شفق نيوز/ الغيوم تتلبد في سماء إقليم كوردستان، لكنها لا تبشر بالامطار وانما بأجواء سياسية قاتمة تثير مخاوف مواطني الاقليم من كورد وغيرهم، من ان الخلافات القائمة منذ نحو 60 عاماً، لم توضع على سكة الحلول الجذرية وإنما على نيران الانتظار والتأجيل.
وتنذر الخلافات والتوترات التي تم اجترارها منذ عشرات السنين، بالقضاء على كل الانجازات المحققة والتضحيات السخية التي بذلت من أجل قيام الإقليم، وتحقيق الاستقرار الذي حرمت منه مكوناته طويلا، سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ما لم تخرج القيادات "المسؤولة" عن سياسة المناكفة الحزبية.
ومن غير الواضح ما إذا كان غياب الهالة الكبيرة التي كان يتمتع بها "مام جلال" طالباني، ساهم في خلق فراغ دخلت عبره المزيد من ملفات التوتر والصراع، ام ان سوء التفاهم المتفاقم بين الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني، هو العنصر الأساسي الذي يؤجج الصراع وأدواته، بما في ذلك الاغتيال الذي أوقع قبل شهور قليلة قياديا أمنيا بارزا.
لكن المؤكد، كما يلاحظ مراقبون، ان الأزمة تشتد قتامة بين الحزبين، وبرزت صورتها امام الجميع من خلال تبادل الاتهامات والانتقادات في بيانات علانية، مثلما جرى قبل ايام بين رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني وبين قيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني.
بالأمس فقط (الثلاثاء) كان الزعيم الكوردي مسعود بارزاني يؤكد خلال لقائه وفدا امريكيا رفيع المستوى أنه يجب إجراء انتخابات نزيهة وشفافة في الإقليم خلال هذه العام، وأنه لن يتم قبول أي عذر لتأجيلها. معربا عن أمله في أن يستمر الاجتماع والتنسيق بين الأحزاب السياسية من أجل التغلب على التحديات ودعم حكومة الإقليم.
من جهته، كان رئيس الاقليم نيجيرفان بارزاني كسر المياه الراكدة في أيار/مايو الماضي عندما قام بخطوة انفتاح لافتة بزيارته الى مدينة السليمانية حيث اجرى محادثات مع رئيس الاتحاد الوطني الكوردستاني بافل طالباني، وغيره من القيادات السياسية والحزبية، حيث اكد على "اهمية الحوار بين الاطراف السياسية والانسجام والعمل المشترك ووحدة الصف بين الاطراف الكوردستانية"، موضحا ان "وحدة الصوت" سيكون لها "تأثير ايجابي على الأوضاع العامة في الاقليم وتقوي مكانة كوردستان في بغداد".
كان ذلك بمثابة "المظلة الجامعة" لكل الاطراف كما تمنى وقتها.
لكن الموازين تتوقف عند سلسلة من الأحداث التي تلت ذلك، من بينها، اغتيال القيادي الاستخباراتي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر هاوكار الجاف، والتوتر الذي رافق تصميم الاتحاد الوطني الكوردستاني على التمسك بمرشحه لمنصب رئيس جمهورية العراق، ثم تلويحات من قيادات سياسية في الاتحاد الوطني الكوردستاني بـ"انفصال" السليمانية وحلجبة وكرميان ورابرين عن الإقليم، ومقاطعة وزراء الاتحاد جلسات الحكومة في اربيل، وشكوى رئاسة حكومة الاقليم من ان الحزب الرئيسي في السليمانية لا يسلم ايرادات منافذ حدودية للحكومة، بينما ينتقد الاتحاد الوطني حكومة مسرور بارزاني بانها لا تتبع الإنصاف في توزيع الرواتب والعائدات بين مختلف مناطق الإقليم، متهما الحكومة بفرض "حصار مخطط له" على السليمانية.
لكن الازمة أبعد من ذلك، حيث ان الخلاف بين الحزبين، يعود الى ستينيات القرن الماضي عندما انفصل ابراهيم احمد، والد زوجة الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، عن الحزب الديمقراطي الكوردستاني بزعامة الملا مصطفى بارزاني أثناء انتفاضة الشعب الكوردي للحصول على حقوقه من الحكم الجمهوري في ما سمي فيما بعد ب"ثورة ايلول".
