الأزمة بين روسيا وأوكرانيا.. سيناريوهات متعددة واتجاهات جديدة قد تسيطر على الأسواق
ما بين الماضي والحاضر، يعود الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى الواجهة من جديد بعد سنوات من الغياب منذ قيام روسيا عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم ومحاولاتها المستمرة لوقف توسع قوات حلف شمال الأطلسي شرقا لما يشكله هذا الأمر من تهديد للنظام الروسي بحسب ما تراه روسيا.
أزمة تاريخية ليست بالجديدة:
روسيا ولسنوات طويلة تمتد لما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر عام 1991، كانت ترى خطراً على أمنها من تزايد قوة حلف الناتو وتسلحه وامتداد الدول المشاركة به نحو الشرق وهو ما تعتبره خطراً يهدد أمنها بشكل كبير.
وفي الوقت الذي ترتبط روسيا بروابط قوية اجتماعياً مع جارتها أوكرانيا التي كانت عضواً في الاتحاد السوفيتي حتى تفككه وتتشارك مع روسيا بروابط اجتماعية وثقافية قوية، إلا أن قيام الأوكرانيون عام 2014 بعزل الرئيس الأوكراني عام 2014 غير الكثير من الموازين السياسية في روسيا، وبدأ القلق يكبر من مخاطر انضمام أوكرانيا لقوات حلف شمال الأطلسي المعروفة باسم الناتو والذي قد يفتح الباب على مصراعيه لتزايد احتمال تراجع القوة الروسية والأمان الروسي، ولذا خاضت روسيا العديد من المفاوضات والمحاولات الدوبلوماسية لمنع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وطالب الرئيس الروسي بضمانات من الناتو بعدم انضمام أوكرانيا ولكن الناتو كان يحمل رياحا معاكسة لمثل هذا القرار برفض عدد كبير من الأعضاء أن تكون أيديهم مقيدة سواء في الحاضر أو المستقبل، وهنا بدأت العاصفة من جديد.
تجدد الأزمة:
صور من الأقمار الصناعية أظهرت تعزيزات قوية من روسيا على الحدود الأوكرانية ولتنطلق معها موجة من التحذيرات بمخاطر اجتياح روسي لأوكرانيا. حكومات عدة حذرت رعاياها ومن ثم طلبت منهم مغادرة أوكرانيا، وأجهزة استخبارية حذرت بأن الهجوم الروسي وشيك للغاية ويمكن أن يحدث في أي وقت. ورغم نفي روسيا نيتها اجتياح أوكرانيا، إلا أن دولا عدة وعلى رأسها الولايات المتحدة رأت أن الهجوم مخطط له وينتظر ساعة الصفر.
وبينما لا تزال أروقة السياسة تعج باللقاءات والاتصالات بين الرئيس الروسي ورؤساء دول أخرى من بينها الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها ومحادثات بين مسؤولين روس ومسؤولين من دول أخرى، تجاهلت الأسواق لفترة إمكانية الاجتياح، ولكن ومع التحول في اللهجة من قبل الحكومة الامريكية والطلب من رعاياها مغادرة أوكرانيا، بدأ التوتر الجيوسياسي يأخذ ثقله في أروقة الاقتصاد وأسواق المال بشكل كبير وخاصة في الأسواق التي ترتبط بشكل مباشر بكل من روسيا وأوكرانيا مثل أسواق النفط والغاز الطبيعي والحبوب والاسمدة.
تطورات خطيرة:
لكن، أروقة السياسة لم تتمكن من منع روسيا من القيام بخطوات تصعيد، لتنتقل الأزمة إلى مستويات جديدة بعد إعلان الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين اعترافه باستقلال إقليمي لوغانسك ودونيستك كجمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا، الأمر الذي دفع بالغرب والولايات المتحدة للإعلان عن فرض عقوبات على روسيا.
