العراق في المقدمة.. "حرب المياه" تقرع طبولها بين دول الشرق الأوسط
شفق نيوز/ يصادف يوم 22 آذار/ مارس من كل عام، اليوم العالمي للمياه، الذي حددته الأمم المتحدة في العام 1992، يأتي ذلك بالتزامن مع التغير المناخي الذي يشهده الكوكب، فيما يشهد الشرق الأوسط خطراً حقيقياً يكاد أن يقرع طبول الحرب بين البلدان والتي يتصدرها العراق كأشد المتضررين جراء "حرب المياه" التي أعلنتها ضده دول المنبع منذ سنوات.
وبحسب موقع "الحرة"، فقد اختارت الأمم المتحدة موضوع يوم المياه العالمي لعام 2024، تحت عنوان "المياه من أجل السلام". وذلك على اعتبار أن "المياه قد ترسي السلام أو تشعل فتيل النزاع"، فعندما تكون المياه شحيحة أو ملوثة، أو عندما يفتقر الناس إلى الفرص المتكافئة للحصول على المياه أو تنعدم فرص حصولهم عليها، فإن التوترات قد تتصاعد بين المجتمعات والبلدان.
الأزمات الثلاث
وفي هذا السياق، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مرشحة لتكون من أكثر المناطق تأثراً وتضرّراً بالتغيّر المناخي حول العالم، والأكثر تأثراً بشح الموارد المائية الناجمة عنها، وهو ما بات أمراً واقعاً في العديد من دول هذه المنطقة.
ووفقاً لتقديرات سابقة لمعهد "واشنطن" لسياسة الشرق الأدنى، فإن الضغط على السكان، سينعكس على الحكومات، التي ستكون مجبرة على اتخاذ خيارات أكثر تشدداً وصرامة في مواجهة هذا التحدي الوجودي، وهو ما من شأنه أن ينعكس على سياساتها الداخلية والخارجية في الوقت ذاته، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة على الموارد المائية المشتركة بين الدول، والتي من المتوقع أن تكون السبب الرئيسي لقيام الصراعات والنزاعات في المنطقة، في حين أن مواقف الحكومات وتعاملها مع هذه القضايا يرفع من احتمال اندلاع "حروب المياه" في المستقبل القريب.
وفي هذا السياق، تبرز في الشرق الأوسط ثلاث أزمات مياه تعتبر الأكثر حساسية وإلحاحاً، لاسيما وأنها ترتبط بالأمن المائي لأكثر من نصف مليار إنسان موزَّعين على الدول المعنية بهذه الأزمات، وهي: أزمة مياه دجلة والفرات بين العراق وتركيا وإيران، وأزمة نهر النيل بين مصر والسودان وإثيوبيا، وأزمة المياه المشتركة بين الأردن وإسرائيل.
تاريخ العلاقات بين تلك الدول، والتي شهدت بمعظمها حروباً، والاختلافات العرقية والقومية، والخلافات السياسية، تنعكس بصورة مباشرة على ملف المياه المشتركة، لاسيما مع الاستخدام السياسي لورقة "الأمن المائي" في سياق الضغط والنفوذ. وهو ما يثير مخاوف من اتخاذ العلاقات بين تلك الدول اتجاهاً أكثر توتراً في المرحلة القادمة مع اشتداد حدة الأزمة المائية وازدياد الجفاف.
العراق وحرب المياه
وتزداد المخاوف في العراق، المُسمَّى تاريخياً "بلاد ما بين النهرين"، من خسارة الرافعة الحضارية الأساسية التي عاشت حول ضفافها الشعوب المتلاحقة على مدى آلاف السنوات، نهرا دجلة والفرات، اللذان يشهدان تراجعاً تاريخياً في منسوبهما لم يسجل من قبل، وذلك لعوامل عدة، بعضها مرتبط بالتغيير المناخي والبعض الآخر ناجم عن سياسات "دول المنبع"، أي تركيا وإيران.
وفي حزيران/ يونيو عام 2022، خرج نائب رئيس البرلمان العراقي، حاكم الزاملي، في مؤتمر صحفي، مهدداً الحكومتين التركية والإيرانية بإصدار قانون تجريم التعامل التجاري مع الدولتين، كرد على احتجاز البلدين لمياه الأنهار التي تنبع منها دون الوقوف عند حاجات العراق المائية.
