تعقدت القضية الكوردستانية وتشعبت في العقود الأخيرة، لتأخذ منحنيات عدة، وتتجاوز البعدين القومي والمذهبي إلى المجالات السياسية والديموغرافية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وبعدما كانت قضية جزأين محتلين من قبل الإمبراطوريتين الشيعية والسنية، تحولت إلى قضية بين عدة دول إقليمية، متشابكة مصالحها مع مصالح الدول الكبرى التي قد تتعرض إلى ضربات في حال تقسيمها وتحرير وتوحيد أجزاء كوردستان. وأصبحت إحدى أهم المعضلات التي تواجه الحراك الكوردي التحرري، السؤال التالي: هل ستتخلى الدول الكبرى عن مصالحها مع الدول المحتلة، وستساهم أو ستغض الطرف عند محاولة تحرير كوردستان، أو ستقف في طريقها، أي هل ستتغير مصادر مصالحها أم لا؟ ومن خلال عدة محاولات، وآخرها عملية الاستفتاء، تبينت على إنها لا تزال ترجح مصالحها على بقاء كوردستان محتلة، والحراك الكوردي أضعف من أن تتمكن على تغيير المعادلة.

كما ويجب ألا ننسى إشكاليات علاقات الحركات الكوردية مع حركات الشعوب التي ترفع شعارات الأوطان الحديثة، والحقوق على مبدأ الأنظمة الديمقراطية، أو حقوق المواطنة وغيرها من الطروحات التي تعرضه بديلا عن الطرح الكوردستاني إن كانت على مستوى الفيدراليات أو حق تقرير المصير. أي أن الشعب الكوردي يقف اليوم أمام قضايا معقدة ومتشابكة وليست قضية واحدة كما كانت عليه قبل قرن من الزمن.

الإشكاليات المنوهة إليها تعد من إحدى أسباب عجز الحراك الكوردي في حمل القضية بتشعباتها والمتجاوزة قدراتها، وهو ما يؤدي إلى الخلافات المتصاعدة بين أطرافها والمؤدية إلى تفاقم ضعفها، وعلى أثر ما تواجهها إما إنها تتناسى عمليات البحث عن الحلول المنطقية والمعقدة، أو تدرك إنها دونها معرفة وإمكانيات، فتتعثر بتأنيب الضمير، أو تتجه إلى منطق إتهام البعض، وبالتالي يتعمق التآكل الداخلي، من استخدام التخوين إلى التهم الشخصية، وهذا ما يسهل للأعداء ديمومة الاحتلال وسهولة تعقيد القضية لتصبح فوق طاقة الشعب الكوردي وحراكه، فتوهم الدول الكبرى على أن الحراك الكوردي دون القدرة على حمل مسؤولية الشعب.

ظهرت القضية قبل قرابة ستة قرون، على بنية الخلاف المذهبي بين الإمبراطوريتين السنية والشيعية والتي أدت إلى تقسيم كوردستان، جغرافية وديموغرافيا، وتحولت مع المراحل إلى قضية قومية سخرتها الإمبراطوريتين لمصالحهما مثلما سخرا المذهبين لدعم أنظمتهما السياسية، فكان لابد من تعميق الصراع بين طرفي كوردستان ليتم على أسسها تمتين تبعية الشعب الكوردي مع المركز، ومن ثم إضعاف الانتماء إلى الإمارات الكوردية، كما وعملوا على تهميشهم وتجهليهم من البعد السياسي والثقافي، وسخروهما كمنبعين للتغذية العسكرية والاقتصادية.

تعمقت الجدلية وتشعبت جذور القضية بعد انهيارهما، وظهور الاستعمار الأوروبي، فتطلبت مصالحهما إعادة تقسيم كوردستان، ومع غياب قوى أو شخصية كوردستانية مركزية، بعكس ممثلي الشعب العربي والفارسي والتركي (وهو ما يعانيه الشعب الكوردي حتى اليوم) تحكمت القوى المختلفة بمصير الكورد ونقلوا القضية من الخلاف المذهبي إلى صراع بين الحركات التحررية الكوردية والأنظمة التي عرضت ذاتها مسؤولة عن الشعب الكوردي، في فترة كانت قد قضيت فيها على جميع الإمارات الكوردية، وغيبت الشخصية القابلة أن تمثل كلية كوردستان، والذين ظهروا في المواجهة كان تمثيلهم لا يتجاوز مناطقهم أو جغرافية قبيلتهم وربما قبيلة مجاورة، أو مشيخة دينية، كما وأن مطالبهم لم تكن على مستوى كلية كوردستان.