بالطبع كانت هذه العقوبات أقل مما توقعته الأسواق ولكنها كانت كافية لاطلاق العنان لكل من النفط وأسواق الحبوب والمواد الغذائية للارتفاع بقوة.
انعكاسات الأزمة على الأسواق المالية:
وشهدنا خام برنت يقترب من مستويات لم يصلها منذ عام 2014 وليحاول اختبار مستوى 100 دولار للبرميل في حين ارتفعت أسعار القمح إلى مستويات هي الأعلى منذ نوفمبر العام الماضي. في الوقت نفسه شهدت أسواق الأسهم عاصفة قوية من عمليات البيع المكثفة لتهبط مؤشرات الأسهم بقوة مع توجه المستثمرين نحو النفور من المخاطرة والبحث عن الملاذات الآمنة بعيدا عن الأصول عالية المخاطر، الأمر الذي دفع بأسعار الملاذ الآمن التقليدي، الذهب، للارتفاع إلى مستويات أعلى من 1,900 دولار للأونصة وهو المستوى الأعلى له منذ أكثر من 9 أشهر.
هل ستستمر الارتفاعات في أسعار النفط والمواد الغذائية؟
تعتبر روسيا من أهم الدول المصدرة للنفط والغاز الطبيعي وبشكل خاص للدول الأوروبة، حيث تشكل صادرات الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية نحو 40% من اجمالي الصادرات، في حين تصل نسبة الصادرات النفطية إلى الدول الأوروبية نحو 27%، الأمر الذي يعني أن تصاعد حجم العقوبات على روسيا سيتسبب في تراجع كبير في حجم امدادات النفط إلى الدول الأوروبية وكذلك إلى دول أخرى حول العالم، الأمر الذي بدوره قد يدفع بأسعار النفط والغاز الطبيعي لارتفاعات ماراثونية في حال توجهت روسيا فعليا لاجتياح عسكري لأوكرانيا.
من جانب آخر تشكل كل من روسيا وأوكرانيا مصدراً رئيسياً للحبوب والمواد الغذائية للعديد من دول العالم وبشكل خاص دول الشرق الأوسط، الأمر الذي يمكن أن يشكل تهديدا حقيقيا للأمن الغذائي في دول الشرق الأوسط بشكل خاص، وقد يدفع بأسعار الحبوب إلى مستويات مرتفعة للغاية خلال الفترة المقبلة.
هل يمكن أن تغير الأزمة بين روسيا وأوكرانيا سياسات البنوك المركزية العالمية؟
شهدنا خلال النصف الثاني من العام الماضي العديد من التحولات في السياسات النقدية للبنوك المركزية، حيث توجهت معظم هذه البنوك إلى التحول من السياسات النقدية التيسيرية وعمليات ضخ الأموال السهلة في الأسواق من خلال برامج المساعدات وبرامج التيسير الكمي وخفض الفوائد، إلى سياسات تشددية بدأت خلالها بتقليص برامج التيسير الكمي، كذلك توهت بعض البنوك المركزية لرفع الفائدة كما حدث من قبل بنك إنجلترا، فيما أعلنت بنوكاً مركزية عن نيتها لرفع الفائدة خلال عام 2022، وهو الحال من قبل الفيدرالي الأمريكي.
ولكن كل هذه القرارات جاءت قبل التزايد في التوتر بين روسيا وأوكرانيا وجاء مدفوعاً بتحسن في الاقتصاد العالمي واقتصادات هذه الدول، بعد نسب نمو أفضل تمكنت خلالها هذه الاقتصادات من تجاوز الكثير من الأضرار الناتجة عن جائحة كورونا وعودة هذه الاقتصادات للعمل وانهاء الاغلاق والعديد من معايير الوقاية التي تم اتخاذها نتيجة جائحة كورونا، الأمر الذي كان له أثراً كبيراً في تسارع وتيرة تعافي هذه الاقتصادات ودفع بالبنوك المركزية للتحول نحو السياسات التشددية لمواجهة الخطر الثاني المتمثل في الزيادة الكبيرة في معدلات التضخم عالمياً.
