العراق حاضر بقوة في نتائج الانتخابات اللبنانية: برلمان منقسم فكيف ستسير اللعبة السياسية؟
شفق نيوز/ على الدرب العراقية، هزت صناديق الاقتراع اللبنانية البنية الاساسية للتركيبة السياسية القائمة في البلد منذ ثلاثة عقود، إذ كسرت شبه الاحتكار السائد من جانب القوى والأحزاب التقليدية المهيمنة على البلاد، وفتحت الباب لمجموعة صغيرة ممن يسمون انفسهم بـ"الاصلاحيين" لدخول الحياة البرلمانية، من دون ان تتمكن أية قوة من فرض سيطرتها او غالبيتها التي تتيح لها قيادة البلاد في السنوات الأربع المقبلة.
النموذج العراقي
تبادر الى الاذهان بين اللبنانيين سريعا استحضار "النموذج العراقي" حيث تتصارع القوى السياسية، بلا طائل حتى الآن منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، من أجل تشكيل حكومة جديدة، وهي ظاهرة قابلة للتكرار بقوة في لبنان بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت الأحد الماضي.
وشكلت انتخابات الاحد "مفاجآت محدودة" عند كثيرين، بالنظر الى عدة عناصر مرتبطة بالنتائج والأرقام نفسها، وبالنظر الى خروج شخصيات بارزة من المشهد السياسي، وحدوث اختراقات من مرشحين مغمورين، في معاقل قوى تقليدية نافذة، لكنها على ما يبدو لم تحدث انقلابا حقيقيا في توازنات اللعبة السياسية اللبنانية المحكومة بعناصر مذهبية ودينية وبيوتات سياسية تقليدية وخيوط اقليمية، ما يثير مخاوف من دخول البلاد في مرحلة شلل سياسي، او "تقطيع الوقت" في أحسن الأحوال، خلال الشهور المقبلة.
انتخابات الاحتجاجات
وبالنسبة الى المراقبين، فإن الانتخابات كانت بمثابة أول اختبار حقيقي لجماعات معارضة والوجوه الشابة التي ظهرت من خلال حركة الاحتجاجات التي اندلعت في العام 2019، بالتزامن مع حركة احتجاج مشابهة في العراق، وطالبت برحيل الطبقة السياسية. ومثلما حققت هذه الوجوه، اختراقا في البرلمان العراقي، فانها في لبنان ايضا سجلت حضورا جديدا وملفتاً، بعد نيلهم 12 مقعدا، في البرلمان المؤلف من 128 مقعدا، وهناك من يقدر عددهم ب15.
وهذه النسبة، كما هو الحال في العراق، صغيرة وستكون قدرتها على إحداث تغيير في العمل البرلماني والسياسي محدودة جدا او في معالجة الازمات الكبرى التي تعصف بالبلد خاصة خلال العامين الماضيين، من الفساد وانهيار الليرة الى تراكم الديون وتصاعد معدلات الفقر إلى أكثر من 70%.
أما بالنسبة إلى النساء، كانت حصتهن 9 سيدات في "غابة من الرجال" في البرلمان الجديد، بزيادة ثلاثة مقاعد عن برلمان 2018، لكنها لا تزال نسبة مخجلة في الحياة اللبنانية التي تلعب فيها المرأة عموما دورا أساسيا في المجتمع.
وبلغت نسبة التصويت في الانتخابات 41.01%، وهو ما يشكل تراجعا وصل الى أكثر من 8% عن العام 2018، عندما سجلت وقتها 49.7%، وهي ظاهرة مشابهة لما جرى في العراق أيضا حيث بلغت نسبة التصويت في انتخابات اكتوبر الماضي 43% ما يشكل تراجعا أيضا عن انتخابات 2018 عندما سجلت 44%.