وتلفت الى انه بعد المؤامرة الدولية على الكورد باتفاقية السادس من اذار/مارس العام 1975، والتوقف المؤقت للكفاح المسلح، قام طالباني بتأسيس حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني في العام نفسه ونشأت منذ البداية علاقة يسودها التنافس والتوتر والصراع، ولم يتردد الطرفان في الاحتكام إلى السلاح في عدد من المناسبات (كما جرى مثلا في الاعوام 1978، و1994 ثم معارك العام 1995 التي استمرت حتى 1998)، وتقاسما مناطق النفوذ في كوردستان العراق.
ويخشى كثيرون الآن ان يتسبب الصراع الحزبي في ضياع المنجزات التي تحققت بعد الفرصة التي أتاحها إسقاط نظام صدام حسين من جانب التحالف الدولي العام 2003، حيث يذكر الكورد، والعراقيون عموما، كيف لعب مسعود بارزاني وجلال طالباني، في قيام الحكومة الانتقالية العراقية ووضع الدستور الدائم للبلاد حيث توحد الصوت الكوردي الى حد كبير خلال المفاوضات التي جرت مع القوى السياسية الأخرى لصياغة شكل الحكم والدستور وتقاسم المواد والسلطات.
والان، يتخوف المراقبون من أن عدم وضع حد للخلافات بين الطرفين حاليا، فانه حتى الحلول ستكون مؤقتة وفي بعض الاحيان ستكون نوعا من انواع الادارة للصراعات، ولن يسير العمل الحزبي والسياسي والبيشمركة والعمل العسكري كما يفترض به ان يكون، ما يعني ان المستقبل الموحد لاقليم كوردستان، غير مؤكد في ظل وجود صراعات وغياب سلطة موحدة وسيادة القانون والاستراتيجية الوطنية.
ويشير المراقبون إلى أن الخلافات القائمة تتعلق بقضايا أساسية، بما فيها الخلاف بين الأحزاب المشاركة في الحكومة حول كيفية إدارة الحكومة، ما يشير الى أنه لم يعد هناك معنى للسلطة والمعارضة والحياة الحزبية والسياسية ولا حتى لوجود البيشمركة.
ويضيف المراقبون انه من الطبيعي أن يجتمع الطرفان، لكن السؤال هو عما اذا كانت الاجتماعات تمثل أهمية كبيرة وبالامكان المراهنة عليها كثيرا، معربة عن اعتقادها ان ذلك مستبعد لانهم لن يتطرقوا الى جذور المشاكل التي يدور حولها الصراع منذ عشرات السنين وانقسام اقليم كوردستان والفساد وغياب الدستور وغياب الحكم المؤسسي، وهم بالتالي يتعاملون مع النتائج الناجمة عن الأحداث.
وكما يبدو، فإنه ما من حل لا يبدأ عبر تطبيع العلاقات بين الحزبين، اذ يتحتم عليهما بدء حوار وطني الذي يجب ان يقود الى تسوية وسط تاريخية، تضع الاقليم في مرحلة جديدة وطوى فيها الصراع، وتبدأ مرحلة انتقالية في كوردستان ويتم تعزيز المؤسسات، ثم يكون هناك التنافس الطبيعي والديمقراطي في إطار كل ما تم الاتفاق عليه.
وبحسب مراقبين أكدوا لمراسل شفق نيوز ان حدة التوترات اشتدت على إثر اغتيال العقيد هاوكار الجاف في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وخصوصا بعد اتهام اعضاء امنيين كبار في الاتحاد الوطني بعملية اغتياله، بينما نفى الاتحاد الوطني الكردستاني بشدة تورطه في الاغتيال وطلب إجراء تحقيق شامل في الحادثة، لكنه حث حكومة إقليم كردستان أيضا على عدم نشر أسماء الجناة المتورطين. إلا أن الإدارة بقيادة بارزاني ومجلس أمن كوردستان نشرت أسماء الجناة واعترافاتهم على أي حال، ما زاد من حدة الخلاف.
