الانقلابات في العراق، ثورة أم مؤامرة؟!
صفوة فاهم كامل
قبل خمسة وستين عامًا وفي مثل هذه الأيام من عام 1958 استيقظ العراقيون مفزوعين على وقع حركة انقلابية دموية غَيّرَت وجه العراق وتاريخه إلى الأبد وتغيّرَ نظام حكمه بالقوة، من ملكي دستوري زاهر إلى جمهوري دكتاتوري غائم.
ونحن إذ تستذكر ذلك اليوم المنحوس، نستعرض معه واقع الأحداث المريرة التي جرت في العراق قبل ذلك التاريخ وما بعده، ونحلّلها سياسيَّا وعقلانيًّا ومنطقيًّا.
فالعراق في عصره الحديث يعدُّ واحداً من أكثر الدول العربية ودول المنطقة جرت فيه انقلابات عسكرية داخلية استهدفت أنظمته السياسية القائمة وغيّرتها بأنظمة أخرى، أغلبها نجح خلال ساعات قليلة، ومعها سالت دماء غزيرة، وأُزهقت أرواح بريئة وتغيّرت موازين القوى وتبدّلت مناهج وسياسات.
وما يزال العراقيون إلى اليوم باتجاهاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم المختلفة مختلفين في توصيف تلك الانقلابات ومتباينين في تسمياتها وكل فريق يغنّي على ليلاه، ففريق يسميها (ثورة)، وهم مؤمنون بذلك، ومعهم من يسمّوها أيضًا ثورة وبصوت عال لكن كمن يذرّ الرماد في عيون القائمين بها، مجاراةً لهم وتجنّبًا للشّر القادم معهم، ولكن في عقولهم وقلوبهم هي حركة انقلابية ليس إلا.
والفريق الآخر يَطلق عليها بـ (المؤامرة) لأن من قام بها هم نفر متآمر ومتصيّد ضد حكومة (شرعية) أو على الأقل حكومة قائمة أخذت على عاتقها تسيّر أمور البلاد، خاصة عندما يكون هؤلاء المنتقدون قد فرّوا خارج الوطن وأصبحت لديهم مساحة من الحرية في التعبير، أو أنهم انضموا إلى صفوف المعارضة ضد الحكم القائم الجديد على أمل التغيير ثمَّ العودة.
(الانقلاب)... في معناه المدني العام هو تحوّل الشيء عن وجهه الحقيقي المعروف. أما في معناه العسكري فهو التغيير المفاجئ في سلطة الحكم والإطاحة بها بشكل غير شرعي، وغالبا ما تقوم به فئة معيّنة من كبار رجالات الجيش، شاغلين مناصب قوية وحسّاسة، يساندهم صغار الضباط مع قطعاتهم العسكرية الموالية، مستخدمين السلاح والعنف والتهديد.
أما(الثورة)... فلها معاني كثيرة تفوّه بها فلاسفة وقادة سياسيون وعساكر، وثوريون وشعراء وأدباء، من كل أنحاء المعمورة، فالثورة لا تولد بالصدفة أو تحاك في الكواليس مثل الانقلاب، بل تولد من رحم الشعب وتعكس معاناته وضرورات الحياة السياسية والاجتماعية القاسية التي تحتم إشعالها بعد أن تكون أمور البلاد قد وصلت إلى حد متأزم لا يطاق ويفقد الشعب صبره حتى الغليان. وغالبًا من يقوم بالثورة هم الشعب بكل طبقاته وفئاته، وهدفه واحد هو تغيير الواقع السياسي الحالي إلى واقع أفضل يوفّر الحقوق الكاملة للشعب، والحرية للفرد، والنهضة للمجتمع حتى وأن استمرّت هذه الثورة وتضحياتها لأشهر وسنوات. وفي السنوات الأخيرة راح البعض يستخدم كلمة (حركة) بدلًا عن (ثورة) كمصطلح سياسي أولًا، والنأي عن الانحياز إلى أي جهة وإعطاء صفة شفافة ومستقلّة ترضي الطرفين!
ولكن وحسب وصف المؤرّخة والكاتبة الأمريكية باربرا توكمان، للثورة فتقول: (إن كل ثورة ناجحة سترتدي فيما بعد ثوب الطاغية نفسه الذي أطاحت به...!).