وبكل الأحوال، فان المفاجآت ظلت تتوالى حتى إعلان النتائج رسميا قبل ظهر الثلاثاء. فمثلا، برغم مسارعة حزب القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع، ما ان اغلقت صناديق الاقتراع ليل الاحد، الى الاعلان بانه أصبح الحزب المسيحي الاكبر في البلاد، الا ان امتلاكه ل20 مقعدا (كان لديه 14 مقعدا في انتخابات 2018)، لا يتيح له لا احتكار الساحة المسيحية ولا اللعبة البرلمانية، او الكلمة الفصل في اختيار رئيس الجمهورية المقبل في تشرين الاول/اكتوبر المقبل.
ومع توالى فرز الأصوات، تحول إعلان حزب القوات المتسرع إلى مادة للتندر على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة من جانب خصمه الرئيسي، أي حزب التيار الوطني الحر الذي يمثل رئيس الجمهورية ميشال عون، والذي جمع تدريجيا مع حلفائه من الأرمن من حزب الطاشناق، 21 مقعدا.
وبشكل مواز دفعت القراءة السريعة لنتائج الانتخابات اعتبار أنها "انتصار" واضح لخصوم إيران وحزب الله، فيما يشبه التمنيات، اذ تؤكد الأرقام خلاف ذلك. ومهما يكن، فإن الصورة العامة للبرلمان الجديد ستكون منقسمة
واكد مصدر مقرب من "حزب الله" لوكالة شفق نيوز ان أكبر نسبة أصوات في كل لبنان هي لرئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب عن حزب الله محمد رعد، وان هذه الكتلة حصلت على 15 مقعدا، وان حليفتها حركة أمل حصلت على 15 مقعدا.
وبرغم ذلك، فإن اي قوة برلمانية لم تفرض سيطرتها الوازنة على البرلمان الجديد، وكما هو متعارف عليه في الحياة السياسية في لبنان، تقتضي أعراف المحاصصة القائمة تولي مسيحي ماروني رئاسة الجمهورية، ومسلم سني رئاسة الحكومة، ومسلم شيعي رئاسة البرلمان، في حين يتقاسم المسلمون والمسيحيون مناصفة مقاعد البرلمان، والمواقع الحكومية الرئيسية.
سقط في فخ التسرع أيضا على ما يبدو السفير السعودي لدى بيروت وليد البخاري الذي ما ان صدرت النتائج الاولية التي اوحت بتقدم حزب القوات اللبنانية المقرب من السعودية، حتى غرد على "تويتر" بآية من القرآن الكريم تقول "يا أيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم".
ومعلوم ان حزب القوات اللبنانية نسج علاقات قوية مع السعودية خلال الاعوام الماضية، وتحول الى ما يشبه "رأس الحربة" ضد حزب الله، المقرب من ايران. ومعلوم ايضا ان السعودية خاضت حملة ابعاد زعيم تيار المستقبل من الحياة السياسية منذ استقالته مع اندلاع احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر، ثم أعلن فجأة اعتكافه عن العمل السياسي قبل نحو 5 شهور.
ثم قادت السعودية عبر سفيرها حملة لإقناع الناخبين السنة بالمشاركة في الاقتراع، من خلال دفع دار الإفتاء السنية الى حث الناس على المشاركة، برغم ان حزب تيار المستقبل، الذي ظل حليفا وثيقا للسعودية، خلال العقدين الماضيين، غائبا عن المشاركة في الانتخابات التزاما بقرار الحريري.
وفي تغريدة له على "تويتر" قال الحريري، رئيس الوزراء الاسبق، "انتهت الانتخابات ولبنان أمام منعطف جديد. الانتصار الحقيقي لدخول دم جديد الى الحياة السياسية. قرارنا بالانسحاب كان صائبا. هز هياكل الخلل السياسي وهو لا يعني التخلي عن مسؤولياتنا. سنبقى حيث نحن نحمل حلم رفيق الحريري ونفتح قلوبنا وبيوتنا للناس. نسأل الله أن يحمي لبنان".
وبالاضافة الى دعم حزب القوات اللبنانية، يقول مراقبون لوكالة شفق نيوز، ان السعودية دعمت أيضا "متمردين" على الحريري وتيار المستقبل، بينهم لائحة شكلها رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة لخوض المعركة في بيروت، لكنها لم تتمكن من الفوز بأي مقعد، ما شكل صفعة لجهود السعودية في هذا الإطار.