وبالتالي لم تجد الدول الاستعمارية أية مصلحة لها بالتعامل مع القضية على منهجية كوردستان موحدة، فرجحوا تجزئتها بين بعضهم، ليظهر التقسيم الجديد، وكانت بداية تعقيد القضية، وتحويلها من مجرد خلاف مذهبي، إلى صراعات سياسية ومذهبية، وثقافية، وديموغرافية، واقتصادية. منها داخلية كوردستانية، ومنها إقليمية ربطت مع الأبعاد القومية، وفيما بعد قامت الأنظمة المحتلة بترجيح الوطن الافتراضي على كوردستان، لتعميق وتوسيع الإشكاليات وتعقيد القضية قدر المستطاع.

بريطانيا وفرنسا الدولتين الأكثر معنية بالأمر، بعدما كانت الإمبراطوريتان، الأخيرة ربما ظهرت بشكل عفوي، بعكس الأولى القادمة إلى المنطقة بتخطيط مسبق، ودراسات إستراتيجية، واطلاع على تاريخ ومطامح الشعب الكوردي أو قياداتهم. المفاهيم والتجارب التي أورثوها للأنظمة التي حلت مكانهم بعد الاستقلال.

في الواقع الحالي، ومع ضعف الحراك الكارثي، والذي له دور فيما آلت إليه القضية من التشعبات والتعقيدات، إن كان على خلفية التآكل الداخلي والذي للقوى المحتلة الدور الأكبر فيه، أو على خلفية الجهالة التي فرضتها القوى المهيمنة على الحراك والمنطقة، أصبحت حل القضايا أكثر صعوبة، فهي ورغم ظهور الأبواب المتعددة الممكنة استخدامها للتحرر، لا تزال تتمسك بالقناعات المبنية على السذاجة الماضية، مستخدما المنهجية ذاتها، مبرراً الخلافات والأخطاء وعدم القدرة على إيجاد الحلول بحجج مقنعة للذات، ومدمرة لقادم الأمة، قبل إقناع الشعب، ولا شك جلها من نتائج الأساليب الخبيثة التي استخدمتها الأنظمة المحتلة لكوردستان، والثقافة التي غرزتها بين المجتمع.

وعلى خلفية تلك البنية؛ لا ينتبه الحراك، أن من أسباب معارضة القوى المحتلة لكوردستان للنظام الفيدرالي، أو لمطلب حق تقرير المصير تحت غطاء عدم تلائمه مع الوطن الافتراضي، نابع من الرهبة لما قد يأتي بعده، فالصور النمطية المركبة حول الكورد وعلى أن جميع مطالبهم تتجه إلى هدف واحد وهو تحرير وتوحيد كوردستان، لذلك يعتبرون أي طرح من الجانب الكوردي، بداية الطريق نحو كوردستان مستقلة، وهو في منطقهم تقسيم لدولهم؛ لا تحرير لجغرافية جزأت على خلفية مصالح بريطانيا وفرنسا، ولهذا فطروحاتهم البديلة، حتى من قبل القوى الوطنية والحركات الثقافية-السياسية الديمقراطية مبنية على الذهنية الشكوكية عن الكورد. وبما أن معارضتهم للقضية الكوردستانية، بشكل مباشر يعرضهم للمسائلة الضميرية أو الإنسانية، يبحثون عن إيجاد مخارج حديثة؛ كعرض دولة المواطنة، وهي أخر اختراعات المعارضة السورية لمواجهة الحراك الكوردي المطالب بالنظام الفيدرالي.

ومن المؤلم القول، أن الحراك الكوردي يقف اليوم أمام كم هائل من القضايا المعقدة، وقضية التحرير ليست سوى أخرها، حتى ولو كانت الرئيسة، وبدون دراستها بدراية سيزداد تيها وضياعا، وكلما تفاقمت الخلافات الداخلية ازدادت إشكاليات القضية وصعبت دروب الحل، وقد تصل إلى حد اللاعودة، لذلك لا بد من البحث في:

1- أسباب تفاقم التآكل الداخلي، ودور الأعداء فيه، قبل اتهام البعض.

2- إيجاد الحلول لإحداث تغيير جذري في الحراك، بحيث تخرج بإمكانيات عصرية تكون على مستوى مواجهة القضايا المعقدة، وإدراك مؤامرات القوى الإقليمية والمصالح الدولية.

3- القضية الكوردستانية، مع أو قبل قضايا أجزاء كوردستان ضمن الأوطان الافتراضية.

4- كيفية عقد حوارات متواصلة، حول القضايا العديدة المعقدة والتي تشعبت مع الزمن بعد مرحلة الاستعمار الذي رسخ التقسيم الجاري، ولوضع مشروع كوردي وكوردستاني واضح للقوى الدولية.