لكن بحسب الكاتب والصحفي سربست برزو في حديثه لوكالة شفق نيوز، فان محور الإشكال بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني عدم وجود جهة تمثل الجميع في الاتحاد الوطني، مما جعل من عملية التواصل تكون بمستوى غير مطلوب، حيث ان الاتحاد الوطني لا يمتلك خطابا موحدا ولا يمتلك قيادات تمتلك الحنكة الكافية بسبب تعدد الأجنحة داخله.
وأوضح برزو "نحن نجد في كل فترة واخرى ظهور قيادة وشخصية جديدة تتخذ القرارات، فالديمقراطي لا يعرف مع من يتحدث، فهل هو يتحدث مع رئيس الحزب ام مع الاجنحة والتيارات داخل الحزب، مشيرا الى ان الديمقراطي لا يمتلك خصومة مع اي حزب او طرف لكن البعض يتعامل مع الديمقراطي على اساس الخصومة والكل يعرف ان الاتحاد الوطني يقع تحت وصاية دولة جارة وياخذ كل مواقفها من تلك الدولة دون ان يسميها .
كما انتقد برزو موقف الاحزاب الاسلامية الكوردية والذي وصفهم بانهم يصبون الزيت على النار وهم من يساهم في افتعال الازمات ولا يمتلكون مواقف فعالة ومؤثر.
ولا يستبعد برزو ان تؤثر الخلافات بين الحزبين على العلاقة بين المركز والاقليم اضافة الى تأثر الموقف الكوردي في بغداد وكذلك سيكون للخلافات وقع كبير على المناطق المتنازع عليها لان تلك المناطق بحاجة الى موقف كوردي موحد، اولا، لان المواطنين ينتظرون في تلك المناطق وخصوصا من الحزبين الرئيسيين الدخول بقائمة موحدة في الانتخابات المقبلة حتى يتجه الكورد بموقف موحد لحل مشكلات المناطق المتنازع عليها.
ويدعو الباحث والكاتب الكوردي عدالت عبدالله في حديثه لمراسل لوكالة شفق نيوز الى تبني شعار عقلاني من خلال الحوار الذي لا بديل له، كما دعا رئيس الحكومة مسرور بارزاني الى تقديم أي مبادرة تعيد لم شمل طاقمه الوزاري وتوحيد موقفهم تجاه الملفات الخلافية لأن أي تشنج داخل الكابينة ينعكس سلباً على السوق والإعلام وأحوال المواطن. وبالاضافة الى ذلك، دعا الى الأحزاب السياسية الأخرى، لاسيما من هم لهم مكانة سياسية ومقاعد برلمانية في إقليم كوردستان أن يلعبو دوراً إيجابياً في إحتواء التوتر حيث أن الحزبين الرئيسيين، بحاجة إلى "وساطة وطنية".
وفي الوقت نفسه، اعتبر أنه كان يتحتم على الحزب الديمقراطي أن يراعي الأوضاع الداخلية لشريكه السياسي في الحكومة وعدم التدخل مباشرة أو ضمنياً في أي خلافات داخلية للإتحاد الوطني لأن ليس هناك أي حزب يخلو من الخلافات والصراعات فما بالك بحزب على غرار الإتحاد الوطني.
كما اعتبر أنه كان من المفترض ان يبادر ويساهم الديمقراطي الكوردستاني في عدم تفاقم الخلافات داخل صفوف شريكه السياسي والإداري لأن ذلك سينعكس سلباً على استقرار الكابينة الوزارية أيضاً.
الى ذلك، يقول المراقب المستقل فاخر عز الدين لمراسل لوكالة شفق نيوز ان الخلافات حول النفط والغاز في مناطق اقليم كوردستان أدت إلى المزيد من الخلافات المالية الكبيرة، فوفقًا لتفاهم مسبق، يتم تقسيم ميزانية ودخل إقليم كوردستان بين مناطق نفوذ الحزبين على أساس مبدئي (57% لمنطقة الحزب الديمقراطي الكوردستاني (المنطقة الصفراء) و43% لمنطقة الاتحاد الوطني الكوردستاني (المنطقة الخضراء)، ولكنهما تبنيا منذ ذلك الحين وجهات نظر متباينة بشكل متزايد حول كيفية تخصيص دخل المنطقة.
