سوريا: كيف يغذي إرث نظام البعث شكوك الأكراد بشأن الإدارة الجديدة؟
بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 تحرك الأكراد بسرعة لتعزيز وجودهم في المناطق الشمالية، حيث يقيم غالبيتهم، وأعطوا الأولوية لتشكيل وحدات قتالية خاصة بهم ولا سيما مع ظهور فصائل جهادية في مناطق مجاورة.
وعلى عكس درعا وحمص وبعض مناطق ريف دمشق، التي واجهت عنفاً شديداً، ظلت المناطق الكردية آمنة نسبياً. وكان هذا يرجع إلى حد كبير إلى اختيار الجماعات الكردية البقاء على الحياد في الصراع بين النظام والمعارضة المسلحة، مدفوعة بعدم الثقة العميق في فصائل المعارضة.
وفي مواجهة التهديدات المتزايدة من الفصائل الجهادية مثل جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام الآن) والجماعات المسلحة المدعومة من تركيا، حشد الأكراد بسرعة آلاف الشباب والفتيات في وحدات تدريبية للتصدي لهم. وأعلنوا تأسيس وحدات حماية الشعب (YPG) في عام 2012، والتي توسعت لاحقا لتشمل وحدات حماية المرأة (YPJ) حيث انضم المزيد من النساء إلى صفوفها.
إلا أن محنة الأكراد في سوريا ليست وليدة الحرب الأهلية، بل تعود إلى ستينيات القرن الماضي، عندما همش حزب البعث، الأكراد في محافظة الحسكة بشكل منهجي وجردهم من جنسيتهم وحقوقهم المدنية.
- ماهر الأسد: "حارس العائلة" و"جزّار درعا"، فمن هو؟
- "الأيام العشرة التي هزت الشرق الأوسط" – في الواشنطن بوست
- من هو بشار الأسد؟
"الإحصاء الأسود" عام 1962
أجرت حكومة البعث، عام 1962، إحصاءا استثنائيا في محافظة الحسكة التي كان غالبية سكانها من الأكراد في تلك الفترة.
ينعته الأكراد بـ "الإحصاء الأسود"، إذ جردت بموجبه الدولة، آلاف المواطنين الأكراد من جنسيتهم، بذريعة أنهم مهاجرون غير شرعيين قدموا من تركيا.
ويقول البروفسور مايكل غانتر، الذي نشر عدداً من الكتب حول الوضع الكردي، منها كتاب "من العدم: أكراد سوريا في السلام والحرب"، لبي بي سي عربي: "جرد 120 ألف مواطن كردي من الجنسية السورية (20% من الأكراد السوريين آنذاك)، وصدرت لهم بطاقات هوية حمراء تفيد بأنهم ليسوا مواطنين سوريين".
وبحلول عام 2010، وصل عددهم إلى 300 ألف مواطن، وحرموا على إثرها، هم وأبنائهم وأحفادهم من الحقوق التالية:
- السفر خارج البلاد أو الحصول على جواز سفر
- حق الترشح لأي منصب حكومي أوالتصويت في الانتخابات
- الزواج بشكل قانوني (كان زواجهم مدنياً فقط)
- امتلاك عقارات أو محال تجارية أو أراض زراعية مسجلة بأسمائهم
- منع الدراسة في الجامعات السورية أو العمل في القطاعات العامة
وكانت هناك فئتان من عديمي الجنسية: "أجنبي"، (وهو من لم يستطع إثبات الإقامة في سوريا قبل عام 1945 لكن كان بحوزته بعض الأوراق الثبوتية) و"مكتوم القيد" (وهو من لم يكن بحوزته أي مستندات شخصية على الإطلاق).
ويقول غانتر:" إن حرمان هؤلاء الأكراد من جنسيتهم السورية وإخضاعهم للعيش في فراغ قانوني كان له تأثير كبير على حقوقهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية في البلاد".
"أجنبي ومكتوم القيد"
ويقول جانو شاكر (50 عاماً) وهو كردي إيزيدي سوري، جُرّد من الجنسية السورية، لبي بي سي عربي: "تقع قريتنا على الحدود التركية-السورية في منطقة تربا سبيه (تل أبيض)، وهي امتداد لنصيبين التركية التي ظل فيها جزء من أقاربنا وإخوتنا بالدم بعد ترسيم الحدود واستقلال سوريا من الانتداب الفرنسي عام 1946"
ويتابع شاكر الذي يعيش في ألمانيا منذ عام 1997، : "كنت أصنف كأجنبي في بلدي، وحتى أن بعض أبناء قريتي الذين أدوا الخدمة العسكرية لسبع سنوات، كانوا كذلك، وكنا أفضل حالاً بقليل من مكتومي القيد، الذين لم يكن يحق لهم حتى الاستفادة من خدمات الصحة المجانية. كانت زوجتي من المكتومين أيضاً، كنا ندفع مبالغ كبيرة في العيادات مقابل الرعاية الصحية، التي كانت مجانية بالنسبة للسوريين".
