذا يعني أنه لا بدّ من دعم الإنتاج والتصدير، وفي حال زيادة الإنتاج والتصدير، فإن العجز في الميزان التجاري سينخفض، ويرتفع حجم الاحتياطي المركزي من العملات الأجنبية، وأن نسبة العمالة سترتفع، كذلك لا بدّ من تحفيز قطاع الإنشاء والعقار، لأنه القطاع المحرك للاقتصاد، ويُعَدُّ تخفيض سعر الفائدة أفضل وسيلة لتحفيز هذا القطاع.. ولأجل تحقيق هذه الأهداف يضطر أردوغان وكادره الاقتصادي للتضحية بسعر صرف منخفض لليرة التركية، وبنسبة تضخم فوق 20%.

* يريد أردوغان الدخول في الانتخابات القادمة، التي أعتقد أنها ستجري في وقتها نهاية 2023م، بالمؤشرات الاقتصادية التالية: نمو معقول لا يقل عن 5%، عجز منخفض في الميزان التجاري، فائض في الموازنة العامة، ناجم عن التضخم وزيادة الموارد من الإنتاج والضرائب وترشيد الانفاق، ونسبة بطالة قريبة من 10%، كي يضمن لنفسه بالرئاسة ولحزبه بالأكثرية في البرلمان، وهذه المؤشرات لا تتحقّق في نظره إلّا بخفض نسبة الفائدة، والظهور بمظهر المدافع عن القيم الاقتصادية الإسلامية، والمدافع عن المصالح الاقتصادية والوطنية للشريحة المحافظة والقومية داخل المجتمع التركي.

* عدم اتخاذ إجراءات وقائية لكبح جماح التضخم، وتسييب سعر صرف الليرة التركية دون حماية، يجعل منظور أردوغان الاقتصادي في المحكّ، فأهدافه في تحقيق مؤشرات اقتصادية مناسبة أمرٌ مفهوم ومطلوب، ولكن إذا جاء على حساب التضخم وانكماش العملة التركية، ففيه مخاطر لا تُحمَد عقباه، وقد يتمكن المتربصون بأردوغان وحزبه من تحريك الشارع ضده بذريعة التضخم والغلاء وضعف القدرة الشرائية لليرة التركية والفقر.

* ولو أضفنا إلى ذريعة المتربصين، ما تم تداوله في الإعلام العالمي من ضغوط سياسية على أردوغان وحكومته، لعلمنا أن الشريحة الرأسمالية تبذل قصارى جهدها وبدعم دولي لتسفيه إجراءات الحكومة الاقتصادية وتشويهها شعبيا من جهة، واستخدام أدوات سياسية خارجية لتحقيق مرامها في تغيير النظام من جهة أخرى، فقد وضعت هيئة رقابة تبييض الأموال تركيا في القائمة الرمادية، وردّت المحكمة العليا الأمريكية طلب الحكومة التركية بإسقاط دعوى "خلق بنك" وقررت الاستمرار في النظر فيها، وطالب سفراء عشر دول الإفراج عن عثمان كافالا وصلاح الدين دمر طاش، كل ذلك يأتي ضمن حملة عارمة هدفها إسقاط النظام الرئاسي في تركيا.

