الاقتصاد التركي بين منظور الحكومة ومنظور السوق
شوان زنكَنة
تعرّضَ الاقتصادُ التركي، حاله حال الاقتصادات العالمية إلى جملة مشاكل متناقضة ومتداخلة، نجَمتْ عن جائحة كورونا، وعن الطبيعة الموروثَة للاقتصاد التركي، وأساليب الحكومات التركية المتعاقِبة في التعامل معه.
وأهمُّ العوامل والمؤشرات التي تؤثّر في الاقتصاد التركي هو: التضخّم (مؤشر أسعار المستهلك)، وسعر الفائدة، والبطالة، والنمو في الناتج المحلي الإجمالي، وسعر الصرف، والموازنة العامة، والميزان التجاري، وذهنية الحاكم، والمحكوم.. وسنتكلم عن هذه المؤشرات بإيجاز قبل أن نخوض في أصل الموضوع، وهو تباين المنظورين: منظور الحكومة، ومنظور القطاع الخاص بشأن الاقتصاد التركي، ومعالجة أزماته.
أما التضخّم: فهو مُتلازِمَةُ الاقتصادِ التركي منذ العهد العثماني ولغاية اليوم، فأسعار السلع في ارتفاع مستمر، بسبب ارتفاع كُلَفِ الإنتاج وتزايد الطلب والانكماش المزمِن الحاصل في سعر الليرة التركية تجاه العملات الصعبة، وقد بلغ التضخّم (مؤشر أسعار المستهلك) في 2021م، 19.58% بالمقياس السنوي حسب مؤسسة الإحصاء التركي، و44.7% بالمقياس السنوي حسب مجموعة ENAGRUP"" وهي مؤسسة خاصة غير حكومية، تعني بدراسة أسعار السلع في الأسواق التركية.. ويُعَدُّ ارتفاعُ كلَف الإنتاج، وزيادةُ الطلب على السلع والخدمات والطاقة، بعد التعافي الحذِر من جائحة كورونا، وارتفاعُ مؤشر الدولار فوق 94% في سلة العملات الستّة، وبالتالي انخفاض سعر صرف الليرة التركية تجاه الدولار، من العوامل الأساسية التي رفعت نسبةَ التضخّم في تركيا لهذا العام.
وأما سعر الفائدة: فهو أساسُ التمويل في تركيا، وأداةٌ من أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي، التي بها يتحكم البنك المركزي في حجم تداول النقد والسيطرة على الكتلة النقدية، وتوجيهها للانفتاح أو الانكماش، وكانت نسبة الفائدة قد بلغت 19% هذا العام، إلا أن البنك المركزي، وبتوجيه مباشر من رئيس الجمهورية، قد ذهب الأسبوع الماضي إلى تخفيضها نقطة واحدة، فأصبحت 18%، ورافقت ذلك التخفيضَ تداعياتٌ اقتصادية سيئة أفقدت العملة المحلية بعضًا من قدرتها الشرائية، متراجعة أمام العملات الأجنبية.
أما البطالة: فهي مشكلة عالمية، زادتْ جائحة كورونا من وطأتها، ولم تتمَّ معالجتها عالميا لحد الآن، رغم التعافي الذي أصاب العديد من بلدان العالم، وتبلغ نسبة البطالة السنوية المخمَّنة لعام 2021م في تركيا 12.1%، ورغم ارتفاع نسبة البطالة هذه، فإنه هناك فرص عمل متعدّدة يعزفُ الشباب التركي عنها لأسباب متعدّدة، منها ضعف الأجور والرواتب، لهذا يتمُّ إشغال هذه الوظائف من قبل الأجانب.
أما نمو الناتج المحلي الاجمالي: فقد ورد في "برنامج الأجل المتوسط" الذي أعدَّته وزارة المالية التركية، أن الناتج المحلي الإجمالي (غير الصافي) المتوقع لعام 2021م يبلغ 801 مليار دولار، وأن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي المخمَّنة تبلغ 9%، وهذا نمو جيد، ناتج عن زيادة الصادرات، وتعافي قطاع الخدمات الذي ساهم بقدر ملموس في الناتج المحلي، وخاصة في مجال السياحة، وزيادة في استهلاك الأسر بعد الجائحة، وسيبلغ دخل الفرد من الناتج المحلي، حسب برنامج متوسط الأجل، 9489 دولار، كما وتوقع البرنامج ان يكون سعر صرف الدولار حوالي 8.8 ليرة مع نهاية 2021م.