وبعد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، وتقسيم غنائم الإمبراطورية العثمانية، وما تلاها من اتفاقية سان ريمو التي أعقبتها وحدّدت النفوذ الفرنسي والبريطاني في منطقة الشرق الأوسط، ومنها العراق فقد جرت في هذا البلد ستة انقلابات ناجحة حققت مأربها، أولها كان عام 1936 والثاني عام 1941، نجحا في البداية لكن ما لبثت الأمور أن تغيّرت بعد ذلك بمدة قصيرة، أما بقية الانقلابات فجرت في الأعوام 1958، و1963، و1968، و2003، كلها غيُّرت الأنظمة فيها والحكومات لتحل محلها أخرى جديدة. وكل هذه الانقلابات كانت حمراء ...! أي أدى حدوثها إلى سقوط ضحايا وخسائر بشرية، باستثناء انقلاب 1968، إذ عُدَّ انقلابًا أبيض فلم يُقتل أو يُصب فيه أي أحد. وما بين انقلاب وانقلاب فأن انقلابات كثيرة أخرى جرى التخطيط والإعداد لها وبعضها نُفّذ، لكن في الأخير باءت جميعها بالفشل.
وبالعودة إلى هذه الانقلابات، نجد أن أغلب قادتها هم من الضباط الذين تأثّروا بسلوك ونهج جيوش عربية وأجنبية أو غُرّرَ بهم من أطراف سياسية للقيام بذلك، أو تولّدت لديهم الرغبة الجامحة في الانتقام والتشفي من أحداث سابقة أو حب السلطة. وكثير منهم كانت لهم جذور وارتباطات بأحزاب تقدّمية أو اشتراكية أو يسارية.
وفي حادثة غريبة، وربما لن يُكررها التأريخ، فثمّة ضابطاً عراقياً برتبة رئيس (نقيب) اسمه جمال جميل، كان قد أُتّهم بالمشاركة في اغتيال وزير الدفاع جعفر العسكري أثناء انقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، وحكم عليه بالإعدام لكن لم ينفّذ. وفي عام 1939، أُرسل إلى اليمن مع وفد من الضباط لتدريب الجيش اليماني، وفي عام 1943 عاد الوفد باستثناء ذلك الضابط الذي فضَّلَ البقاء فيها وتزوج من يمانية وعُيّن مستشارًا للجيش اليماني وحظي بثقة الملك الإمام يحيى. بدأت علاقاته تتوسع ونفوذه يزداد خاصة مع الضباط اليمانيين الذي تلقوا علومهم العسكرية في بغداد. في عام 1948، قادَ هذا الضابط، انقلابًا عسكريًا ضد حكم الإمام وقُتل الملك، وأصبح هو وزيرًا للدفاع وقائدًا عامًا للجيش اليماني، وبعد أشهر قليلة أستطاع ولي العهد الإمام أحمد من استعادة الحكم والقبض على جمال جميل، وحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم بقطع رأسه بالسيف أمام الملأ في ميدان شرارة (التحرير حاليًا)، فكان قَدَرَهُ أن ينجو من الإعدام في بغداد لينفّذ فيه في صنعاء.
ومهما كانت الأسباب الموجبة للقيام بأي انقلاب فأن القانون يعاقب عليه تحت بند (الخيانة العظمى) لأنَّ منفِّذه أساء استخدام منصبه وأخلَّ بالوضع الأمني، والأهم من ذلك حَنثَ باليمن التي أقسمها عليه يوم تخرجه من المؤسسة العسكرية التي تنص بشكل عام على ما يأتي:
﴿ أقسم بالله العظيم، وبكتابه الكريم، وبشرفي، ومعتقدي أن أحافظ على وحدة واستقلال العراق وأحمي أرضه وسماءه ومياهه وشعبه وثرواته ونظامه الملكي وأن أقوم بواجبي بكل أمانة وإخلاص خدمة للعراق وأن أكون مهنيّاً ومستقلاً بوظيفتي العسكرية والله على ما أقوله شهيد ﴾.
ولو سُئل هؤلاء القادة العسكر أو من ساندهم من مدنيين وعسكريين عما اقترفوه وفعلوه، فستكون إجابتهم واحدة: إنهم لم يتأمروا على الوطن... بل من أجل الوطن وحمايته وتخليصه من الاستعمار والفساد والمحسوبية والشعوبية وإرساء الديمقراطية... إلخ من كلمات ومصطلحات وشعارات عسليّة تنطلي فقط على البسطاء والسذّج من أبناء الشعب. وهم يعلمون جيدًا أن الديمقراطية لا يمكن تطبيقها بين ليلة وضحاها، فكما قال الكاتب الإيرلندي الساخر برناردشو: (الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل؛ لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصيرك...!)