كانت المجتمعات الريفية في تلك المناطق الحدودية، غير مدركة لأهمية ما يجري، كثير منهم لم يفهموا تداعيات سحب الجنسية على المدى البعيد، ولم يولوا للأمر أهمية، وبعد أن أدركوا ما حصل، كانت تسوية الوضع تتطلب أموالاً ضخمة للحصول على الجنسية، ولم يكن معظمهم قادرا على توفيره.
هذا ما حدث مع شاكر وغيره ممن حرموا من حقوقٍ، كالعمل في مؤسسات القطاع العام أو الدراسة أو شراء عقار، واستخدم كثير منهم أسماء أقاربهم من حاملي الجنسية السورية في شراء عقارات أو أراض زراعية.
ويشرح شاكر كيف كانت أبسط الأمور الحياتية تمثل تحدياً بالنسبة لهم، فعلى سبيل المثال، "لم يكن باستطاعتنا أنا وزوجتي وأطفالي النزول في غرفة واحدة في الفندق عند زيارة محافظة أخرى، لأن زواجنا لم يكن قانونياً بل مدنياً، وبالتالي لا شهادة زواج".
"الحزام العربي" في الجزيرة السورية
بعد تجريدهم من حق المواطنة، أقر حزب البعث في عام 1966، إعادة النظر في ملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية -التركية التي كانت تعود للأكراد، بامتداد 350 كم وبعمق 10-15 كم، وجعلها من أملاك الدولة، وتمكنت الحكومة السورية بموجب تلك التوصية، من الاستيلاء على مساحات شاسعة قدرت بـ 5250 كيلومتر مربع، أصبحت كلها أملاك الدولة.
ويشرح غانتر الحالة التي أصبح عليها المجردون من الجنسية: "كان الافتقار إلى الجنسية ووثائق الهوية يعني أن هؤلاء الأكراد، أصبحوا عمليا، غير موجودين. ونظراً للطريقة التعسفية التي حددت بها الحكومة السورية هذه الفئات، كان الأشقاء من الأسرة الواحدة والمولودين في نفس القرية السورية يصنفون بشكل مختلف".
ويضيف غانتر: " من الواضح أن هذا الوضع أسهم في مطالبة العديد من الأكراد السوريين بنوع من الإدارة الذاتية، لكن على الرغم من وجود بعض الانتقادات لتلك الممارسات من قبل بعض منظمات حقوق الإنسان والمراقبين الأكاديميين، إلا أن ردود الفعل الدولية ظلت ضئيلة".
تغيير ديموغرافي
كان هدف نظام البعث وعلى رأسه الأسد، من عملية "الحزام العربي" الذي طبق على طول الحدود السورية التركية، هو إضعاف الوجود الكردي في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية من ناحية، ومنع تأثرهم بثورات أشقائهم الأكراد بقيادة مصطفى برزاني، في العراق وغيرها من الحركات السياسية الكردية في تركيا أيضاً.
وبموجب خطة الحزام العربي - الذي نتج عنه مصادرة أراضيهم وممتلكاتهم - تم تهجيرهم من محافظة الحسكة نحو المناطق الداخلية، ليتم استبدالهم بـ 4000 أسرة عربية من "المغمورين"، وهم المواطنون العرب الذين غمر سد الفرات أراضيهم في محافظات حلب والرقة ودير الزور، وبعدها تم تغيير أسماء قرى وبلدات المناطق الكردية إلى أسماء عربية. وبذلك بلغت نسبة المواطنين العرب في الحسكة 6 في المئة من مجموع سكان المحافظة آنذاك، وحقق النظام هدفه في فصل الأكراد عن أشقائهم خلف الحدود، تماشياً مع الدراسة التي أجراها الملازم البعثي محمد طلب هلال في عام 1962.
ويخشى الأكراد في المناطق الحدودية مع تركيا، من تهجيرهم مجدداً، وخاصة أن مئات الآلاف من سكان مدينة عفرين نزحوا بالفعل عن مناطقهم بعد أن إطلاق تركيا عملية "غصن الزيتون"التي استولت من خلالها الفصائل المسلحة على مدينة عفرين وبلداتها وقراها.
وكررت تركيا مراراً اقتراحها، حول إنشاء "منطقة آمنة" بعمق 30 كيلومترا في شمال سوريا لتكون بمثابة حاجز بين حدودها والمناطق التي يسيطر عليها الأكراد، وتكون هذه المنطقة تحت سيطرة تركيا التي بحسب المسؤولين الأتراك، ستحمي الحدود الجنوبية الشرقية لبلادهم.
انتفاضة القامشلي - 2004
اندلعت المظاهرات الكردية في عام 2004 إثر اشتباكات في مباراة لكرة قدم أقيمت في 12 مارس/آذار في القامشلي بين فريق الفتوة، من دير الزور – ومعظم مشجعيه من العرب، وبين فريق الجهاد، الذي معظم مشجعيه من الأكراد. وسرعان ما بدأ مشجعو فريق الفتوة برفع صور صدام حسين وتمجيده، مما أدى إلى اشتباكات بين الطرفين.
دخلت على إثرها قوات الأمن إلى الملعب، وأطلقت الرصاص الحي باتجاه المتظاهرين الأكراد، أسفرت عن مقتل ستة أشخاص، وفقد ثلاثة آخرون حياتهم أثناء تزاحم الحشود أثناء محاولة الهروب من الملعب.
واشتد الغضب الكردي في اليوم التالي، عندما فتحت قوات الأمن النار مجدداً على موكب الجنازات التي أقيمت لقتلى الملعب، مما أدى إلى خروج الأكراد في مظاهرات في جميع مناطق الأكراد، كما حطموا تمثال الرئيس السابق حافظ الأسد، وأضرموا النيران بسيارات الشرطة ومكاتب حزب البعث وامتدت المظاهرات لتشمل حلب ودمشق وجامعتيها.
ووثقت منظمة هيومن رايتس ووتش إضافة إلى أحداث 2004، العديد من عمليات قمع واعتقال الأكراد في مناسبات عدة معظمها سلمية مثل عيد النوروز ومظاهرات سلمية تطالب بالحقوق الكردية أو حتى الاحتفال بيوم المرأة العالمي وعيد العمال.
حتى أن رجالات الدين والعلماء المسلمين الأكراد، لم يسلموا من النظام، ولعل أبرزهم الشيخ معشوق الخزنوي الذي اغتيل على يد النظام في عام 2005.
وكانت الأجهزة الأمنية توجه اتهامات للمعتقلين الأكراد من قبيل "إثارة الشغب" أو "الانتماء إلى منظمة غير مرخص لها".
ويقول حسين محمد، الذي كان يدرس في جامعة دمشق في عام 2004 لبي بي سي عربي: "خرجنا في احتجاجات في الجامعة، وتوجهنا نحو ساحة الأمويين ومنها إلى قصر الرئاسة القريب من الربوة، واشتبكنا مع قوات النظام والأمن التي فرقتنا بالعصي والقنابل المسيلة للدموع والحجارة، ثم لاحقتنا من أجل اعتقال جميع الطلاب الأكراد على بوابات الجامعة وفقاً لأسمائهم ومكان ولادتهم على الهوية الشخصية".
ويضيف: "ثورتنا بدأت في عام 2004 وحتى قبل ذلك، وليس في عام 2011، ونحن أول من تجرأ وواجه النظام السوري من أجل المطالبة بالحرية والمساواة، لكن لم نلقَ صدى لمطالبنا بل التهديد والسجن".
والآن، بعد معاناة دامت خمسين عاماً، سقط نظام الأسد، لكن لم تتلاش مخاوف الأكراد بشأن مستقبلهم في سوريا الجديدة، على الرغم من تطمينات أحمد الشرع للمجتمع الكردي بشأن مكانته في مستقبل سوريا. حيث صرح بأن الأكراد "جزء من الوطن وشركاء في سوريا المستقبلية"، مقترحاً نهجاً شاملاً للوحدة الوطنية، ورافضاً لنظام الإدارة الذاتية التي يعمل بها الأكراد في شمال شرق سوريا ويقترحون العمل بها في سوريا الجديدة.
وأخيراً، من المرجح أن يستمر الصراع في شمال شرقي سوريا، ما لم تبين الإدارة المؤقتة نواياها تجاه المسألة الكردية، وقد تحقق الدعوة إلى نظام لامركزي شامل مساراً للمصالحة، لكن تحقيق ذلك يتطلب التغلب على تحديات محلية وإقليمية كبيرة للغاية.