كنت مازلت حديث العهد بالهجر وناره، الحزن يحزُّ في الأعماق، يمزقه وأنا المستسلم له بكل برود وبغير مبالاة، نعيم المساعدات العينية من الحكومة الألمانية قد غشت عيني، لذا لم أكن أرغب على التغير أو العودة عنه، فقد كان السيف قد سبق العذل، بعد أن كنا قد خسرنا كل ما نملك من أملاك بجرة قلم لحقير عنصري كمصطفى مير محافظ الحسكة، أو بالحق، البعث الشوفيني، والندم لم يكن إلا ذلك وقد أصبح كالسيف، وقد اجتاز الفؤاد وانتهى كل شيء.

وفي ليلة حين كنت ضيفاً على صديق يعيش في مدينة بوخم الألمانية وبصحبتي أخي الأصغر أكرم. حاولت أن أجتاز ما أنا فيه من همٍ بقليل من الخمر، إلا أني كنت جرعت منه الكثير، وبعدها قادني أخي بسيارته نحو مدينة أخن، والمسافة تحتاج إلى ساعتين عندما يكون السائق أخي أكرم الصبور.

تأكد أخي من أنه على الطريق السريع الصحيح، حتى اطمأن ودار بمفتاح المسجل في سيارته ليصدح صوت الآتي من عشقي الأبدي، من مدينتي أحلامي، من الأمل الذي ضاع بعد أن هاجرها بلبلها الصداح آرام ديكران، وهو يغني.. (لي واي بريندارو بلبلو

أثور معه ...تتمزق أحشائي. أكفر.... أبكي.... آنين لا يسمعه حتى الرب.

أطلب من أخي إعادة الأغنية، ومن ثم حين ملّ من طلبي وتذمر، بدأت آمره وأنا أكفر، وهو الصابر السموح، يطيعني بصمت، وقد أدرك ما أنا فيه.

 ومن أجل تلك الليلة التي قسيت فيها على أخي.... امتنعت عن شرب الخمر بتاتاً وحتى بعد مرور عشرون عامٍ لم أعد إليه ثانية قط

نسيت بعد تلك الليلة آرام أو تناسيته، وإن كنت بين فينة وأخرى أذهب بسيارتي على قمة الجبل الذي هو ضمن مساحة مدينة آخن، أستمع إليه وهو يئن لهجرة البلبل، فأتحسر وأرتشف الكثير من دموع الندم، لأعود بعدها لأطفالي وزوجتي.

خفف همي في غربتي هذه، لقائي ببعض الرفاق من الحزب العمال الكردستاني، منهم أتذكر خيري والشهيد ريزكار والمغني سيدخان، والعمل الذي كنت أكلفَّ به من قبل الرفاق المسؤولين كان يخفف من وجعي بل ينسيني همي، ومن ضمن ما كنت أقوم به وبشكل مكرر يومي تقريباً، هو نقل الرفاق بين الدول الأربعة، ألمانية وهولندا وبلجيكا وفرنسا، والتقائي مجدداً بآرام كانت ضمن تلك المهمات

دخلت كعادتي في كل يوم تقريباً مركز الحزب (حزب العمال الكردستاني- درنك بالكردية) في مدينة آخن الألمانية حيث أعيش، بانتظاري الرفيق الشهيد ريزكار (الشهيد زرادشت من ديركا حمكو) المسؤول العام عن منطقة آخن، لنذهب معاَ إلى مدينة بون حيث مكتب عملي (كمسؤول مالي لمنظمة المثقفين الأكراد (روشنبير) ولمجلة روشن.

كان ينتظرني بابتسامته المعهودة أمام الباب، وقبل أن أنطق وأقول له ما كنت أريد قوله، طلب مني الذهاب إلى مدينة جانج الهولندية.

بين مدينة جانج ومدينة آخن خمسون كيلو متر، ومكتب الحزب هناك أعرفه جيدا فقد شاركت الرفاق في فتحه مثل الكثير من المراكز، لم أسأله لماذا فقد كانت السرية تفرض علينا عند العمل، لأنني كنت غالباً ما أذهب هناك، لنقل البريد والصحف وإلقاء نظرة عابرة على مجرى سير العمل هناك، إلا أن المفاجئة كانت عظيمة حين ذكر لي اسم الفنان القدير آرام، وقال: ستأخذه معك إلى بون.