لكن الحقيقة والواقع وحسب المفهوم العسكري والعقيدة العسكرية الخالصة فأن الضابط هو آخر موظف حكومي في الدولة له الحق في ممارسة السياسة والدخول في معتركها. فالسياسة شأنٌ متروك للسياسيين فهم أصحاب كل القرارات، ومنها قرار الحرب. وأن القوات المسلحة هي من تحمي نظام الحكم فيه، وتعمل بإمرة السياسيين المدنيين وتنفذ سياسات السلطة المدنية الحاكمة كما هو المفروض في جميع أنظمة الحكم الديمقراطية في العالم.
من بين كل الانقلابات التي جرت في العراق فأن انقلاب 14 تموز 1985، لا زال يثير إلى اليوم لغطًا كبيرًا ونقطة خلافية بين المؤرخين والباحثين والسياسيين، وجدلًا واسعًا بين صفوف الجماهير، المثقفين منهم والبسطاء، بين مؤيدٍ لها ولاعنٍ له. فمنهم من يعدُّه ثورة عملاقة أدّت إلى إقامة جمهورية خالدة على أرضه، ونقطة تحول في تاريخ العراق وبداية تحرره الفعلي من الهيمنة الاستعمارية البريطانية، بالرغم من الدماء التي سالت في ذلك اليوم وما بعدها. ومنهم من عدّها جريمة نكراء بحق الإنسانية وبنسل آل محمد، وغيّرت وجهة خارطة العراق السياسية، ولا زال العراق إلى اليوم يدفع ثمن ذلك الحدث الأليم.
المرحوم العقيد نعمان ماهر الكنعاني الضابط في تنظيم (الضباط الأحرار) والشاعر القدير، وبعد أن هرمهُ الدهر، استذكر عام 2007 (شهر تموز) وما جرى فيه من انقلابات وثورات في العراق وغير العراق من خلال قصيدة، فأنشد قائلًا ():
لُعنْتَ تمّوز شهرًا كلّهُ نكدُ | قتلٌ وشنقٌ وعصيانٌ وتخريبُ | |
ينسلُّ بين الشهور الطّيّبات كما | ينسلُّ بين الطِّلى والواحةِ الذّيبُ |
وعندما نحتكم إلى العقل الراجح ونضع كل الأمور في موازينها ونحلّل أحداث 14 تموز بهدوء، نسأل: ما تفسير أن يقوم حفنة من الأشخاص شاءت الأقدار الوظيفية أن يكون بيدهم سلاح حكومي ليقوموا بقلب نظام حكم مؤسساتي قائم منذ عقود، وقتل رموزه بدمٍ بارد وبرمشة عين وفرض إرادتهم وعقائدهم الجديدة...؟ ذلك الانقلاب المُستنسخ حرفيًا من انقلاب 23 تموز 1952 في مصر، مع الفارق في سيناريو التنفيذ والنتائج المتحقّقة...! لكنَّ العَسكر لم يتّعظوا من مرارة ما جرى في ذلك اليوم، ولم يتعلموا الدروس والعِبرّ، بل فَتحَت شهيتهم على مصراعيها لتكرار حظّهم في هذا المضمار والقيام بانقلابات أُخر مهما كانت النتائج ...!
يقول المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا: (عندما يريد المناضل ثمنًا مقابل نضاله، فإنه سيتحول إلى مرتزق) وهكذا هم كل القائمين في أي انقلاب؛ يعتبرون أنفسهم مناضلين في سبيل الوطن والشعب... وما أن ينجح أي انقلاب عسكري، سواء في العراق أو غيره من الدول، نجد أن قادة ذلك الانقلاب يتسلقون المناصب العليا ويجلسون على الكراسي الوثيرة ويلمّعون أنفسهم ويطلقون الوعود الوردية لشعوبهم ويطلقون على حركتهم بـ (الثورة المباركة) أو (ثورة لتحرير الشعب من الظلم والعبودية) أو (التغيّير) وغيرها من المصطلحات الثورية البرّاقة في عناوينها ويافطاتها، وتبدأ معها حملة إعلامية موالية لتجميل صورة هذه (الثورة) لتحريك عواطف الشعب وخاصة الطبقة الفقيرة أو المغلوب على أمرها والسّذّج منهم والغوغاء المندس بينهم، وحثّهم على القيام بمسيرات جماهيرية كبيرة وخُطب ثورية داعمة لهم وكأن الشعب هو من قام بهذه (الثورة) أو إنها جاءت لأجله وبدعم منه . وبمرور الأيام تبدأ الحكومة الانقلابية الجديدة بحملة تغيير وتسمية الشوارع والساحات والمرافق المهمة بأسماء رجالها وعناوينهم...! ومنها تبدأ مرحلة جديدة للنظام الجديد ما يلبث أن يتفرّد بها شخص واحد بالسلطة ويتمسك بمقاليد الحكم، ولا يفي بأي وعد من الوعود التي أطلقها أو تطبيق الشعارات التي رفعها، وبعدها يؤلّه إعلاميًا ويُعبَد جماهيريًا، فيصاب بداء العظمة أو جنون العظمة على أساس امتلاكه قابليات استثنائية وقدرات جبّارة أو مواهب مميّزة. أما البقية الباقية من المشاركين والمتعاونين في الحركة فتتلاشى سلطاتهم وأسماؤهم شيئًا فشيئًا، ويتهاوون الواحد تلو الآخر، تماشيًا مع المقولة المأثورة والشائعة: (الثورة تأكل أبناءها) ...! والتأريخ القديم والحديث في هذا العالم زاخر وشاهد بالكثير ممن انطبقت عليهم هذه المقولة.