وأوضح عز الدين انه من منظور بارزاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني، يجب على حكومة الإقليم دفع رواتب المحافظات وتحديد ميزانياتها بناءً على دخل كل منهما، ومقابل هذه الرؤيا، يقترح طالباني والاتحاد الوطني الكردستاني أن تجمع حكومة إقليم كوردستان كل المداخيل من إقليم كوردستان ومن ثم توزعها على جميع المناطق بحسب الحاجة.
ويضيف عز الدين "يزعم قادة الاتحاد الوطني الكردستاني أن دخل محافظة السليمانية، بين عائدات النفط والضرائب ودخل معبرين حدوديين دوليين، لا يزال غير كافٍ لتغطية الاحتياجات الأساسية لميزانية المحافظة ورواتبها، فقد تسبب نقص الأموال بأزمة أجور في مناطق السليمانية مثل حلبجة وگرميان ورابرين، ما أدى إلى تأخر توزيع الرواتب".
كما يؤكد عزالدين انه في منطقة الاتحاد الوطني الكوردستاني، يبدو إنتاج الغاز الطبيعي واعدا، اذ بلغ معدل إنتاج حقلي نفط خور مور وجمجمال في نهاية العام 2021 مثلًا 452 مليون متر مكعب يوميا، وفقا لمشروع جديد بين شركة "دانة غاز" والمؤسسة الأمريكية للتنمية المالية المعروفة باسم (KM250)، مضيفا ان التقديرات تشير الى أن غالبية الغاز الطبيعي في إقليم كردستان قد يكون تحت سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني، وهذا ما يدفع شركات مثل دانة غاز باتجاه توسيع العمليات".
ويشير الى انه فيما يتعلق بحقل خور مور، تتوقع "دانة غاز" وصول الإنتاج إلى 700 مليون متر مكعب يومياً بحلول نيسان/إبريل 2023، وبعد ذلك، يهدف مشروع (KM500) قيد التنفيذ، إلى إنتاج مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميا.
مع حلول السنة الميلادية الجديدة، أعلن نيجيرفان بارزاني في التهنئة، انه "ينبغي أن تكون مصالح شعب كوردستان الغاية الرئيسة لنا جميعاً، فلنتخذ مع مطلع السنة الجديدة من وحدة الصف والوئام والتلاحم وقبول الآخر والتعاون المشترك صحيفة جديدة للعلاقات بين القوى والأطراف السياسية وجميع مكونات اقليم كوردستان. لنعمل معاً على حماية وضمان الحقوق الدستورية والفيدرالية وحل الخلافات مع الحكومة الاتحادية العراقية على أساس الدستور".
كانت تلك رسالة جديدة تعيد التذكير بالثوابت البديهية لما يجب ان يكون، وكما هو أداؤه الذي تناولته وكالة "رويترز" في كانون الأول/ديسمبر الماضي حول الخلافات الكوردية-الكوردية التي تثير قلقا في واشنطن، والتوتر المتصاعد جراء موجة من الانشقاقات داخل الاجهزة الأمنية التابعة للاتحاد الوطني الكوردستاني، وكيف ان نيجيرفان بارزاني، وبرغم انتمائه الى الحزب الديمقراطي الكوردستاني، تحرك لنزع فتيل الخلاف في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عندما اقترب مسلحون تابعون لرئيس استخبارات الاتحاد الوطني السابق سلمان أمين من منزل قوباد طالباني في اربيل، مهددين بمهاجمته، لولا تدخل رئيس الإقليم الذي عاد وتدخل مجددا عندما توجه بافل طالباني برفقة قوباد والعشرات من عناصر الامن وبينهم أحد المطلوبين في اغتيال العقيد هاوكار، الى اربيل، في خطوة وصفت بانها "مستفزة"ن ولم تتمكن من مغادرة المطار بعدها سوى بعدما تدخل نيجيرفان بارزاني.
لطالما وصف الكورد، بانهم "الرابح الأكبر" من سقوط صدام حسين، لا بالنظر الى حجم دمائهم المسفوكة في عهد فقط، وانما لانهم حققوا مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية استثنائية، بينما يشعر المراقبون، كما العديد من الكورد، بان "الانجازات" كلها مهددة، طالما لم تفتح ابواب المصالحة الحقيقية على مصراعيها.