بايدن أم ترامب: ذعر الخفافيش العمياء
كرم نعمة
مع دخول حاكم فلوريدا، رون ديسانتس مرشح غير محتمل لمنافسة دونالد ترامب “ومع ذلك، يحاول ديسانتس في كل الأحوال”، فأن معادلة بايدن أم ترامب، لن تتغير كثيرًا، وأن الولايات المتحدة المريضة سياسيًا، على الأقل في نظر راسمي السياسات الاستراتيجية الغربية، لن تبدو عليها عوارض الشفاء، هناك الكثير مما ينتظر العالم من ذعر أيًا كان الفائز منهما.
المرض الأمريكي لم يقترن بحقبة ترامب ولم تظهر أعراضه الواضحة في سنوات جو بايدن المستمرة، بل هو من شروط التاريخ على دولة عظمى كالولايات المتحدة. تلك الفرضيات التي بدأ يرسمها عالم متغير من الاتحاد الأوروبي حتى روسيا والصين.
وكثيرا ما يقال إن السياسة الأمريكية في قبضة قوى الظلام التي يغذيها التلاعب السياسي والتكنولوجيا العملاقة حيث إن المعلومات المضللة تقوض الديمقراطية.
فإذا كانت سنوات ترامب في البيت الأبيض هزت الولايات المتحدة بطريقة غير مسبوقة، وجعلت العالم يتأمل وهن الديمقراطية، فأن ما ينتظر العالم بما سيحصل في الولايات المتحدة مع الانتخابات الرئاسية العام المقبل، يمكن أن يكون أحد أنواع الذعر السياسي. فترامب هو “أحد أعراض الاضطرابات الأمريكية وليست سببا له” كما كتبت جيليان تيت في صحيفة فايننشال تايمز.
أو كما استعاد الكاتب فريد كابلان ما سمي بالسياسة الواقعية التي تزعمها كيسنجر والتي خلت من مركز أخلاقي. وبعد سنوات عديدة، لا تزال الولايات المتحدة متضررة بسبب الفراغ الذي خلَّفه اختفاء القيم من السياسات الخارجية الواقعية التي انتهجها كيسنجر؛ بل ولا تزال السياسات الواقعية ذاتها متضررة هي أيضًا.
بينما بدت الصورة أكثر قتامة عند مرشح الرئاسة الآخر رجل الأعمال الأمريكي من أصل هندي فيفيك راماسوامي، عندما شبه الأمريكيين بمجموعة من الخفافيش العمياء، ولم يعد بمقدورهم رؤية مواطئ أقدامهم.
فسر لنا هذا الذعر باحثان على درجة من الموضوعية، وهما جوش كيربل والليفتنانت كولونيل جيك سوتيرياديس، بتسمية أنيقة عن القليل الذي تبقى لدى واشنطن من الاستراتيجية، وفي مقال ملفت في مجلة “ناشيونال انتريست”.
كيربل عضو هيئة التدريس البحثية بجامعة الاستخبارات وهي الذراع الأكاديمي لمكتب مدير الاستخبارات الأمريكي، أما سوتيرياديس، فهو حاصل على الدكتوراة وكان أساسًا ضابط استخبارات في السلاح الجوي الأمريكي، وهو حاليا ضمن أعضاء هيئة التدريس بجامعة الاستخبارات، ومدير مركز الاستخبارات المستقبلية.
وضعنا هذان الباحثان أمام “الصبر الاستراتيجي” الذي بدأ يوشك على النفاد بالقول “إذا كنت تنتظر قهوتك الصباحية في مقهى بالبنتاغون، فقد لا تدرك أنك محاط بما قد يكون أعلى كثافة للاستراتيجيين في العالم. وفي كل عام، وبدون فشل، يكمل الآلاف من العسكريين من المستوى المتوسط والكبار وكذلك نظرائهم المدنيين شكلاً من أشكال التعليم المهني الذي يعدهم ليكونوا استراتيجيين أو يؤكد على التفكير الاستراتيجي”.
