تتمتع دول العالم المتحضر بنظام سياسي يقودها بغض النظر عن الحكومات التي تدير تلك الدول , ويمثل النظام السياسي ذاك الخطوط العريضة للدولة بما يتفق مع مصالحها العليا , بينما تقتصر مهمة حكوماتها على التحرك ضمن حدود تلك الخطوط العريضة دون تجاوزها وفق ما يخدم تعزيز النظام السياسي للدولة . وبذلك تبقى المصلحة العليا للدولة مصانة ثابتة لا تتغير بتغيير الحكومات.
وبمقارنة هذه الانظمة السياسية مع ما عليه الحال في دولنا في الشرق الاوسط "ومن بينها العراق" يمكن ملاحظة الفجوة الكبيرة التي تفصلنا عن العالم المتقدم في فهم وتطبيق الديمقراطية ومفهوم مصالح الدولة .
ان الخطيئة الوحيدة التي ارتكبت بحق العراق وادت الى كل هذا الوضع المهترئ الذي نعيشه حاليا هو دخول العراق الى ساحة الديمقراطية من بابها الخطأ بعد الألفين وثلاثة، بفرض حالة متقدمة على مجتمع خارج لتوه من حكم انفرادي دكتاتوري سبقته انقلابات ( تيك اوي) عقب حكم ملكي مستورد ... وتطبيق قسري للديمقراطية في مجتمع يعاني من تشابكات قومية ودينية ومذهبية وحتى عشائرية ادى الى ارتدادات معاكسة عمقت تلك الانتماءات بدلا من ان تزيلها , ادت بدورها الى افساح المجال امام اجندات اقليمية ودولية لفرض نفسها على الساحة العراقية واستقطاب اطراف سياسية الى جانبها , مما وسع الهوة بين المكونات السياسية العراقية , حيث اصبحت شكل العلاقة بين الاطراف الدولية والاقليمية تؤثر على نمط العلاقة بين الاطراف العراقية بشكل طردي, فالتقارب الذي يحصل احيانا بين هذه الاطراف العراقية ما هو الا انعكاس لهدوء العلاقات بين تلك الاطراف الاقليمية والدولية , والتوافقات السياسية بين الاطراف العراقية عند كل تشكيل حكومة ما هو الا نتاج توافقات بين الاطراف الاقليمية والدولية المتصارعة على الساحة العراقية . امام هذا المشهد لم يتمكن العراقيون من خلق ما يمكن ان نطلق عليه "المصلحة الوطنية " او وضع اجندات عراقية خالصة حيث ضاعت بين الاجندات الاقليمية والدولية .
ما زاد من الطين بلة ان الطين العراقي لم يكتف ب"بلة" الاجندات الخارجية فقط بل اضيف اليه "بلة" الدم العراقي الذي سفكته فصائل مسلحة من الطرفين السني والشيعي , ادى الى زيادة الهوة بين المكونات العراقية واتساع الشرخ بينها . وان كانت الفصائل "المحسوبة على الطرف السني" قد تم محاربتها دوليا وقصقصة اجنحتها , فان الفصائل المسلحة الشيعية قد تم رعايتها وتغولها من قبل اطراف اقليمية , وقد اثبتت مسار الاحداث ان هذه الفصائل المسلحة تمثل التحدي الاكبر امام خلق نظام سياسي مستقر يراعي مصالح الشعب والدولة , فهي تحمي مصالح الجهات السياسية المرتبطة بها اولا ومن ثم مصالح القوى الاقليمية المرتبطة بها , بينما تضع المصالح العراقية العليا خارج سلم اولوياتها .
والسؤال هنا هل يمكن في الوضع الحالي خلق حالة عراقية مؤسساتية حقيقية ونظام سياسي يقود دولة ؟
بشكل عام يفترض ان العراقيين شعبا واحزابا قد توصلوا الى نتيجة مفادها ان العراق بحاجة الى استقرار سياسي والتقاط للانفس بعد عقود من اضطرابات سياسية بدات منذ تاسيس الدولة العراقية ولغاية يومنا هذا , لم يشعر المواطن العراقي فيها بمواطنته سواء على صعيد الافراد او المكونات.