* بموازاة الإجراءات الاقتصادية للتهيئة للانتخابات، تسعى حكومة أردوغان إلى تحقيق مكاسب وطنية في المجالات الأمنية، فقد صعّدت من لهجة الخطاب ضد قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، وهدّدت باقتحام المناطق الحدودية التي لا زالت تحت سيطرتها، وخاصة مدينة كوباني، ويأتي هذا التصعيد من ثنايا الدولة العميقة القومية، التي تتلهّف لإنهاء وجود القوات الكردية المسلحة في سوريا، وقد زار وزير الداخلية التركي سليمان صويلو طهران قبل أيام لبحث قضايا أمنية حساسة مع القيادة الأمنية في الحكومة الإيرانية والحرس الثوري، ومما يُلفتُ النظر، أن المهمة الأمنية بين البلدين منحصرة بجهاز الاستخبارات التركية ومستشاره هاكان فدان، وليست من مهام وزارة الداخلية، ويبدو أن الدولة العميقة في تركيا مقبلة على مهمات حساسة قبل الانتخابات، وذلك لحشد أكبر قدر ممكن من الجماهير حول الحكومة، لذلك أوفدت ممثلها، السيد سليمان صويلو، للقيام بمهمة توقيع الاتفاقات الأمنية بين إيران وتركيا، وقد تم التفاهم بين الطرفين على قضايا متعلقة بأذربيجان، وتخفيف التوتر على حدودها والسماح بتمرير تجارة المخدرات الإيرانية، وبحث الوجود الإسرائيلي فيها، والتنسيق بخصوص دخول كوباني في سوريا، وتخفيف التوتر الحاصل بين إيران وتركيا بخصوص الأنشطة التجسسية الإيرانية والإسرائيلية في تركيا، والتنسيق في مجال محاربة الإرهاب.

* الخلاصة: منظور أردوغان الاقتصادي، قائم على احتضان الشريحة المحافظة والقومية، من الطبقة البورجوازية فما دونها، ويهدف إلى تحقيق نمو معقول، وفائض في الموازنة العامة، وانخفاض في عجز الميزان التجاري، وتقليل نسبة البطالة، وقبول بنسبة تضخم مؤقتة، وانكماش لليرة التركية، على أن يتم السيطرة الفعلية على التضخم والانكماش بعد الانتخابات القادمة.

وأعتقد أن ما يهدف إليه الرئيس أردوغان مطلب وطني لا بدّ منه، إلّا أنني أعتقد أنه لا يستطيع تحقيق هذا الهدف بأداة خفض الفائدة، فقد لاحظنا جميعا سيئات هذا الخفض، بل كان يجب عليه -في منظوري- أن يُبقِيَ الفائدة كما هي، ويطلب من البنك المركزي تقديم قروض ميسرة مدروسة لدعم القطاعات المختلفة حسب حاجاتها، وبضوابط محدَّدة وصارمة كي لا يتمّ استغلالها من قبل ضعاف النفوس، فمثلا لو قدمت البنوك قروض بنسبة 1% شهريا لقطاع العقار والانشاءات والسياحة، وبحدود 10% سنويا للقطاعات الأخرى، لكان أجدى وأنفع وأكثر تأثيرا، وأقل ضررا على التضخم وسعر صرف العملة، وتقوم الحكومة بتحمّل فرق الفائدة.. علما بإن التخفيض الذي أعلن عنه البنك المركزي لم تلتزم به البنوك، لأنها لو التزمت فإنها ستتعرض للخسارة الحتمية بسبب التضخم وانكماش قيمة الليرة التركية.. كما أن الاعتقاد بأن التضخم مؤقت، ليس في محله، وهو خلاف ما ينظر إليه الاقتصاديون في العالم، مما حدى بالكثير من الدول إلى رفع سعر الفائدة، لكبح جماح التضخم، لذلك، أعتقد أن على حكومة أردوغان الإسراع في اتخاذ الأدوات النقدية، كرفع سعر الفائدة، ورفع حجم التصدير، وتحسين نوعيته وقيمته، وتشجيع الاستثمار، بل والدخول في مفاوضات سياسية مع الدول الغنية لرفد تركيا بالعملات الصعبة، وكذلك اتخاذ كافة الأدوات المالية لتخفيض نسبة التضخم، كتخفيض نسب الضرائب والجمارك، وتقديم معونات للمنتجين وتسهيل تسويق منتجاتهم، والسعي للتصنيع المحلي للسلع الوسيطة المستوردة وغيرها، وذلك لتخفيض كلف الإنتاج، وبالتالي خفض التضخم.

الاقتصاد والامن محور الصراع بين الشريحة القومية الوطنية والشريحة اليسارية والعلمانية في الوقت الراهن، وهو المحور الذي سيرسم مستقبل تركيا السياسي ونظام حكمها. 24/10/2021

 

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon