بين فقه المقاومة الاقتصادية لدى الخامنئي والدبلوماسية الاقتصادية لدى رئيسي
شوان زنكَنة
تولّى إبراهيم رئيسي رئاسة البلاد بتاريخ 5/8/2021 في ظلّ حصار أمريكي متشدّد، لم تستطع محادثات فيينا فكَّهُ، أو إنهاءَه، بسبب انعدام الثقة بين الطرفين، لذلك تبنّتْ حكومة رئيسي فقه الخامنئي في المقاومة الاقتصادية، من خلال سياستها الخارجية القائمة على الدبلوماسية الاقتصادية.
ولتشكيل فَهمٍ سليم وواقعي عن وضعية الاقتصاد الإيراني اليوم، لا بدّ من إلقاء الضوء على مفهومي: فقه المقاومة الاقتصادية، والدبلوماسية الاقتصادية.
أمّا المقاومة الاقتصادية، فهي مفهوم أطلقه الخامنئي كأحد الأسس العشرة التي شكلت فقه المستقبل لديه، وكنتُ قد كتبتُ في ذلك مقالا خاصا، ويتلخص هذا المفهوم في أن هذا الحصار سيطول، وأنه لا بدّ من مقاومته، وعدم تبرير ضعف الاقتصاد بحجة هذا الحصار، بل يجب السعي بجدّ لتأسيس اقتصاد غير ريعي، لا يعتمد على النفط، وتنويع الموارد، وترشيد الإنفاق، والتخفيف من وطأة الفساد الإداري والاقتصادي، ودعم التكنلوجيا، وتعزيز دور القطاع الخاص.
وأمّا الدبلوماسية الاقتصادية، فهي مفهوم جديد تبنّتْه حكومةُ رئيسي، كسياسة قائمة على فقه المقاومة الاقتصادية لدى الخامنئي، وتعني: تخفيف التوترات مع دول الجوار، وبناء علاقات سياسية واقتصادية جديدة، وإبرام اتفاقات إستراتيجية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وتشويق المغتربين من الإيرانيين على استثمار أموالهم في إيران، ودعم الإنتاج غير النفطي، وتسهيل تصديره، وتحيّن الفرص والإمكانات والوسائل الدبلوماسية لتصدير أكبر قدر ممكن من النفط.
على مدى العقود الأربعة التي تلت الثورة عام 1979، بذلت كافة الحكومات الإيرانية المتعاقبة جهودا مضنية لإيجاد الحلول والسبل اللازمة لإنعاش اقتصاد البلاد الرازح تحت الحروب والضغوط والعقوبات، لكن هذه الجهود لم تُجْدِ نفعا في إنعاشه، بل تراجعت حصة إيران في الاقتصاد العالمي إلى النصف على مدار الأربعين عامًا السابقة.
وأضاف الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في عام 2018م عبءً آخر أثقلَ كاهلَ الاقتصاد الإيراني، فبدا وكأنه القشة التي قصمت ظهر البعير، وتسبب في المزيد من التقهقر الاقتصادي، حيث سُجّل خلال هذه الفترة أعلى نسب للتضخم والبطالة وتَدنٍّ في قيمة العملة الوطنية.
وحينما فاز إبراهيم رئيسي بالرئاسة، وشكّل حكومته، تبنّى ما جرى وصفه ب "الدبلوماسية الاقتصادية" كاستراتيجية جديدة لتجاوز الأزمة الاقتصادية في البلاد وتعزيز مكانتها في السوق العالمية، بالتوازي مع فقه المقاومة الاقتصادية لدى الخامنئي، وأكد رئيسي في تصريحاته أن هذه الرؤية ستكون أساس الحكومة الثالثة عشر، وعلى ذلك ستبذل كافة جهودها لتعزيز مكانة البلاد الاقتصادية على مستوى العالم والمنطقة.
لكن عقباتً عديدة ستواجه رؤية حكومة رئيسي هذه، وستقف حجر عثرة تعرقل نجاحها وتحقيقها، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:
1- أن الاقتصادَ الإيراني اقتصادٌ ريعي يعتمد في الأساس على الواردات النفطية، وأن الحكومات المتعاقبة في إيران فشلت في إخراج البلاد من هذه الطبيعة الأحادية في الاعتماد على مبيعات النفط، على الرغم من أن اعتماد الحكومة على النفط قد انخفض من 90٪ إلى60%، إلا أن هذا الانخفاض لا يزال غير قادر على تلبية متطلبات فقه المقاومة الاقتصادية.
2- وعد إبراهيم رئيسي أثناء تشكيل حكومته بدعم القطاع الخاص وإعطائه حيّزًا أكبر في الاقتصاد الإيراني، وحسب مقتضيات فقه المقاومة الاقتصادية للخامنئي، وذلك لأهمية هذا القطاع في دفع الاقتصاد، ولكن يظهر أنه تم استبعاد هذا القطاع بعد سيطرة الحكومة ومؤسساتها على الاقتصاد حيث أصبح 80% من المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية تحت سلطة وإدارة الحرس الثوري، وبالتالي أصبحت معظم الواردات والصادرات في أيدي المؤسسات الحكومية.
3- رفع ميزانية الحرس الثوري في الموازنة العامة لسنة 2022م القادمة إلى حوالي 22 مليار دولار، بعد أن كانت حوالي 10 مليارات دولار العام الماضي، وهي ميزانية عسكرية لا تمتُّ للاقتصاد بصلةٍ.