ان ما ينبغي على العراقيين تداركه هو بناء جسور الثقة بين المكونات العراقية الثلاث الرئيسة , واول جسور هذه الثقة تكمن في الاعتراف بوجود مشاكل بين المكونات الثلاث , لها اسباب قسم منها متجذرة في التاريخ وبعضها معاصرة , فالمشكلة المذهبية بين السنة والشيعة لها جذور تمتد الى عصر الدولة الاسلامية القديمة , بينما بدات المشكلة القومية مع تأسيس العراق الحديث بحدوده الحالية . وبناء الثقة هذه لا تتحقق من خلال عقد المؤتمرات وتشكيل اللجان واصدار البيانات والمواقف الاعلامية المتفائلة , وانما بخطوات حقيقية يكون هدفها استقرار الدولة ...
المشكلة المذهبية وكيفية حلها
لقد نجح الاعلام الغربي والعربي والايراني في تشويه فكرة تحويل العراق الى ثلاث اقاليم " اقليم سني " و " اقليم شيعي" مع اقليم كوردستان الموجود كواقع حال , حتى بدا اكثر العراقيين يرونه بداية لتقسيم العراق وتهديد وحدته . وفي الحقيقة فان اي متابعة بسيطة لوضع العراق منذ تاسيسه مرورا بالالفين وثلاث ولغاية يومنا هذا تثبت ان بقاء العراق بوضعه الحالي لا يخدم مصالح العراق وانما مصالح دول المنطقة والدول العظمى ..
فالدول السنية في المنطقة ترى ان تشكيل اقليم شيعي يحوي معظم ثروات العراق سيجعل منه منطقة نفوذ خالصة لايران , ومنطلقا لنفوذ اقوى لها في المنطقة , وهذا يتعارض مع مصالح الدول السنية "العربية وغير العربية" في المنطقة .
بينما ترى ايران ان الوضع العراقي الحالي يصب في صالحها , في ان العراق كله الان ساحة مفتوحة امامها تتحرك فيها كما تشاء سياسيا واقتصاديا وامنيا , تتواصل من خلاله مع اذرعها في سوريا ولبنان . اضافة الى ان هيمنة الاطراف السياسية المقربة لها على الحكومات العراقية المشكلة تفسح المجال امامها لتمرير توجهاتها واجنداتها في العالم العربي والجامعة العربية من خلال العراق , ولذلك فان تشكيل اقليم شيعي واخر سني مع الاقليم الكوردي سيحصرها في الجنوب العراقي مما سيقطع تواصلها مع اذرعها في المنطقة , لذلك فهي لا تشجع تحويل العراق الى اقاليم ثلاث ...
وهكذا اتفق الفرقاء في المنطقة بشكل غير مباشر على ان من مصلحتها الحفاظ على عراق غير مفدرل وفي نفس الوقت غير مستقر.
امام هذه الارادات الخارجية يقف الشعب العراقي وحيدا يدفع ثمن تحول بلده الى منطقة صراع دولي واقليمي, ويصبح ضحية تاثير الاعلام الخارجي , في رؤية ان مبدأ الاقاليم هو ضد وحدة العراق ومصلحته .
الحقيقة المثبتة تاريخيا تؤكد ان جذور المشكلة الشيعية السنية هي سياسية انطلقت من مبدا السيطرة على الدولة , بغض النظر عن التفاصيل العقائدية فيها , وان لم يكن بالامكان حل مشاكل التاريخ المتراكمة , فان بإمكاننا حل تبعاتها السياسية الحالية وذلك من خلال الخطوات التالية : -
- الاقرار اولا بعدم امكانية اي طرف القضاء على الطرف الاخر والسيطرة بمفرده قسرا على الحكم , وهو ما اثبته التاريخ منذ الف واربعمئة عام . وان كان قد تحقق لطرف منهما الاستحواذ على الحكم في بعض مفاصل التاريخ , فان ذلك الاستحواذ كان مؤقتا انتهى مع اول تغير سياسي داخلي او اقليمي , لذلك فعلى الطرفين الاقرار بوجود الطرف الاخر , وتقبل طموحاته السياسية دون ان يؤثر ذلك على تطلعات وطموح الطرف المقابل.