وحتى حركة حزب البعث الثانية التي قامت في 17/7/1968، والتي سمّيت بـ (ثورة 17-30 تموز) أو (الثورة البيضاء) فإن ما حققته من إنجازات عظيمة ملموسة في العقد الأول من عمرها وتحديدًا حقبة السبعينيات إلا أنها لم ترتق إلى المفهوم الأيدلوجي للثورة والمعنى الحقيقي لها فقد ميّزت بوضوح بين المواطن الطبيعي والإنسان العادي من جهة، وبين المواطن المتحزّب أو المنتمي لحزب البعث سابقًا أو من انتمى له فيما بعد من جهة ثانية من حيث طموح المواطن وأحلامه في العيش بسلام وحرّية، وطلب العلم والعمل بمساواة والتقدّم والسمو في الحياة الوظيفية والعامة. فهذا طاهر توفيق العاني، القيادي الكبير في حزب البعث الذي عمِلَ سكرتيرًا لرئيس الجمهورية وعضوًا في مجلس قيادة الثورة وعضوًا في القيادة القطرية لحزب البعث ووزيرًا للصناعة ثمَّ محافظًا لمحافظة نينوى، يقول في مذكراته الشخصية التي كتبها بعد خروجه من سجون الاحتلال وهو بعيد عن أي ضغوط نفسية أو حزبية أو تأنيب للضمير: (لقد استلم حزب البعث السلطة في العراق وهو لم يزل في مرحلة الطفولة العقائدية)() وقال أيضاً (أراجع تاريخ العراق الحديث فأجد التدهور في كل شيء وأن كل ثورة تؤدي إلى تدهور إضافي سواء ما حدث عام 1963 أو 1968، واعتقد أن ذلك يعود إلى عدم وجود برنامج واضح لقادة الثورات، فهم يهتمّون بإزاحة النظام القائم ولكنهم لا يقدّمون بديلًا له)() لذلك فإن حركة 17 تموز على وفق أدبيات السياسة ومفاهيم السياسيين ، هي مجرد انقلاب ليس إلا...!
أما في حالة فشل أي انقلاب ولو بعد حين؛ فيُطلق على تلك الحركة بـ (المؤامرة الدنيئة) أو (الخيانة العظمى للوطن والشعب) أو (تمرد عسكري فاشل) ويساق قادتها إلى أعواد المشانق ودهاليز السجون المظلمة وتبدأ حفلات التعذيب ومن بعدها تصفية الحسابات مع كل المشاركين كبارهم وصغارهم والمؤيدين لها وحتى المتعاطفين أو القريبين لهم. وهكذا هم السياسيون وكما وصفهم الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل: (بأنهم كالقرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزرع، وإذا تصالحوا أكلوا المحصول، والمدن المحررة لم تَعدّ فيها محصول ...!)
وفي توصيفات القائمين على الانقلاب في كلتا الحالتين فأن من يُقتل جراء تلك الحركات -حسب موقف وطبيعة الحركة-يطلق عليه شهيدًا ويحتفى به وبدوره (النضالي) وتُصرف له كامل الحقوق للشهيد ويرمز لأسمه في عدّة أماكن وأحيانًا يصنع له نُصب كبير يوضع في إحدى الساحات العامة والمهمّة. وإذا حدث العكس فإنه يُلعن ويزال اسمه من كل موقع، وتقطع رواتبه ويصبح في ذمّة التأريخ، يهجوه من يهجوه ويُعظمه من يريد، وتاريخنا شاهد على كثير من هذه الحالات وإلى وقت قريب.