وعلى الرغم من أن ذلك لم يحصل، إلا أنه كان مؤشراً على حجم الأزمة التي يعيشها العراق، والتي دفعته العام الماضي إلى تقليص قاس وكبير للمساحات الزراعية أفقد المحافظات معظم أنشطتها الزراعية في سبيل توفير المياه، الأمر الذي هدد بانهيار الأمن الغذائي للعراقيين، وفق ما أعلنت وزارة الزراعة العراقية حينها.
ويعود أصل الأزمة بين الدول الثلاث إلى منطلقات كل دولة في نظرتها للمياه المشتركة فيما بينهم، ففي حين تعرّف الأمم المتحدة الأنهار الدولية بأنها "المجاري المائية التي تقع أجزاء منها في دول مختلفة"، لا توافق كل من تركيا وإيران على إسقاط هذا التعريف على الأنهر المشتركة مع العراق، إذ لم يوقع أي من البلدين على اتفاقية الأمم المتحدة حول استخدام المجاري المائية للأنهار الدولية غير الملاحية لعام 1997، وهو ما يحلهما من الالتزام بالقانون الدولي في هذا الشأن.
ويعتمد أكثر من 3 مليار شخص في جميع أنحاء العالم على مياه تعبر الحدود الوطنية، بحسب الأمم المتحدة، ومع ذلك، فإن 24 بلداً فقط لديها اتفاقيات تعاون بشأن جميع مياهها المشتركة.
السياسة التركية
وتستند تركيا في تفسيرها لطبيعة نهري دجلة والفرات إلى نظرية قديمة تمنح الدولة السيادة المطلقة في التصرف بما يقع ضمن أراضيها، بما في ذلك مياه الأنهار، دون قيد أو شرط. وطبقا لذلك، فمن حقها إقامة ما تشاء من مشاريع للانتفاع بهذه المياه، وإحداث أي تغييرات، بما في ذلك تغيير مجرى النهر بصرف النظر عما يترتب عليه من أضرار بمصالح الدول الأخرى.
وعلى هذا الأساس، عمدت تركيا إلى إنشاء عدد كبير من السدود على مجاري نهري دجلة والفرات وروافدهما من أنهار صغيرة، وذلك ضمن "مشروع جنوب شرق الأناضول الكبير"، وهو عبارة عن خطة ضخمة تهدف لبناء 22 سداً و19 محطة لتوليد الطاقة، على مدى عقود عدة، لتوفير المياه اللازمة للري، وتوليد الكهرباء، في المنطقة الأقل نمواً في تركيا.
وهذه المشاريع قامت، وفق ما يقول العراق، على حساب حصته من مياه النهرين، بينما تعتبرها تركيا ضرورة في ظل تأثرها هي أيضاً بالتغير المناخي فيما يخص كمية المتساقطات من أمطار وثلوج وارتفاع في درجات الحرارة، جعلها تعاني بدورها "نقصاً في الموارد المائية".
وتنتقد تركيا سياسات العراق فيما يتعلق باستثمار المياه، حيث تعتبر أنه لا يستفيد بالقدر الكافي من المياه التي تصله عبر النهرين، وعليه ترى أن بإمكانه التخلي عن مياه الفرات والاكتفاء بمياه دجلة، وتدعو لإقامة سدود للاحتفاظ بالمياه، وتطوير طرق الري، معتبرة أنه لا فائدة من إطلاق مياه "ستنتهي بالمحصلة في الخليج دون الاستفادة منها".
إدارة ملف المياه
وفي هذا السياق يرى الصحفي العراقي المتخصص بالشؤون المناخية والقضايا البيئية، خالد سليمان، في حديث لموقع "الحرة" أن العراق لديه بالفعل مشكلة في الإدارة القديمة والتقليدية للمياه ومصادره وبناه التحتية والتلوث الناجم عن النشاط البشري، في حين أن التزايد السكاني الكبير في العراق يتسبب بمشكلة أيضاً في هذا الجانب مع تضاؤل الموارد الطبيعية.