منذ سنوات لم التقي به، وآخر مرة كنت قد شاهدته فيها كانت قبل هجري بسنة، حين التقينا وبالصدفة على عشاءٍ عابر في مقهى كربيس الصيفي، ومن ثم ضعنا نحن الاثنان، هو بعيداً عن جمهوره الذي عشقه ومدينته القامشلو التي بقي وفياً لها حتى حين كان في يريفان، وأنا ضعت في متاهات الغربة والهجران

دخلت مركز الحزب، حين كان ينتظرني الرفيق الذي سأنقله على أحر من الجمر والقلق باد عليه، وما أن شاهدني حتى بادرني مستغرباً وبلهجته الكوردية الجميلة المميزة.

أنت... ماذا تفعل هنا؟

آرام

طبعاً.... الكرد عندما يلفظون كلمة آرام بدون ألقاب، هي بقصد الاحترام... التقدير... الحب...وقد كان يعرف ذلك بكل تأكيد

ونحن نشرب الشاي، التفت إليَّ وهو يستفسر بحيرة

-هل تعرف الطرقات جيداً.... فأنا لا أحمل جواز سفر.

لن أزيد على ذلك شيئاً، لأني سأنتقل لقصتي معه في طريق عودتنا من بون

المطلوب مني إعادته لمدينة جانج حيث الرفاق هناك يتكفلون بالباقي، والباقي هو نقله إلى مدينة بروكسل حيث مكان إقامته

توجهنا نحو الحدود الهولندية، انطلاقاً من بيتي في آخن بعد غداء فاخر من يد أم هوزان، الحدود كانت ماتزال تحت المراقبة قبل الاتفاق الأوروبي، وقد شاركنا في الرحلة كلٍ من أخي الدكتور محمود عباس وصديقه معصوم ديركي وكانا قد وصلا لألمانيا حديثاً، والثلاثة لا يحملون جوازات سفر.

اجتزت بهم الحدود بدون أية مشكلة فلطالما أتقنت الالتفاف على نقاط المراقبة، وارتاح آرام جداُ لذلك بعد القلق الذي كان يظهره من خلال أسئلته الكثير، إلا أن المفاجئة كانت على الطريق السريع ، وهي لم تحدث لي قط ، وبعيداً عن نقطة تفتيش بعشرات الكيلو مترات ، أي أن الأمر حقيقة كانت مفاجئة وغير متوقعة بتاتاً ، أوقفتنا سيارة شرطة عابرة، أظنهم شكوا بأمرنا، وقف الشرطي وطلب منا الجوازات، قدمت له جواز سفري الأزرق الخاص باللاجئين السياسيين، وانتظر الثلاثة كي يقدموا له جوازاتهم وهم مذهولين، حينها ترجلت من السيارة وفتحت له غطاء الباكاج السيارة الخلفي ليشاهد البزق الذي سجل به أرام ليس تاريخ هجرة البلابل فحسب، بل عظمة الإنسان الأرمني والذي أحب أن ينطق بزقه هذا، بالكردية التي نعشقها وخاصة تلك التي دونها والده ( بريندارو بلبلو) . وقلت للشرطي، هي فرقة موسيقية كردية سنذهب لتقديم حفلة، في تلك اللحظة وقف آرام بجانبي وحمل البزق، ليحرك بأصابعه خفيفا وتراً أو وترين لأغنية يونانية.

أعاد لي جواز سفري وتمنى لنا ليلة سعيدة، ولم أجد أرام سعيداً كما في تلك الرحلة.

بعدها استمرت لقاءاتُنا وحتى أنه شارك عائلتي بعدة حفلات خاصة، مثل عيد ميلاد إبني محمد وله فيها كعادته صوت شجي مسجل.

تذكرته حين شاهدت شريط التسجيل لتلك الحفلة، وقد غادرها فارسها، فمن سيغني للبلبل الذي تركته في هجره يبكي آساه. يا آرام؟