أحد الرجال المسنّين ممن عاصروا التاريخ يسخر بطرافة من هذه الانقلابات العسكرية في البلاد العربية عامةً والعراق على وجه الخصوص، فيقول:
لولا جمال لكنّا أجمل... ولولا عبد الكريم لكنّا في تكريم... ولولا عبد السلام لكنّا في سلام... ولولا صدّام لكنّا في وئام... ورحم الله فيصلنا الثاني الشريف الحَمَام...!
لكن التأريخ لابد وأن يشذَّ عن هذه المفاهيم والقواعد في حالات نادرة أو كما يقال: (لو خُليت ... قُلبت!). فالتاريخ القريب يذكّرنا بما قام به المشير عبد الرحمن سوار الذهب بعد انقلابه الأبيض في السودان عام 1985، ضد حكم الرئيس جعفر النميري، إذ تعهّد علنًا وأمام شعبه بتسليم السلطة لحكومة مدنيّة منتخبة من الشعب بعد عام واحد. وبالفعل وفي اليوم المحدد سلّم السلطة لحكومة جديدة انتخبت عبر صناديق الاقتراع برئاسة الصادق المهدي. ووصِف في حينها بأنه القائد العربي الوحيد الزاهد في السلطة وتنازل عنها طواعيةً وسلمياً.
أما الانقلاب الأغرب من بين كل هذه الانقلابات الستة والأقسى والأمر على الشعب العراقي وغير المألوف خلال قرن من الزمن هو الذي جرى عام 2003، عندما احتلت دولة عظمى دولة صغيرة من غير موافقة أُممية دولية، وخلعت رئيسه ونظامه وسحقت بنيته التحتية وحلّت مؤسساته الرسمية، وسرقت مقدّراته ونهبت ثرواته دون مسوّغ قانوني أو مادي ملموس، وجاءت بأشخاص على نفس شاكلتهم بل أقبح منهم كانوا في أحضانها يرضعون الذلّ والعبودية قبل ذلك التأريخ، وانهارت دولة كان اسمها العراق العظيم. ولا زال الشعب يئنُّ ويلعق مرارة الجراح وآلامه حتى اليوم. والتاريخ يشهد ونحن لا زلنا شهود أحياء، إن ما تعرض له العراق منذ عام 2003، وحتى الآن، لم تتعرض له أي دولة في العالم، لا في الماضي السحيق ولا في الحاضر القريب.
وحقيقٌ حين قال قائل:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟
لقد ظلَّ العراقُ ينزف دمًا منذ أن سجّل في تاريخه مذبحة قصر الرحاب البشعة، ثمَّ أُعدم الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه، وأُحرقت طائرة الرئيس عبد السلام عارف ووزرائه، فضلًا عن الغموض في وفاة الرئيس أحمد حسن البكر، والشكوك في مقتل وزير الدفاع عدنان خير الله، وأعدم الرئيس صدام حسين وعدد من رجال نظامه، وسيقتل من الآتي الكثير، حتى يضع مسؤولو العراق عقولهم في رؤوسهم، ويضع العراقيون حدًا لهذه المأساة.
أخيرًا فإن كل ما ذُكر أنفًا هو تعبير لوجهة نظر السارد كاتب هذه السطور، من خلال قراءته للتاريخ وتحليلاته الشخصية عما جرى للوطن والمواطن من أحداث أليمة على مدى قرن من الزمن، لذلك فأن الاختلاف مع من يخالفه من رأي وفكر لا يفسد للود قضية.
وخلاصة ما جاء به عن هذه الحركات والمناوئات والانقلابات ما هي إلا مؤامرات معدّة سلفًا، هي امتداد للمؤامرة الأكبر على العرب المتمثلة باتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، ومعاهدة لوزان. أما اختلاف التسميات والأوصاف والأفكار لمثل هكذا حركات فأسبابها سياسية أولًا، وعاطفية ثانيًا قبل أن يحكمها العقل والضمير. فأن من يأتي للحكم بالدّم وبطريقة غير دستورية وهو مغمور، لا يستطيع أن يحكم بالعدل ويفشي السلام وهو مشهور.
إن قانون السماء لن يغفر للقائمين على تلك الحركات سواء أنجحت وسادتّ، أم فشلت وبادتّ. وأيضًا سيُحاسب عليها قوانين الأرض ولو بعد حين، وسيلعنها التأريخ والشعوب جيلًا بعد جيل. والله أرحم الراحمين.
وصدق الشاعر حين قال:
وإذا بُليتَ بمنصبٍ فأعدل به | وأعلم بأنك بعدها معزول | |
✵ ✵ ✵
مُستل بتصرّف من كتاب (من ذاكرة الأيام والأزمان