أما سعر الصرف: فهو المرض المزمِن الذي يُلاحق الاقتصاد التركي منذ تأسيس الجمهورية عام 1923م، وذلك بسبب العديد من الأزمات الاقتصادية التي مرّت على تركيا، تعرّضت الليرة التركية على أَثرِها للعديد من الانكماشات وفقْدِ القدرة الشرائية، وكان أبرزها ذلك الانكماش الذي حصل عام 1958م، إذ انخفضت الليرة التركية تجاه الدولار من 2.8 ليرة إلى 9 ليرة في ليلة واحدة.. ثم استمرّ مسلسل الانكماش حتى استَتبَّ الحكمُ لحزب العدالة والتنمية عام 2002م، حيث استعادت الليرة عافيتها وتحسّنت بشكل ملموس، إلا أن انقلاب 15 تموز عام 2016م، ومضاربات بعض البنوك البريطانية عام 2018م، وجائحة كورونا، إضافة إلى أسباب سياسية وإدارية أخرى، كل ذلك، أعاد الليرة التركية إلى سابق عهدها، هشّةً تَترنّح أمام الأزمات، ويبدو أن البنية التحتية الاقتصادية التي دشّنتْها حكومةُ أردوغان لم تكن بالمتانة المطلوبة، أو الكافية لتجاوز الأزمات.
أما الموازنة العامة: فالإنفاق الحكومي فاقَ مواردَ الدولة في معظم الموازنات الحكومية العامة منذ تأسيس الجمهورية، وبالتالي عانَت الموازنات من عجز ملموس، ويأتي سوء إدارة الموارد وعدم ترشيد الإنفاق، والأزمات الاقتصادية والسياسية الخارجية، والفساد الإداري، على رأس الأسباب المؤدّية إلى عجز الموازنات المذكورة.. ولكن، بعد عام 2002م، وفي ظل حكومة أردوغان، تعافت الموازنة العامة وتحولت إلى البيانات الموجبة وإعطاء الفوائض، فأقفَلتِ الموازنات في السنين الأولى من حكومة أردوغان عن فوائض ملموسة، مما دفعتها إلى تبنّي مشاريع استثمارية عملاقة، وخطط تنمية وطنية واسعة، إلا أن الانقلاب العسكري، ومضاربات العملة، وجائحة كورونا، مع أسباب أخرى، تسببت في انخفاض احتياطيات البنك المركزي، وظهور عجز في الموازنات العامة.. وتتوقع الحكومة عجزا في الموازنة العامة مقداره حوالي 245 مليار ليرة مع نهاية هذا العام، كما تتوقع عجزا في موازنة 2022م مقداره حوالي 278 مليار ليرة، وسيتم سدُّ العجز بأدوات السياسة المالية التقليدية، كالضرائب، والدّين، وطبع العملة، وهي تلك الأدوات التي تُفضي عادةً إلى التضخّم.
أما الميزان التجاري: فعلى الرغم من أن تركيا دولة منتِجَة، إلا أنها لم تتَّجِه بقوة إلى التصدير إلا في عهد الرئيس تورغوت أوزال، ومن بعده في ظلِّ إدارة الرئيس أردوغان، ولو علمنا أن التصدير من أهمِّ وسائل الحصول على العملات الصعبة، الضرورية لاستقرار سعر صرف الليرة، وتخفيض نسبة التضخّم، فلا بدَّ إذن من أن يكون الميزان التجاري فائضًا، بمعنى: أن يكون حجم التصدير أكبر من حجم الاستيراد، ومن أجل ذلك، تسعى حكومة أردوغان إلى دعم الإنتاج والتصدير، من خلال جملة حوافز اقتصادية، وإجراءات إدارية، وذلك لتخفيف العجز في الميزان التجاري الذي يعاني منه ،الاقتصاد التركي، إذ تتوقع وزارة المالية التركية عجزا في الميزان التجاري لهذا العام مقداره حوالي 47 مليار دولار، كما وتتوقع عجزا في الميزان التجاري للعام القادم مقداره حوالي 52 مليار دولار.
أما ذِهنِيَّةُ الحاكم والمحكوم: فهي أهم مشكلة يعاني منها الاقتصاد التركي، فالإدارة الحاكمة تدير البلاد بالإرث الثقافي الموروث، الذي يَعتَبِرُ الفوائدَ من الربا المحرم، وأنها سبب الأزمات العالمية، وأن أرباح البنوك فاحشة، لذلك، فهي تعتقد أنه يجب تخفيض أسعار الفوائد لكي ينخفض التضخّم ويستقرَّ الاقتصاد، كما أن الإدارة الحاكمة تسعى إلى تعزيز وضعها الانتخابي أثناءَ تَبنّيها طرقَ المعالجة الاقتصادية، وأنها تفرض إرادتها، وبهذه الذهنية الموروثة، والحرص الانتخابي، على الاقتصاد وقواعده وأصوله وآلياته، فتقوم بِلَيِّ عنُق الاقتصاد كي ينسجم مع ذهنيّتها الموروثَة هذه، إضافة إلى أن إجراءات الدعم والحوافز التي تقدّمها هذه الإدارة الحاكمة تكون -عادةً- نظريةً وبعيدةً عن واقع السوق، بل وفي كثير من الأحيان لا تقوم الإدارة باستشارة السوق وأصحاب العمل فيما تتّخذه من قرارات بشأن دعمهم.
