المتابع لأحاديث الرئيس مسعود بارزاني سيلاحظ انه بدأ مؤخرا بالتأكيد على جوانب تمس جوهر الانسان وصفائه الأخلاقي والروحي جنبا الى جنب مع حديثه عن الشأن السياسي، وهو ليس بالأمر الغريب على شخصية تشربت من ثلاث مدارس "المدرسة الروحية، مدرسة النضال المسلح، ومدرسة النضال السياسي". وتأثرت بجذورها الصوفية في عائلة قادت ثورة مسلحة لعقود من السنين، وتخوض اليوم ومنذ عقود نضالا سياسيا، في منطقة مضطربة سياسيا وثقافيا واجتماعيا , وفي عصر غاية في تعقيداته السياسية والمجتمعية، شكلت منه شخصية قلما نجد لها نظيرا بين قادة الأمم، في الجمع بين الجانبين السياسي والوطني وتهذيبهما روحيا.

ان اشارة الرئيس مسعود بارزاني لهذا الجانب في خطاباته مؤخرا لم تأت من قبيل الصدفة، بل تنبع من شعور عال بالمسؤولية، وتعبر عن بعد نظر السياسي الذي يحدد المشكلة ويحاول إيجاد حلول مناسبة لها، ليس على صعيد كوردستان فحسب بل على صعيد العراق ككل، خاصة وانه اشار الى ذلك ايضا في مناسبة حضرها أغلب ساسة العراق الذين جاؤوا لافتتاح المتحف الوطني في منطقة بارزان، اي ان حديثه كان موجها لكل العراقيين الذين مروا بظروف سياسية واجتماعية وثقافية صعبة مزقت أسس التعايش بين مكوناته القومية والدينية والمذهبية، لم تعد تنفع معها الحلول السياسية فقط، بل وجب خلق حالة ثورية اجتماعية تؤهل المجتمع العراقي ثقافيا واجتماعيا وحتى روحيا، من خلال إنماء روح التسامح والتعايش والصفاء الروحي بغض النظر عن الدين او المذهب الذي ينتمي إليه كل مكون، ليكون رديفا للحلول السياسية ومكملا لها، ويخلق طموحا مجتمعيا عراقيا بامكانية التقدم على ما يحيط بنا من مجتمعات نقدم لها تجربة رائدة.

ولذلك اكد على هذه النقاط لتكون اولوية للسلم الاهلي , منطلقا من تجربة كوردية كان لأجداده من شيوخ منطقة بارزان الاجلاء الدور الرئيس في ترسيخه مستندين الى مبادئ ثلاثة وهي :-

التقوى ومعرفة الله

الوطنية

الإنسانية والتعايش المشترك

ان كان شيوخ منطقة بارزان قد رسخوا هذه المبادئ الثلاثة مجتمعيا، فقد نجح الخالد مصطفى البارزاني بمزج هذه المباديء مع الفعل الثوري ونشرها لتكون منهجا تسير عليه الثورة الكوردية , وتصبح فيما بعد ثقافة لاجيال كاملة في كوردستان بمختلف قومياتها واديانها في وقت كان فيه العالم يفتقر الى منظمات دولية تتبنى هذه المباديء مثلما هو عليه الان .

* / ففي الوقت الذي كان فيه النظام الاقطاعي يعم اصقاع العالم , وكان الاصلاح الزراعي لا يتعدى ان يكون افكارا تقال هنا وهناك , تبنى شيوخ منطقة بارزان " مولانا الشيخ عبد السلام بارزاني ومولانا الشيخ احمد بارزاني" فكرة القضاء على الاقطاع وتوزيع الاراضي على الفلاحين قبل ان تتبناه حكومات العالم بعقود .

*/ ومنحوا المرأة مكانتها في المجتمع برفض الزواج القسري والقضاء على المهور قبل ان تتواجد منظمات تعنى بحقوق المرأة .

*/ ورسخوا مبدأ المساواة في المجتمع في وقت كان لا يزال فيه الرق والعبودية منتشرا عند شعوب كثيرة حتى تلك التي توصف اليوم بشعوب متقدمة , وقبل ان تتبناه منظمات حقوق الانسان في العالم بعشرات السنين .

*/ وعمدوا الى تشكيل لجان ومجالس في القرى والبلدات لادارة شؤونها , في وقت كانت فيه الدولة العثمانية ومن بعدها المملكة العراقية يعانيان من سوء الادارة في هيكليتهما الرسمية الحكومية.

*/ وفي الوقت الذي كانت فيه مجتمعات العالم الحديث انذاك تعاني من فوضى استخدام السلاح , وكانت حكومات العالم تتأهب للدخول في الحرب العالمية الاولى ومن ثم الثانية , تم في منطقة بارزان تنظيم ظاهرة حيازة السلاح وتحديد المسؤولين عن المسلحين وتنظيمهم .

*/ وفي توجه يعتبر سابق لزمانه بشكل كبير اهتم شيوخ منطقة بارزان بالبيئة , وحدوا من التلوث ومنعوا صيد الحيوانات , في بادرة تعتبر فريدة سبقت بعقود المنظمات الدولية التي تعنى اليوم بالبيئة وحقوق الحيوان ومنع الصيد .

*/ اما بالنسبة لاعلاء معاني الوطنية فقد تبنت منطقة بارزان مفهوم ترسيخ ارادة الوحدة بين المواطنين ومواجهة الظلم والاضطهاد ,والعيش بكرامة وحرية او الموت دونه بعزة وشموخ , والوحدة بين ابناء المجتمع الواحد , سواء كان هذا المجتمع يمثل عشيرة او قومية او دولة .