ثم يتساءلان “لكن ما هو العائد الحقيقي لكل الأموال التي تنفقها الحكومة الأمريكية على التعليم الاستراتيجي بخلاف كل تلك الشهادات الفاخرة على جدران المكاتب في واشنطن العاصمة؟”.
ويجيبا بالقول: إن نظرة سريعة على العقدين الأخيرين من الاستراتيجية العالمية الأمريكية بعد الفشل في العراق والهزيمة في أفغانستان، وذرائع التبرير المستمر في أوكرانيا، يبدو أن التعليم الاستراتيجي ربما أصبح طقسًا من طقوس الاجتياز بدلاً من أن يكون شيئًا يتم وضعه موضع التنفيذ.
واستعانا هنا بما كتبه على نحو شهير المؤرخ العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز “الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى”. ولكن يبدو أن عقدين من الاستراتيجيين الأمريكيين قد نسوا “أو ما هو أسوأ من ذلك، لم يستوعبوا حقاً” تحذير كلاوزفيتز بأنه يجب على السياسيين والقادة العسكريين أن “يدركوا نوع الحرب التي يخوضونها ولا يخطئون فيها ولا يحاولون تحويلها إلى شيء لا يمكن أن يكون، بسبب طبيعة الظروف”.
ومن المؤكد أن السجل الحافل من أفغانستان إلى العراق وأوكرانيا ترك الكثير مما هو مرغوب فيه للباحثين عن تشخيص أعراض المرض الأمريكي، والمنتظر أن يشتد أكثر سواء عاد بايدن أو عاد ترامب مرة أخرى للبيت الأبيض، في كل الأحوال لا نهمل هنا محاولات ديسانتس.
حسنا، هناك ذعر من سنوات بايدن، وفي حقيقة الأمر، الذعر نفسه مرتبط بأقوى دولة في العالم سياسيًا واقتصاديًا، عندما تضل الطريق إلى المستقبل، بينما تطاردها دول أخرى بقوة وسرعة.
فبايدن استبق دخوله إلى البيت الأبيض عام 2021 برفع شعار “أمريكا عادت لقيادة العالم” لكن الواضح الآن أن محاولاته بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قد فشلت.
آخر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث أشار إلى أن 56 بالمائة من الأمريكيين يعتقدون حاليا أن الولايات المتحدة لا تستطيع حل مشاكلها بنفسها، وأظهر أحدث استطلاع مشترك أجرته شبكة “أي بي سي نيوز” وصحيفة واشنطن بوست اعتقاد 63 بالمائة من الأمريكيين أن بايدن لم يكن لديه الحدة الذهنية للخدمة بشكل فعال. بينما قال 43 بالمائة الشيء نفس عن دونالد ترامب.
دع عنك أعمار بايدن وترامب، مع أن سن المرشح وكفاءته هما دائمًا لعبة ناجحة في السياسة. هناك ما يمكن أن يسمى بالعمر التاريخي للقوة السياسية، وتلك التي بدأت تهرم، ليس لضعفها السياسي فقط، بل لأن هناك ما يتوفر من العمل لكسر غطرستها من قبل دول أخرى.
كم مرة انكسرت الغطرسة الأمريكية خلال العقدين الأخرين، وكم تحتاج أوروبا مثلا للخروج من ظل سياسة الخضوع القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، أم هي خرجت بالفعل من فكرة الولاء المطلق للسياسات الأمريكية؟
دعونا نعود هنا الى أحاديث السياسيين الألمان، وما لا يتوقف عن إطلاقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أوروبا موحدة قوية في مواجهة أمريكا وروسيا والصين.
إذا كان التلاعب السياسي والتواطؤ الإعلامي، قد غذى على مدار عقود طريقة النظرة غير الصحيحة التي لا تٌقدر قوة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية، فأن هناك، اليوم، من يعرض علينا من داخل الولايات المتحدة نفسها ما يجعل العالم ينظر لها بغير رهبة القوة التاريخية، قد لا يمثل ذلك مرض بايدن وشيخوخته، أو تهور ترامب، بقدر ما كشف لنا جانبًا بسيطًا منه الباحثان الأمنيان المذكوران في مستهل المقال.