أما ذهنيّة المحكوم، فهي في العموم، ليست أفضل من ذهنية الحاكم، إذ تعوَّدَتْ على نمَطٍ محدودٍ من التفكير، فهي تبحث عن الربح السريع، ولا تُتعِبُ نفسَها في تصنيع سلعة ذات قيمة تقنية مضافة، أو تسجيل ماركةٍ قَيِّمَةٍ، أو ترشيد في الإنفاق لتقليل الكلفة، هذا إضافة إلى أنها تَتحيَّنُ الفُرصَ لاستغلال الدعم الحكومي وحوافزها لأغراضها الشخصية، ولا تتعاون من أجل تحقيق هذا الدعم أهدافه المنشودة.. وبالتالي، فهناك هُوَّةٌ واسعةٌ بين الحاكم والمحكوم في المجالات الاقتصادية، مما يجعل التعاونَ اللازم للتنمية ضعيفًا وغير مؤثّر.. كما أن ذهنيّة المحكوم قد جُبِلَتْ، عبر الزمن، على بحثِه الدائم عن الملاذِ الآمن، فهي مَجبولَة منذ تأسيس الجمهورية، وبسبب كثرة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي أضعفت القدرة الشرائية لليرة التركية، على صرف عملتها المحلية إلى العملات الصعبة والذهب، أو إيداعها في البنوك بفوائد.
واليوم.. تشير المؤشرات الاقتصادية التركية إلى : نسبة تضخّم مقدارها 19.58%، حسب بيانات مؤسسة الإحصاء التركي، وسعر فائدة مقداره 18%، ونسبة بطالة مقدارها 12.1%، ونمو للناتج المحلي الإجمالي السنوي مقداره 9%، وسعر صرف بلغ 9.26 ليرة للدولار الواحد، وعجز في الموازنة العامة مقداره 245 مليار ليرة، وعجز في الميزان التجاري مقداره 47 مليار دولار، هذا إضافة إلى أن الاحتياطي المركزي غير الصافي يبلغ حوالي 123 مليار دولار ( منه احتياطي ذهب بما يعادل حوالي 40 مليار دولار)، وأن صافي الاحتياطي (بعد طرح الاحتياطي الالزامي للبنوك والسواب مع الدول والديون يبلغ حوالي سالب -40 مليار دولار.
في ظلِّ هذه المؤشرات يتصارع منظور السوق للاقتصاد ومعالجة أزماته مع المنظور الحكومي، ولفهم أبعاد هذا الصراع، لا بدّ من بيان تفاصيل المنظورين، وطرق معالجتهما للأزمة الاقتصادية التركية الراهنة.
أولا: المنظور الحكومي
يعتقدُ الرئيس أردوغان وإدارته الاقتصادية أن التضخّم الحاصل في تركيا مُؤقّتٌ، ناجم عن زيادة الطلب بعد الجائحة، وانكسار سلاسل الإمدادات، وأنه سوف يعود للانخفاض بعد استقرار الإمداد وتوازنه مع الطلب، وأنه وإدارته يُركّزون في معالجتهم للمشكلة الاقتصادية على رفع مستوى النمو، وذلك بدعم الإنتاج من خلال الحوافز، ورفع حجم التصدير من خلال التسهيلات التمويلية، وجذب الاستثمار الأجنبي من خلال الدعم والتشجيع، جنبًا إلى جنبٍ مع تخفيض نسبة الفائدة، لتوفير السيولة اللازمة لتحريك الركود و الاستمرار في تشغيل المؤسسات، ورفع حجم التوظيف وتخفيض نسبة البطالة، كما ويقوم الرئيس أردوغان وإدارته الاقتصادية بالضغط على التضخّم من خلال مراقبة سوق التجزئة، والسيطرة على الأسعار ومنع ارتفاعها المفرط من جهة، واستخدام الاحتياطي المركزي في توفير العملة الصعبة في الأسواق، وحماية الليرة التركية من جهة أخرى.. وبمعنى آخر: يُركّز المنظور الحكومي على النمو، وخفض نسبة الفائدة، والسماح للتضخّم وسعر الصرف بالارتفاع، واعتبار ذلك مؤقّت، يتمّ السيطرة عليه خلال فترة زمنية محدّدة، من خلال الأدوات النقدية والمالية للحكومة.