- ان تكون الدولة هي القائد بعيدا عن الخصوصية الشيعية او السنية , وعندما نقول الدولة فاننا نقصد النظام السياسي للدولة الذي يفترض ان يبتعد عن الانتماءات المذهبية والقومية .
- التحول من الحكم المركزي الحالي الى حكم اتحادي حقيقي , فرغم اقرار الدستور بان العراق دولة فدرالية , الا ان المؤسسات الحكومية المهمة خاضعة بشكل كامل لارادة طرف واحد فقط , سواء كانت هذه المؤسسات تشريعية او تنفيذية اوعسكرية , وهذا يعتبر فتيل ازمة يمكن له ان يشتعل في اي لحظة مفصلية.
- تطبيق الفدرالية بين المكون السني والشيعي بالشكل الذي يتوالم مع توجهاتهما ضمن العراق الواحد ,فلا يشترط ان تكون الفدرالية الشيعية والسنية نسخة من فدرالية كوردستان , فهناك انماط متعددة للفدرالية في مختلف دول العالم .
- لا يمكن ان يتمتع مكون واحد من المكونين بفصائل مسلحة يتم فتح جميع ابواب الدولة لها اقتصاديا وسياسيا وتسليحيا , بينما يفتقر المكون الاخر الى ذلك الا من خلال افراد تابعين في النهاية الى الفصائل المسلحة للمكون الحاكم . فاما ان يتم الغاء الفصائل المسلحة الموجودة لدى المكون المتحكم , ويعاد النظر في تشكيل المؤسسة العسكرية العراقية مع مراعاة النسب المكوناتيه , او ان يتم تشكيل فصائل مسلحة للمكون الاخر ايضا بنفس الصلاحيات والامكانيات ويتم ضمهما للمؤسسة العسكرية بشكل حقيقي حتى لا تبقى هناك فصائل منفلتة .
يمكن تسمية ما سبق بانها خطوات عامة لعلاج المشكلة المذهبية سياسيا في العراق , اما النقاط التفصيلية فيها فيمكن الاتفاق عليها من خلال الحوار الحقيقي البناء , من قبيل الوضع الاقتصادي للكيانين في العراق وعلاقتهما بالاقتصاد الاتحادي.
المشكلة القومية وكيفية حلها
منذ الالفين وثلاثة وهناك مشاكل محددة تتجدد مع كل تشكيل حكومة , تعكر اجواء العلاقة بين اربيل وبغداد , مثل مماطلة بغداد في تنفيذ المادة 140 , وعدم اقرار قانون النفط والغاز , وعدم اجراء تعداد عام للسكان , وهي مشاكل عملت اطراف سياسية في بغداد على استفحالها , افرزت بدورها مشاكل فرعية اثقلت كاهل العلاقة بين الطرفين , مثل العلاقة بين مؤسسة البيشمركة والمؤسسة العسكرية العراقية , وانتشار القوات الامنية في المنطقة الفاصلة بين الاقليم والدولة الاتحادية , والعلاقة الجدلية بين ملف النفط وحصة الاقليم من الموازنة الاتحادية , ومؤخرا ملف قصف مناطق كوردستانية من قبل اطراف توصف بانها " مجهولة".
والحقيقة ان الكورد تعاملوا مع العراق منذ تاسيسه على انه دولتهم وكانوا على استعداد كامل للتعامل معه ضمن هذا السياق , غير ان الحكومات العراقية المتعاقبة تعاملت مع كوردستان على انها جزء ملحق به وليس جزءا اساسيا منه , مع ان الكورد التحقوا بالعراق بارادتهم وتعاملوا مع الدولة الوليدة بانفتاح كامل . ادت نظرة الحكومات العراقية تلك الى ان لا يشعر الكورد بالامان على وجودهم في تلك الدولة , خاصة بعد الممارسات القمعية للحكومات الانقلابية بعد العهد الملكي , ولم تكن الحكومات التي اعقبت الالفين وثلاثة بافضل من اسلافها في ابداء نوايا غير طيبة تجاه الشعب الكوردي واقليم كوردستان على الاقل لغاية الان .