ووفقاً للأمم المتحدة، فإن الطلب على المياه العذبة ينمو بمعدل 1% سنوياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي تسبّب بزيادة مستمرة في عدد الأقاليم المعرّضة للضغط والفقر المائيين، حيث يعيش في الوقت الراهن، نحو مليارَي إنسان في مناطق تعاني ضغطاً مائياً كبيراً، بينما يعيش نحو 4 مليارات إنسان في أقاليم تعاني ندرة مائية حادة خلال ما لا يقل عن 30 يوماً في السنة.
من جهته يلفت الناشط والخبير البيئي العراقي، جاسم الأسدي، إلى أن العراق يصرف ما بين 75 إلى 85% من مياهه على الزراعة، نتيجة اعتماده قنوات الري المفتوحة المعروفة بـ"الطريقة السومرية" للري، ما يجعل من استهلاكه للمياه "غير موزون". وعليه يجب على العراق أن يحل مشكلة الذهنية التبذيرية في المياه على الصعيد الحكومي وعلى الصعيد الفردي.
إلا أن ذلك لا يعني أن "المطالب التركية منطقية"، بحسب الخبراء، بالأخص فيما يتعلق من بناء سدود تمنع تدفق المياه إلى الخليج، الذي سيشكل مشكلة بيئية كبيرة مع امتداد "اللسان الملحي" من الخليج إلى الداخل العراقي في حال قطع جريان المياه العذبة، ما يهدد الجنوب العراقي وتربته.
ورغم التأثيرات الواضحة للتغير المناخي، يرى الأسدي في حديثه لموقع "الحرة" أنه ليس المسؤول الوحيد عن مشكلة العراق، مؤكداً أن العوامل الجيوسياسية في الدول المجاورة تلعب الدور الأكبر.
تفاهمات على الورق
وكان العراق أعلن، في أيلول/ سبتمبر عام 2021، عن وصوله إلى تفاهمات مهمة حول ملف المياه مع تركيا، عقب توقيع الحكومة التركية على مذكرة تفاهم أُعِدَّت عام 2009، تتضمن أطر عامة لتفاهمات في إدارة المياه بين البلدين، وشراكة تنفيذ مشاريع استثمارية داخل العراق، بما يحفظ حقوقه المائية، إلا أن ذلك سقط في السنوات اللاحقة التي شهد العراق فيها أقوى موجات جفاف عرفها تاريخه.
وعليه فإن الاتفاق الوحيد الذي يعتبر سارياً حتى اليوم هو ذلك الذي يجمع بين تركيا وسوريا منذ عام 1987، تعهدت بموجبه أنقرة أن توفر لدمشق معدلا سنويا من 500 متر مكعب في الثانية، بحيث تتقاسم سوريا والعراق بنتيجته تلك الكمية.
إلا أن كلا من العراق وسوريا تتهمان تركيا بعدم الالتزام بهذه الكمية التي تضاءلت في السنوات الماضية إلى أقل من النصف في فترات معينة، وكانت آثارها على نهر الفرات واضحة للعيان.
المشكلة مع إيران
وعلى الجانب الآخر تقطع إيران بشكل كامل روافد مهمة لنهر دجلة، مثل نهر الزاب، وروافد سد "دربندخان" وبحيرة حمري وبحيرة دوكان، ما أدى إلى أزمة كبيرة في حوض نهر ديالى حيث انخفض مستواه بنسبة 75%، فيما عانى شرق العراق وجنوبه من أزمة جفاف خانقة لاسيما عام 2021 وصيف عام 2023، حيث بلغت إطلاقات المياه من الجانب الإيراني صفرا، وفق تصريحات المسؤولين العراقيين.
وقصة المياه المشتركة بين العراق وإيران، تختلف عما هو سائد مع تركيا، إذ سبق للبلدين أن أبرما اتفاقاً عام 1975 لتقاسم المياه المشتركة تم بموجبه تقاسم مياه شط العرب، عرف بـ"اتفاقية الجزائر"، إلا أنه وبعد الحرب التي نشبت بين البلدين، انسحب الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، من الاتفاقية، عام 1980، واعتبر مياه شط العرب ملكاً كاملاً للعراق، وهو ما تبرر عبره إيران اليوم عدم التزامها بمنح العراق حصصه المائية.