يعاني هذا المنظور من عدة أعطاب نوجزها بالآتي:
1- التضخّم، وكما أصبح معلومًا لدى الأسواق العالمية، ليس مؤقّتًا، بل سيستمر لفترات أطول مما يتصوره أردوغان وإدارته.
2- التضخّم في تركيا غير ناجم عن زيادة الطلب فحسب، وإنما هو ناجم -في الأساس- عن زيادة كلَف الإنتاج، وارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية، الأمر الذي يتسبَّبُ برفع أسعار المواد الخام، والأموال الوسيطة، والأموال الاستثمارية المستوردة.
3- تخفيض نسبة الفائدة، يؤدي حتمًا إلى رفع سعر صرف الدولار والذهب، لأن الإيداعات بالليرة التركية في البنوك ستنسحب وتتوجه نحو العملات الصعبة والذهب بسبب انخفاض قيمة العوائد، وما يدّعِيه محافظ البنك المركزي من عدم وجود علاقة بين خفض نسبة الفائدة وارتفاع سعر الدولار غير واقعي وغير منطقي وغير اقتصادي.، كما أن تخفيض سعر الفائدة، وتوفير السيولة في الأسواق يؤدي حتمًا إلى ارتفاع مستوى التضخّم، لذلك عمَدت معظم الدول المتقدمة والنامية إلى رفع سعر الفائدة، وذلك لتقليص حجم الكتلة النقدية في السوق، وبالتالي تخفيض مستوى التضخّم.. عليه، فخفض سعر الفائدة من قبل البنك المركزي إلى 18%، بل وإلى أقلَّ من ذلك خلال هذا الشهر أو الشهر المقبل، سيؤدّي قطعًا إلى رفع سعر الدولار إلى حاجز العشر ليرات لكل دولار. وتعتقد السوق التركية أن هذا التخفيض سياسي وليس اقتصادي.
4- مراقبة مراكز بيع التجزئة، والتدخل في أسعار السلع فيها، ليس بالحلِّ الأمثل لكبح جِماح التضخّم، بل يجب على الحكومة، متابعة الأسعار من مرحلة الإنتاج ولغاية وصولها إلى المستهلك، وتقديم الدعم اللازم لتقليل الكلَف وخفض مستوى التضخّم.
هذا باختصار بيانٌ للمنظور الحكومي ومبرّراته.
ثانيا: منظور السوق:
ترى الأسواقُ المالية التركية أن الإجراءات الحكومية بتخفيض سعر الفائدة، وترك التضخّم وسعر صرف الدولار للارتفاع، ليست صائبة، وستؤدّي إلى المزيد من الفقر.. وأنها توصي بدلا عنها، برفع سعر الفائدة، واتخاذ إجراءات خفض كلَف الإنتاج، وتشجيع أنتاج السلع الوسيطة محليا، وخفض الجمارك على المواد الخام والأموال الوسيطة والأموال الاستثمارية المستوردة، وخفض الضرائب، وغيرها من الإجراءات الكفيلة بكبح جِماح التضخّم،
وتعتقدُ الأسواق أن التضخّم ليس مؤقّتًا، وأنه ليس بسبب الطلب فحسب، وإنما التضخّم الأكبر ناجم عن ارتفاع كلَف الإنتاج وارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة التركية، كما وتعتقدُ الأسواق أن الإجراءات الحكومية هي إجراءات سياسية وليست اقتصادية، الهدف منها هو الحفاظ على نسبة معقولة من النمو، وتخفيض نسبة البطالة إلى قرب حاجز 10%، وزيادة حجم التصدير، بُغية خلق أجواء اقتصادية إيجابية والدخول في ظلِّها للانتخابات القادمة.
وتَعتبِرُ الأسواق أن العجز في الموازنة العامة أحد أسباب التضخّم، بسبب اللجوء إلى السيولة في معالجة العجز، وهذا يؤثّر سلبًا في التضخّم، لذلك توصي الأسواق بترشيد الإنفاق الحكومي، الخارجي والداخلي، والتخفيف من حدّة التوترات السياسية الداخلية والخارجية.
والخلاصة، أن المنظورين يتوافقان في بعض الجوانب ويتقاطعان في جوانب أخرى، فالنمو والتوظيف وزيادة حجم التصدير، هي الجوانب التي اتفق فيها كلا المنظورين، أما التضخّم وسعر الصرف والفائدة والموازنة العامة، فهي الجوانب المتعارِضة والمتضادة بالنسبة للطرفين.
حكومة الرئيس أردوغان رجَّحت المنظورَ الأول، فوضعت خطَطها، واتّخذت إجراءاتها، لمعالجة الأزمة الاقتصادية التركية ونقلها إلى بَرّ الأمان.