وكان مولانا الشيخ احمد بارزاني يذكر دائما انه : -

"ان كنتم متفقين وموحدين فبامكانكم هزيمة العدو والتغلب على المصاعب والمتاعب وقهرها وبخلافه فستفقدون كل شيء "

كذلك كان شيوخ بارزان يؤكدون على نصرة المظلوم واحقاق الحق من خلال التاكيد على مبدا: -

" يجب ان تتمنى لابناء غيرك ما تتمناه لابنك , ومثلما لا تحب السوء لنفسك لا تحبه للاخرين ايضا"

وكذلك :-

" كونوا دائما مع المظلوم ضد الظالم , ودافعوا عنه وطالبوا باحقاق الحق والعدالة "

*/ اما فيما يتعلق بالحالة الايمانية فقد حاول شيوخ منطقة بارزان نشر روح المساواة بين ابناء الاديان المختلفة , فكنت ترى المسلم مع المسيحي واليهودي متعايشين فيما يبنهم على قدم المساواة دون تمييز, في حالة ايمانية سبقت العصر , اعتمدت على رؤية معمقة للدين من حيث الجوهر, كون الدين هو الابتعاد عن السيئات والحقد والكره والبغضاء , والقيام باعمال الخير , واصلاح ذات البين , والالتزام بالاخلاق والانسانية , والاهتمام بالقيم الانسانية العليا التي تجمع اتباع الاديان كلها فيما بينهم في بوتقة واحدة.

ان الكثير من الصفات التي يتميز بها المجتمع الكوردي ,والكثير من المواقف التي شهدتها الثورة الكوردية واصبحت مثار اعجاب الاعداء قبل الاصدقاء كانت تقف وراءها تبني الثورة الكوردية والمجتمع الكوردي هذه المباديء , كالتمييز مثلا بين محاربتها للحكومات الدكتاتورية وبين تقوية اواصر الاخوة مع المجتمع العربي , وعدم اقتصار مطالبها حول حقوق الكورد فقط بل المطالبة بالديمقراطية لكل الشعب العراقي , وعدم القيام بعملية تفجير واحدة في المدن العربية في العراق على مر سنوات الثورة , او في تعاملها الانساني مع الاسرى والذي سبقت وضع القوانين الدولية حول ذلك , رغم ان الثورات عادة لا تهتم بهذا الجانب ولا هي مطالبة بذلك , كونها ليست جهات رسمية مسؤولة عن حكومات ودول ... وقد امتدت هذه الثقافة الى يومنا هذا , وتمثل بالعفو الذي اصدره الرئيس مسعود بارزاني عمن ارتكب جرائم بحق الشعب الكوردي من الكورد على مبدا عفا الله عما سلف , والكثير من التوجهات الاخرى بعد الانتفاضة .

لقد مرت الثورة الكوردية بالكثير من المفاصل الخطيرة , لكنها مع ذلك استطاعت المحافظة على التوازن بين فعلها الثوري المسلح وقضاياها الوطنية من جهة , والحفاظ على مبادئها الانسانية من جهة اخرى , حيث لم تتخل في كل سنوات نضالها عن فكرة كونها ثورة انسانية جامعة قبل ان تكون ثورة تخص قومية معينة , لذلك نجحت في الوصول الى اهدافها رغم كل المؤامرات عليها .

عندما يشير الرئيس مسعود بارزاني الى هذه المباديء فانه يحاول وضع التجربة الناجحة لمنطقة بارزان وكوردستان امام الاجيال العراقية الحالية التي مرت هي واجيال عديدة سبقتها بظروف شاذة وغير صحية سياسيا واجتماعيا وثقافيا خلال قرن من الزمن , ادت الى شيوع امراض مجتمعية وثقافية اساسها التطرف ورفض الاخر , وبروز ثقافة " الانا " سواء كان الانا الفردية او المذهبية او الدينية او القومية . ويعطي لهم الامل بامكانية القضاء على هذه الامراض واجراء تغيير حقيقي للشخصية العراقية المشوهة حاليا , فمنطقة بارزان وكوردستان انذاك كانا يعانيان من مختلف انواع القهر والاضطهاد , تحاربهم امبراطوريات ودول , ورغم ذلك لم تقف الحياة عندهم , ولم يتقوقعوا في ذواتهم , بل حاولوا الارتقاء بانسانيتهم , ونشر مباديء كان من الاولى ان تهتم بها شعوب اخرى مجاورة كانت تتمتع بوضع سياسي افضل منهم انذاك .

ان مشاكل العراق الحالية لا يمكن حلها فقط بالخروج في تظاهرات ضد مظاهر الظلم والفساد التي يعاني منها المجتمع العراقي , او باللجوء الى الانقلابات العسكرية التي كانت تعم العراق في منتصف القرن الماضي , ولا بتسلط دكتاتورية جديدة عليه سواء كانت دكتاتورية فردية او دكتاتورية قومية او مذهبية , فالتجارب اثبتت فشل كل هذه الحلول , وانما التغير الحقيقي سيكون من خلال الاهتمام بالقوة الناعمة , واعمال ثورة مجتمعية على الذات , بنشر ثقافة التسامح والتعايش والارتقاء بالمجتمع , والقضاء على الظواهر السلبية فيه "وهي كثيرة" , فالعراق يحتاج الان الى مصلحين اكثر من حاجته الى قادة سياسيين اوثوار او قادة مليشيات, والتغير دائما يبدا من الذات.