وبسبب موقف السعودية، فقد تشتت أصوات الناخبين السنة في مختلف المناطق، فيما تباينت مواقف "الحريريين" من مقاطعة الانتخابات بحسب المناطق التي ينتمون اليها. وعلى سبيل المثال، قال ناشط سياسي في منطقة البقاع الغربي، فان اصوات "حريرية" كثيرة نالها مرشح سني هو المتمول ياسين ياسين، بتوجيه من قيادات في تيار المستقبل، وذلك كعقاب للمرشح محمد القرعاوي المدعوم تقليديا من تيار المستقبل، لكنه "تمرد" على التيار، وخاض الانتخابات بتحريض من فريق السنيورة.
وبالاجمال، يمكن التقدير بأن هناك ما يشبه الانقسام العمودي بين جبهتين رئيسيتين في البرلمان، تضم حزب الله والتيار الوطني وحركة امل وتيار المردة وحركة المشاريع الاسلامية، وحلفائهم من "المستقلين" مثل حسن مراد وجميل السيد وجهاد الصمد، وجبهة مقابلة تضم حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب وبعض "المستقلين" او من "التغيريين"، في حين يراوح "الاشتراكيون" حزب وليد جنبلاط الشار الانتخابات تحت مسمى حزب اللقاء الديمقراطي (9 مقاعد) في موقع متبدل من القضايا المطروحة.
ورجحت مصادر عديدة تحدثت إليها وكالة شفق نيوز ان يسير لبنان على درب "النموذج العراقي" في المماطلة والتأخير في تشكيل الحكومة الجديدة، حيث لا زالت التجاذبات قائمة بين التحالف الثلاثي وبين قوى الإطار التنسيقي.
وقال الكاتب المحلل السياسي واصف عواضة "ليس في المجلس الجديد أكثرية نيابية مطلقة (يعني 65 نائبا وما فوق). صحيح أن لبنان محكوم منذ الطائف بالديمقراطية التوافقية نتيجة نظامه الطائفي البغيض، ولم تستخدم هذه الأكثرية نفوذها في تشكيل السلطة التنفيذية إلا نادرا، لكن التفاهم النيابي كان يفرض نفسه غالبا على ديناميكية السلطة التشريعية، إما بالفرض أو بالتعطيل أو بالتسويات. وأغلب الظن أن هذه الديناميكية سوف تتعرض لهزات غير محسوبة، بفعل حالة الموزاييك أو الفسيفساء التي نجمت عن هذه الانتخابات".
وبكل الاحوال، ذكرت جمعية "لادي" التي تراقب نزاهة الانتخابات، ان عملية الاقتراع شابتها مخالفات فاضحة حيث سجلت "تراخيا لوزارة الداخلية في تطبيق القانون فضلا عن الاعتداءات على المرشحين والناخبين والمندوبين".
وقالت مصدر في إحدى الماكينات الانتخابية لوكالة شفق نيوز ان عمليات شراء الأصوات كانت تجري في مختلف الدوائر، ساخرا من مفارقة ان النائب "المستقل" نعمة افرام فاز في الانتخابات، وان مديرا في حملته الانتخابية اعتقل عشية الانتخابات بشبهة تورطه في عمليات شراء اصوات.
في سياق مواز، تحدثت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية عن عملية شراء الأصوات بشكل علني، ووصل سعر الصوت الواحد مثلا في منطقة كسروان الى 800 دولار، مشيرة الى ان هذه الظاهرة تعود الى ثقافة مترسخة في البلد، وليس فقط بسبب الازمة الاقتصادية. وبحسب الصحيفة الفرنسية، فان القانون الانتخابي يساهم في تسهيل هذه الممارسات، حيث يضع سقفا مرتفعا للانفاق الانتخابي، بمبلغ يصل 326 الف دولار، في بلد بلغ يعاني من انهيار اقتصادي شامل.