أحمد الحمد.. عاشق مندلي الذي حملها في الغربة وعاد إليها شعرًا وتوثيقًا

شفق نيوز/ شاعر وأديب وصحفي كوردي فيلي، وُلد في مدينة مندلي فتعلق بها عشقًا وهيامًا، وتغنّى بشخوصها وأماكنها، وكتب عن ماضيها وحاضرها أشعارًا وبحوثًا ودراسات، عاصر عهدين، عاش سنينَ من الغربة بعيدًا عن وطنه، ثم عاد بعد طول غياب.
ناصر قضايا أمّته وأبناء شريحة الكورد الفيليين بهمّة الشباب وحيويتهم رغم بلوغه الثمانين من العمر، إنّه احمد الحمد المندلاوي الذي استضفناه في هذه المساحة لتسليط الضوء على محطاتٍ من حياته وأعماله واهتماماته.
من هو أحمد الحمد المندلاوي؟
ـ أنا أحمد الحمد رمضان المندلاوي، ولدتُ عام 1945م في مدينة مندلي بمحافظة ديالى، تخرجتُ في دار المعلمين في بعقوبة بتفوق عام 1965م، ثم مارست مهنة التعليم في مدارس مندلي. كنتُ من مؤسسي اتحاد معلمي كوردستان في قضاء مندلي عام 1970م.
أتقنتُ اللغات العربية والكوردية والفارسية والتركمانية. عشتُ لاجئًا في المهجر أكثر من 21 عامًا (من 2/10/1982م إلى 20/5/2003م). عملتُ في المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق منذ الأعوام الأولى لتأسيسه (عام 1986م)، وتوليتُ إدارته منذ عام 1998م وحتى سقوط النظام السابق عام 2003م.
خلال عملي في المركز الوثائقي، أصدرتُ أكثر من 130 إصدارًا وثائقيًا (طُبعت جميعها بالاستنساخ)، إلى جانب كتاباتي الصحفية والثقافية في صحف المعارضة العراقية وغيرها. كنتُ أحد مؤسسي منظمة الدفاع عن حقوق الكورد الفيليين التي أُنشئت في المهجر عام 1996م، وعضوًا في أسرة تحرير دوريتها المعروفة باسم (راسي - الحقيقة).
في الوطن، أسستُ مركز مندلي الحضاري للتوثيق والدراسات، ثم موسوعة مندلي الحضارية، كما عملتُ في مؤسسة شفق، وكنتُ من كتّاب جريدة التآخي، وتوليتُ مناصب أخرى في مجالات ثقافية مختلفة، منها رئاسة تحرير مجلة “التراث الفيلي” وإصدار مجلة “مرايا مندلي”، بالإضافة إلى عملي في قناة الإشراق الفضائية. حظيتُ بعدة شهادات فخرية وغيرها من التكريمات.
متى بدأت تمارس هواية الكتابة بأنواعها المختلفة؟ وهل لقيت التشجيع في بداياتك الأولى؟
ـ أحببتُ الكتابة منذ عام 1959م، بالتزامن مع ثورة عبد الكريم قاسم، وكنتُ آنذاك في الصف السادس الابتدائي. شجّعني والدي (رحمه الله)، فكتبتُ قصيدة بسيطة في مدح ثورة 14 تموز، اعتمدتُ فيها على كلماتٍ ذات قافية نونية (مثل زمان، سلطان...). وفي دار المعلمين، وجدتُ دعمًا من الدكتور محي هلال السرحان (مدرّس اللغة العربية)، فكتبتُ أول قصة قصيرة عام 1964م بعنوان “نجمة تائهة في كبد السماء”، وترجمتُها لاحقًا إلى اللغة الكوردية.
في عام 1969م، كتبتُ قصيدةً بمناسبة غزو الفضاء (ليلة 20/7/1969م) بعنوان “خواطر حول رحلة أبولو 11” وقُرئت في برنامج “الحقيبة الأدبية” في الإذاعة العراقية؛ تعدّ تلك القصيدة أول عمل شعري ناضج لي من حيث الوزن والقافية والمعنى. كما نظمتُ قصيدة باللغة الكوردية باللهجة المندلاوية (الفيلية) في مناسبة بيان 11 آذار 1970م، وقرأتها في احتفال جماهيري في “كبرات – مندلي”. ونشرتُ أول خبر صحفي عن احتفالات مندلي في جريدة التآخي عام 1970م، وهكذا بدأت مسيرتي الثقافية.
دخلتَ في مجالات عدة: التربية والتعليم، والأدب والشعر، والصحافة، ثم استقر بك المطاف في التوثيق. أين وجدتَ ضالتك بينها؟
ـ هوايتي الأولى هي نظم الشعر ودراسة علم العروض. في شبابي، كانت لي مجموعة شعرية بعنوان “تماثيل من حروف”، لكنها فُقدت مع الترحيل القسري. كتبتُ الشعر بنوعيه: القريض والحرّ الموزون، في شتى الأغراض، وألّفتُ أيضًا ديوانًا باللغة الكوردية بعنوان “رازفروش”.
مارستُ الصحافة كذلك، فنشرتُ تحقيقًا مصورًا عن مندلي عام 1967م تحت عنوان “مندلي بلد المليون نخلة” في صحيفة “صوت الشعب”، ثم في مجلة “الأجيال” وغيرها. وخلال وجودي في المهجر وفي إطار عملي في المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق، وبدافع حبي الشديد لمندلي، قررتُ إنشاء “موسوعة مندلي الحضارية” لتوثيق هذه المدينة العريقة من النواحي الاجتماعية والتاريخية والجغرافية كافة، وما زلت أعمل على هذا المشروع منذ أكثر من عشر سنوات.