لكن مع تزايد التوتر ما بين روسيا وأوكرانيا، تأتي العقوبات الاقتصادية على روسيا بمثابة تحدي جديد أمام هذه البنوك المركزية لما يمكن أن يتسبب به هذا الأمر من ضغوط على مستويات النمو في الاقتصادات المختلفة وبشكل خاص اقتصادات الدول الأوروبية، والذي قد يدفع العديد من البنوك المركزية لاعادة النظر في سياساتها أو على الأقل إلى تأجيل التحول نحو السياسات التشددية لفترة من الزمن حتى تتضح الصورة الكاملة والانعكاسات الحقيقية للعقوبات على روسيا على اقتصادات هذه الدول.
وحتى اللحظة تبقى العقوبات التي تم فرضها متواضعة مقارنة مع ما توقعته الأسواق، لكن استمرار التوتر وتصاعده في حال اتجهت روسيا لغزو كامل لأوكرانيا قد يدفع الدول الغربية والولايات المتحدة إلى زيادة مستوى هذه العقوبات والتي يمكن هنا أن تتسبب في اضرار كبيرة لكل من الاقتصاد الروسي بشكل خاص والعديد من الاقتصادات الأخرى التي ترتبط بعلاقات اقتصادية مع روسيا، وبشكل خاص دول الاتحاد الأوروبي ودول الشرق الأوسط.
السيناريوهات المختلفة:
قد نشهد خلال الفترة المقبلة عدة سيناريوهات يمكن أن تشكل اتجاهات الأسواق لفترة طويلة من الزمن وهذه السيناريوهات تتمثل في التالي:
السيناريو المتشائم: يأتي هذا السيناريو في حال تصاعد التوتر وحدوث اجتياح روسي لأوكرانيا، الأمر الذي قد يدفع بالأسواق المالية للتفاعل بقوة، ويمكن أن نشهد معه ارتفاعات ماراثونية في أسواق النفط قد تدفعه إلى مستويات تاريخية قد تصل إلى 150 دولار للبرميل، فيما سيستفيد الذهب من هذه الارتفاعات وقد نشهد معه ارتفاعات للذهب إلى مستويات أعلى من 2,000 دولار للاونصة. وستتأثر كذلك العديد من الأسواق الأخرى بحالة النفور من المخاطرة مما قد يدفع بأسواق الأسهم إلى نزيف قوي في ظل ما سيشكله الغزو الروسي من تحدي قوي في امدادات المواد الخام وارتفاع أسعارها، مما سينعكس سلباً على هوامش الشركات ويدفع بها للتراجعات بقوة.
السيناريو المتفائل: ويأتي هذا السيناريو المستبعد نوعاً ما، في حال تراجع روسيا عن قرارتها بالاعتراف بالاقاليم الانفصالية في أوكرانيا والتوصل لتفاهمات مع الغرب، وهنا سيكون لهذا الأمر القدرة على دفع الأسواق من جديد لحالة التفاؤل، وهو ما سيدفع بأسعار النفط والذهب للتراجع، فيما سنشهد عودة لأسواق الأسهم للارتفاع من جديد.
السيناريو المتوازن: وقد يكون هذا السيناريو الأكثر احتمالا خلال الفترة المقبلة، وهو بقاء الحال كما هو عليه حاليا وأن تستمر لعبة عض الأصابع ما بين روسيا والغرب من خلال خطوات محدودة وعقوبات محدودة، وهو الأمر الذي سرعان ما قد تحتويه الأسواق، بذلك يمكن أن تعود الأسواق للتفاعل المؤقت ما بين كر وفر ولكن ضمن اتجاه يؤدي إلى تلاشي تدريجي لحالة النفور من المخاطرة وعودة تدريجية للأسعار للاستقرار والتفاعل مع عوامل أخرى.
بقلم: الحسن علي بكر، مستشار مالي دولي
برعاية: AvaTrade