وعلى الرغم من أن كمية المياه القادمة من إيران إلى العراق أقل بكثير من تلك التي تصل عبر تركيا، إلا أن الأزمة مع إيران أكثر تعقيداً بحسب سليمان، الذي يضيف أنه، "ومنذ عام 2017، يتحدث المسؤولون الإيرانيون بشكل واضح أنهم يعانون من مشكلة مياه، وأنهم سيمنعون الأنهار من الوصول إلى أي بلد آخر ومن بينهم العراق".
ويضيف في حديثه لموقع "الحرة" أن الموقف الإيراني أكثر تشدداً وضرراً على البيئة، "حتى أن المسؤولين الإيرانيين لا يستمعون لنظرائهم العراقيين عند الحديث عن هذا الأمر ولا يهتمون للمقترحات وفق ما ينقل لي مسؤولون عراقيون".
كل ذلك يضع العراق، الذي تعتبره الأمم المتحدة خامس أكثر الدول تأثراً بالتغير المناخي، في موقف حرج من عدم الاستقرار في أمنه المائي، والذي كان من بين الأسباب الرئيسية للاضطرابات الاجتماعية في جميع أنحاء البلاد منذ عام 2018.
ومع ذلك يبدو البلد بعيدا عن تحقيق أهدافه من خلال التفاوض مع تركيا وإيران، رغم المناشدات المتكررة التي يوجهها العراق للجانبين مع كل موجة جفاف أو حجب للمياه عن أراضيه.
"المياه المسلحة"
كل ذلك يطرح تساؤلات عما إذا كان التهديد الوجودي الذي تمثله أزمة المياه لنحو 40 مليون عراقي، ستؤثر على تعامل العراق الرسمي مع الملف وعلاقاته بدول الجوار، لتضفي توتراً متصاعداً قد يصل إلى أزمة كتلك التي لوَّح بها نائب رئيس البرلمان العراقي (قطع العلاقات التجارية)، وهو ما قد ينعكس كـ"تسليح" لملف المياه من الجانب المقابل للضغط على العراق.
ويؤكد الأسدي أن ملف المياه "مُسلَّح بالفعل"، مضيفاً أن المياه هي أداة جيوسياسية تستخدمها كل من إيران وتركيا بوضوح، "حتى مشاريع السدود هي مشاريع سياسية في الواقع".
ويعتبر الناشط البيئي العراقي أن الأصوات الداعية للمقاطعة التجارية ليست سوى "كلام شعبوي انتخابي لا معنى له، وغير منطقي"، فيما ليس أمام العراق سوى المزيد من المباحثات مع تركيا وإيران، فالعراق "لن يخسر شيئاً بالتفاوض وعلى ضوئها يتحدد الاتجاه وما تريده كل دولة من الأخرى، وهذه أمور يمكن مناقشتها مع دول جارة يجمع بينها ميزان تجاري مرتفع يصل إلى 14 مليار دولار مع تركيا ونحو 8 مليارات مع إيران وهذا بحد ذاته عامل مؤثر".
إلا أن سليمان يعبّر من جهته عن خشيته من أن الأمور "قد تأخرت عن الوصول كل تلك المدة إلى تفاهمات"، معتبراً أن ضغط أزمة التغير المناخي والشح قد يجعل كل طرف أكثر تشدداً في المفاوضات مما كان عليه في ظل وفرة المياه، مما قد يجعل أي اتفاق مقبل متأخراً، وقد يبقى العراق المتضرر الأكبر، على حد وصفه.
أما في حال فشل المفاوضات في الوصول إلى حلول عادلة، فلن يكون أمام العراق، بحسب سليمان، إلا اللجوء إلى المحاكم الدولية، "وهو خيار طرح من قبل في العراق، لكنه لم يصل إلى لاهاي بحكم التجاذب السياسي الداخلي، خاصة وأن الوصول إليه يعني حكماً مزيداً من التضرر في العلاقات بين هذه الدول قد تؤدي لأزمات سياسية وربما أمنية، ليست في مصلحة العراق بكونه بلد المصب".