4- الحصار الاقتصادي الأمريكي على إيران، يُعيقُ التنمية الوطنية بشكل ملحوظ، ويتسبب في رفع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، وانكماش مطّرد في سعر العملة المحلية.. فهل يتمكن رئيسي من الخروج باتفاق يحقق مصالح إيران في محادثات فيينا؟
5- الواردات المالية من مبيعات النفط مقيّدة بالحصار الأمريكي، ومعظمها تأتي من المبيعات غير الرسمية من خلال خرق الحصار.. فهل تتمكن حكومة رئيسي من توفير موارد مالية كافية تتلافى العجز في الموازنة؟
6- التوترات السياسية التي تمر بها إيران في المنطقة مع تشكيل الحكومة تحول دون تحقيق مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية التي يؤمن بها رئيسي، على الرغم من التقارب الظاهري مع بعض الدول كالسعودية ودولة الأمارات والباكستان.
7- الخروج المستمر لرؤوس الأموال الإيرانية في السنوات الأخيرة، ففي خلال السنوات الـ 16 الماضية، خرج من إيران ما يقارب 171 مليار دولار من رؤوس الأموال للاستثمار وشراء البيوت في الدول المجاورة مثل تركيا وجورجيا والإمارات على إثر العقوبات الاقتصادية والتوترات في البلاد، حسب بيانات البنك المركزي الإيراني، فهل سيتمكن رئيسي من تحويل مسار رؤوس الأموال هذه إلى داخل إيران؟
ومع كلِّ هذه العقبات وغيرها، فإنني أعتقد أن رئيسي سيبذل قصارى جهده لتجاوزها والدفع بالاقتصاد إلى النمو والازدهار، ولكن، إلى إي حدّ؟ وإلى أين؟
فقد شهد الاقتصاد الإيراني تحسّنًا ملحوظًا في النصف الثاني من سنة 2021 بحيث خرج من الركود بشكل ملحوظ واتّجه نحو التعافي، حسب بيانات البنك المركزي، وذلك جراءَ الخطوات التي اتّخذتها حكومة رئيسي في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع بعض الدول، إلى جانب انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي، وزيادة مبيعات النفط في ظل العودة للمفاوضات النووية.
ولكن يبدو أن حكومة رئيسي لا زالت حتى اللحظة غير قادرة على إيجاد بدائل اقتصادية واضحة يمكن أن تخفف من وطأة العقوبات الاقتصادية، وذلك بسبب عدم ركون الرؤية الحكومية الخاصة بالدبلوماسية الاقتصادية وفقه المقاومة الاقتصادية إلى برنامج أو مشروع اقتصادي واضح المعالم، وأنها ليست إلا شعارات تحدي للعقوبات الأمريكية تستهدف الاستهلاك المحلي.. إذ يمكن ملاحظة ذلك بكل وضوح من خلال ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وانهيار أسعار صرف العملة الإيرانية أمام الدولار الأميركي.
وعلى الرغم من أن رئيسي يعتبر الاتجاه إلى الدول العربية والإقليمية من أولويات حكومته الجديدة بدلاً من الاتجاه نحو الغرب، وهذا ما تعكسه المحادثات السعودية الإيرانية واحتمالية التقارب مع دول عربية أخرى مثل مصر، إلا أنني اعتقد أن عامل الثقة هو المحك في هذا التوجه من رئيسي، كي يؤتي أُكُلَهُ اقتصاديًّا.
وفي مباحثات فيينا، يعتمد رئيسي وفريقه التفاوضي على مبدأ "رفع العقوبات مقابل الالتزام بالاتفاق النووي"، وهذا يعكس حاجة الحكومة الإيرانية الماسّة إلى تحرير الاقتصاد من ربقة الحصار، وبغضّ النظر عن الموقف الأمريكي من هذا المبدأ، إلا أنني أعتقد أن المشكلة الأساسية هي عدم وجود الثقة بين الطرفين، كما أنني اعتقد أن الحرس الثوري لا يميل إلى إبرام أي اتفاق مع أمريكا حول الأنشطة النووية، في مقابل السعي الأمريكي الحثيث الذي يحمل في ثناياه شيئا من التنازل، لإبرام نفس الاتفاق المبرم في 2015م.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن إيران لازالت مدرجة في القائمة السوداء من قبل مجموعة العمل المالي (FATF)، وهذا يعني فشل ألية إينستكس الموضوعة لدعم وتسهيل التبادل التجاري بين إيران والدول الأوروبية، وخروجها من هذه القائمة يعتمد على نتائج مباحثات فيينا.
وختامًا، فأن نجاح رؤية "فقه المقاومة الاقتصادية والدبلوماسية الاقتصادية" سيلعب دورا كبيرا بتحسين صورة حكومة رئيسي في الداخل الايراني، وهذا يعني تزايد فرص هيمنة الحرس الثوري والتيار المحافظ على الحياة الاقتصادية الإيرانية، كما أن نجاحها يعني تزايد حُظْوَةُ رئيسي لدى المرشد الأعلى الخامنئي.
فهل سينجح رئيسي في ترسيخ أقدامه في الحكم من خلال نجاح رؤيته وتحقيق نهضة اقتصادية غير مسبوقة؟