ان من اولويات ما يجب ان تقر به حكومة بغداد هي ان هناك اقليم شرعي معترف به في الدستور هو اقليم كوردستان , له حكومة ومؤسسات رسمية يجب التعامل معها من خلال النظام المؤسساتي . وان تصل الى قناعة بان محاولات اضعاف دورالاقليم وحكومته لن تجدي نفعا ولا تصب في الصالح العراقي العام , بل ستؤدي فقط الى اضعاف العلاقة بين بغداد واربيل اكثر واكثر . هذه العلاقة التي اذا تم تعزيزها فانها ستؤدي الى استتاب الوضع العراقي بشكل عام .
على ذلك ينبغي ان تقر الحكومتان في بغداد واربيل بالحقيقتين التاليتين : -
1- على حكومة بغداد ان تاخذ بنظر الاعتبار ان مسار السياسة الدولية الحديثة تثبت استحالة تلاشي اي كيان سياسي موجود سواء كان هذا الكيان دولة او اقليم , لذلك فمحاولاتها اضعاف اقليم كوردستان لن تفضي الى نتيجة .
2- على حكومة اربيل ان تقر بان طموح انفصالها عن العراق " على الاقل في الاوضاع الاقليمية الحالية" هو امر صعب المنال, لذلك فان من الضروري عليه الحركة استنادا الى هذه الحقيقة والانخراط في الواقع العراقي بشكل كامل .
اذا استطاع الطرفان التعامل مع بعضهما وفق هذه الرؤية فان حل المشاكل بينهما هو امر غير مستحيل .
فطالما ضمنت الحكومة الاتحادية ان كوردستان ستبقى ضمن العراق فحل مشكلة المناطق المتنازع لا ينبغي ان تبقى مستعصية حتى في حال ضمت كركوك وخانقين وشنكال الى اقليم كوردستان حالها في ذلك حال دهوك واربيل والسليمانية , فالمهم هو حل المشاكل من حيث المبدا وسد الثغرات امام علاقة طبيعية بين الطرفين .
وطالما ان البيشمركة مؤسسة عسكرية عراقية فيمكن للطرفين " بغداد واربيل" الاتفاق على ضمها الى تشكيلات وزارة الدفاع العراقية , وتجهيزها بنفس الاسلحة التي تمنح للجيش العراقي .
واذا تم اصدار قرار النفط والغاز فان حسم مشكلة الملف النفطي بين اربيل وبغداد سيصبح امرا مفروغا منه , ولن تحتاج بغداد الى محاولات اخضاع السياسة النفطية في كوردستان اليها , ولن يكون الاشراف على ملف نفط كوردستان صعبا طالما ان عمليات الانتاج والتسويق واضحة البيانات .
يمكن تحقيق مبدا تصفير المشاكل العراقية وتحويل العراق الى دولة ذات نظام سياسي لا يتغير بتغير الحكومات اذا تبناها رجال دولة حقيقيين , ومسؤولية تحقيق هذا الهدف يقع على عاتق المكون المتحكم " مكون الاغلبية" فعادة ما تخدم هكذا تحولات مصالح المكونات الاخرى , لذلك فان المكونين الكوردي والسني لن يقفا بوجه هذا التوجه , لكن هل ان الاطراف السياسية الشيعية مستعدة لهذا التحول ؟
في الحقيقة ان الملفات العالقة بين المكونات العراقية لا ترقى الى ان تسمى بمشاكل سياسية وهي ليست مستعصية على الحل شرط ان تكون النوايا حسنة وتكون هناك ارادة حقيقية لحلها , فقد استنزفت القدرات المالية والبشرية والسياسية للعراق خلال قرن من الزمن ولا تزال , وهناك اطراف خارجية واطراف داخلية تابعة لتلك الاطراف الخارجية تدرك ان تصفير المشاكل هذه لا يصب في مصلحتها...