القضاء والتاريخ
القاضي عبد الستار البيرقدار
العلاقة بين التاريخ والقضاء ودورهما في تطور الحضارات، من خلال تناول القضايا الاجتماعية دراسة وتنظيراً وبحثاً عن الحلول تساعد على تطوير القواعد القانونية من جهة، والبناء التاريخي للمجتمعات من جهة أخرى.
حيث ينهض القضاء بدور مهم في بناء المجتمعات، باعتباره الأداة الأساسية المساهمة في تطبيق القانون وتنظيم المجتمعات والمحافظة على كينونتها واستمراريتها، ما يعني أن القضاء يعمل بشكل كبير على حفظ التوازنات المجتمعية، ومعالجة القضايا الشائكة بين المكونات الاجتماعية، ولعل هذا ما يحتم معرفة المجتمعات، والخصوصيات المميزة لها، والتحولات الطارئة عليها، من خلال معرفة عاداتها وتقاليدها، حتى لا يقع نوع من الاصطدام بين المكونات المعرفية القانونية والوقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لها، ولعل هذا ما يسهم في دراسة ومعرفة تاريخ هذه المكونات، وسياق تشكيل العادات والتقاليد والخصوصيات المميزة لها.
الدراسة الكاملة للقانون تتطلب معرفة أولية بالتاريخ باعتباره يمثل مرجعا للأعمال، والمهام والواجبات، والقواعد القانونية القديمة التي كانت تنفذ وتتبع سابقا، وقد نحتاج في كثير من الدراسات والأبحاث إلى الرجوع إلى الآليات والطرق التي كانت تنفذ من قبل الأسلاف لأن القضاء ليس خليقة أو إبداع يوم، وإنما سنين وحقب سابقة واكبتها أجيال، وخضعت لها ضمن مفهوم قانوني وقواعد ثابتة، وفي تلك الحقب كانت تطبق وتعدل بناء على معطيات ومخرجات طارئة، فيكون المفهوم الحقيقي للقانون عبر نافذة التاريخ والحقب الزمنية، التي تتطلب المعرفة بها بصورة دقيقة، ومشاهدة التطورات التي طرأت على تلك الحقب من حيث المحتوى، والمضمون والمعيارية والكفاءة والتغيرات والتعديلات المتكررة، والرؤى المنهجية، وفي النهاية أخذ فكرة عامة ومحاولة اتخاذ القرار… لأن الثقافة العامة في دراسة القانون تعني الاطلاع والمواصلة في كافة الحقب التاريخية.
وهنا تبرز نقطة التقاء القاضي بالمؤرخ، هذا الأخير الذي يسهم في تفسير ومعرفة الحاضر والواقع من خلال دراسة الماضي وملاحظة التحولات التي يعرفها المجتمع حتى يتمكن من فهم حقيقة الحاضر، ما يساعده على استشراف المستقبل، وبذلك يكون التقاء المؤرخ ورجل القضاء في رؤية علمية فكرية تهدف إلى بناء المجتمعات، والمحافظة على سيرها العادي سواء من خلال الدراسة والتحليل والتنظير والتطبيق، مما جعل التاريخ والقضاء يشكلان مساران ملتقيان على مستوى التشكيل والدراسة والممارسة، من خلال اعتماد أحدهما على الأخر لتحقيق التكامل الهادف إلى البناء، وتحقيق الأهداف المتوخاة.