هل ثمة فرق بين أحمد الحمد المندلاوي الأديب والصحفي، وبين أحمد الحمد المندلاوي في حياته اليومية وبين مجتمعه وأسرته؟
ـ في الواقع، أنا لا أحب ارتداء الأقنعة. لا أتقمّص شخصيةً مُحددة سواء كنت أديبًا أو شاعرًا أو مثقفًا. أعيش بإنسانيتي ذاتها في المجتمع وفي البيت مع الأولاد والأحفاد والجيران والشارع. أحب الجميع وأحب جمال الأخلاق الراقية وحامليها. وبالنسبة لأهل بيتي، أشجّعهم على مكارم الأخلاق والمطالعة، وحسن التعامل مع الآخرين، وحب الإنسانية.
الإنسان ابن بيئته، وارتباطه بها ليس أمرًا اختياريًا. ماذا تمثل لك مندلي؟ وهل ما حلّ بها سببه هويتها الكوردية الفيلية أم لأسباب أخرى؟
ـ يُثير هذا السؤال مشاعري عميقًا؛ فمندلي قضاءٌ جميلٌ يمتد عمره الحضاري لأكثر من سبعة آلاف عام، وقد برز في ربوعه علماءٌ أجلّاء ونوابغ في شتى مجالات المعرفة، من بينهم: اليمان البندنيجي، وعيسى البندنيجي، والقاضي الضرير نزيل مكة. ولهم آثارٌ أيضًا خارج القضاء، مثل تكية السيد علي البندنيجي وجامع حيدر خانة. وفي مندلي مواقع حضارية كقلعة “قلا سفي” (القلعة البيضاء)، و”جوخه مامي”، و”بالا جو” وغيرها.
تتسم مندلي بطبيعتها الساحرة، فهي غافية عند ظلّ “بيشت كو” وعلى ضفاف نهر “كنكير”، فضلًا عن مراقد الصالحين، وطيبة أهلها، وتنوعهم المجتمعي. كل هذا رسّخ فينا حبًّا لا حدود له تجاه هذه المدينة، التي كان يمر فيها يومًا طريق الحرير (برس بوليس).
تضم مندلي مزيجًا من القوميات والمذاهب: الكورد والعرب والتركمان، والمسلمين من الشيعة والسنة، إضافةً إلى العلي الإلهية (الكاكائية). أمّا ما حلّ بها من تهجير قسري إبّان النظام السابق في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا أبناء عشيرة قره لوس الكوردية كونهم كوردًا فيليين، واستملاك دور أهلها، فقد أفضى إلى الوضع المزري الذي تعانيه اليوم. وهي تحتاج إلى تكاتف الجهود وإخلاص النيّات لإعادة إعمارها وإحياء ماضيها العريق.
كثيرٌ من مجايليك صاروا شبه منسيّين بسبب عدم مواكبة التطورات المتسارعة في الإعلام والأدب بعد دخول التكنولوجيا الحديثة. ما سرُّ تواصلك مع روح العصر واستمرارك في الحضور ضمن ساحة صعبة المراس؟
ـ بلا مبالغة، بالنسبة لي؛ التوقف عن الكتابة والمطالعة والسعي نحو المعرفة هو الموت الحقيقي، وإن كنتُ على قيد الحياة. لذا، عقدتُ العزم على الاستمرار في طلب العلم والمعرفة ومواكبة التطورات التكنولوجية في جمع المصادر والكتب وإصدارها، على الرغم من الصعوبات أحيانًا. والحمد لله، مع مساعدة أبنائي وأحفادي وأصدقائي، تمكّنت من مواصلة هذا الطريق النبيل.
كم يبلغ عدد إصداراتك المطبوعة؟ وما طموحاتك ومشاريعك المستقبلية؟ ـ لديَّ ما يزيد على ثلاثين كراسًا مطبوعًا، بين الشعر والقصة والبحوث، باللغتين العربية والكوردية، صدر معظمها بعد عام 2003م. ومن أبرز مؤلفاتي:
ديوان شعري: تباريح ملونة (2013م)
موسوعة الأمثال الكوردية الفيلية (ألف مثل) – 2014م
البندنيجين: بناء وعطاء (مندلي) – 2017م
الشعر والشعراء في مندلي (الشعر الكوردي أنموذجًا) – 2024م
حلبجة ولوحات الأنين – 2017م
ديوان شعري باللغة الكوردية: راز فروش – 2023م
برقيات إلى الألفية الثالثة (شعر) – 2014م
سياحة في رياض مكارم الأخلاق – 2025م
طموحي الأكبر أن أُنجز “موسوعة مندلي الحضارية” في عشرة مجلدات أو أكثر، إضافةً إلى إنشاء مكتبة خاصة بمندلي.
كما أقول إنني عملتُ في إذاعة شفق التابعة لمؤسسة شفق للثقافة والإعلام للكورد الفيليين، وقدمتُ خلالها 140 حلقة عن الامثال الكوردية باللهجة الفيلية بين عامي 2006 و2007م، فضلًا عن قراءتي لقصائد تناولت محاكمة صدام حسين، وملحمة كربلاء، ومأساة حلبجة. وقد كانت مؤسسة شفق وما زالت صرحًا ثقافيًا رحبًا جمع المثقفين والأدباء تحت خيمته. أمّا اليوم، فلي جولات جميلة مع “شفق نيوز” التي أتابعها بأقسامها كافة، وأتمنى لها كل التوفيق والنجاح. وأدعو أصدقائي جميعًا إلى متابعة هذه الوكالة والإفادة من ينابيع معرفتها الصافية.