كل المهتمين والمعنيين بقضية الطب في العراق يعترفون بأن هناك مشاكل غير محدودة تواجه التعليم الطبي، فلم يحدث تطوير في التعليم الطبي منذ تأسيس أول كلية طب في العراق رغم ثورة التطوير والتغيير التي حدثت في كليات الطب في العالم، لكنها لم تصل إلى العراق، فانعكس ذلك بالطبع على مستوى الخدمات الطبية وكفاءة الطبيب والتعليم الذي يعاني من حالة الانهيار. القضية خطيرة ويجب فتح هذا الملف إذا أردنا خلق منظومة صحية مناسبة ولائقة للمواطن في العراق، فأولى خطوات حل المشكلة هو أن نضع أيدينا على أسبابها. فأوضاع الطب في العراق يمكن وصفها «بالكوميدي»، وربما العبثي ولكنه وضع خطير للغاية، لأنه يرتبط بصحة العراقيين وأرواحهم..
أنقذوا التعليم الطبي في العراق، وأعيدوه إلى بريقه ورونقه، حتى يطمئن العراقيون على صحتهم، ولا يخافون من دخول أماكن العلاج الحكومية أو الخاصة.
إن العنصر الاساسي في تقديم الخدمة الطبية الجيدة في العراق هو الطبيب الكفوء، وأساس الكفاءة هو التعليم الطبي الجيد والمستمر للطبيب من خلال الدراسات العليا التي تأتي على خلفية أهمية حصوله على التدريب النظري والعملي وإرتباطه الوثيق بحياة الإنسان، على عكس المهن الأخرى. وإنه من المفترض أن كل الاطباء العاملين بالصحة يتحولون من طبيب إلى متخصص، وأن 40 % من هؤلاء الأطباء يجب أن يكونوا متخصصون في طب الأسرة والباقي في التخصصات المختلفة، وهذا لن يحدث سوى عن طريق الدراسات العليا.
إن العراق يعاني من نقص "فاحش" في التخصصات الطبية المختلفة، ويجب على الدولة أن تدعم إستمرار مسيرة تعليم الأطباء لرفع كفاءتهم بشكل مستمر وسد العجز في التخصصات النادرة. ولكن الطامة الكبرى أنه وردت لمسامعنا أنباء عن خصخصة دراسة الطب في العراق من خلال تأسيس كليات طب أهلية ستؤدي بدورها إلى هدر التعليم الطبي في العراق من خلال قبول طلبة غير مؤهلين علمياً وأكاديميا لدراسة الطب في كليات طب الجامعات الحكومية التي هي أساساً تعاني من تردّي الكفاءة في تدريس الطب وفق أحدث الطرق العالمية المتطورة لتدريس الطب. صحيح أن العراق لا زال بحاجة لأعداد كبيرة من الأطباء ولكن ذلك يجب أن لا يحدث على حساب نوعية الطبيب المتخرج وخاصة من كليات طب أهلية تفتقر إلى الأكاديميين الذين حصلوا على خبراتهم من جامعات دولية مرموقة والذين يتابعون بشغف آخر ما توصل إليه التعليم الطبي من أساليب في التدريس ومن تقييم للطالب.
وبهذا فنحن نحذر من مغبة إنشاء كليات طب أهلية ومن إهمال العدالة في توفير عناية وخدمة صحية للمواطنين، حيث أنه من الفروض أن يتم علاج المواطنين في جميع محافظات العراق على نفس المستوى، ولا يصبح هناك فرق في المستوى بين بغداد العاصمة والمحافظات الأخرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه في مصر، على سبيل المثال، هناك كليات طب بها أعداد ضخمة من أعضاء هيئة التدريس وبعضها يكفي 5 كليات طب مختلفة، في حين أن العراق يتخلف الآن عن جميع الدول العربية بأعداد الأكاديميين في كليات الطب، فكيف تسمح الحكومة إلى إنشاء كليات طب أهلية وكليات طب الجامعات الحكومية تفتقر أساساً لأكاديميين كفوئين في تدريس مفردات المنهاج الطبي بأفضل طرقه العالمية المستحدثة.
وفي العراق، إذا كانت الأوضاع داخل المستشفيات الحكومية والخاصة قد وصلت إلى هذا المستوى السيئ والمتردي ليس فقط على مستوى الخدمات الطبية وإنما أيضا على المستوى الأخلاقي والقانوني، فلابد أن هناك شيئا خطأ بل خطير أصاب التعليم الطبي في مقتل، وأدى إلى تدهور منظومة الصحة بأكملها، وهددت صحة العراقيين وراح الآلاف ضحايا للإهمال والفشل الطبي.
دعونا نقولها بصراحة إن الوهن والضعف و«الشيخوخة» قد أصابت التعليم الطبي في العراق بجميع عناصره، من الطلبة الذين تحول عدد منهم في السنوات الأخيرة إلى «تجار» عقاقير ومواد طبية، ومناهج وطرق تدريس لم تتغير منذ تأسس التعليم الطبي في العراق وكليات ودراسة تعاني الفوضى، وبالتالي تخريج طلاب فاقدين للمهارات والموهبة والالتزام بأخلاقيات مهنة الطب ومواثيقها وبقسمها المقدس، والنتيجة إنهيار في الخدمات الصحية الحكومية وتحول مستشفيات الحكومة إلى أماكن مهجورة ومأوى للقطط والفئران، ورفض علاج الفقراء إلا بعد دفع الأموال، بل ورفض استقبال الحالات الطارئة وتركها دون علاج حتى الموت، وآخرها تأسيس مستشفيات خاصة لا هدف لها سوى الربح والتربح والاتجار على حساب صحة المواطن..! علاوة على تدني مستوى العلاج حتى للقادرين أو الذين تدبروا أمورهم للعلاج في مستشفى خاص، في ظل عدم وجود البديل الحكومي. فما بالكم بتخريج أطباء حصلوا على شهادة الطب من كليات طب أهلية ... وما أدراك بالدراسة في الكليات الأهلية في العراق !!!
إن العراق يفتقر إلى مؤشرات جودة التعليم الطبي وفقاً لأنظمة عالمية مشهود لها برقي تعليمها الطبي كبريطانيا والولايات المتحدة (حيث التدريس باللغة الإنكليزية التي يجييها طالب الطب في العراق). ولهذا يجب إعادة أساس تركيب نظام التعليم الطبي في العراق إلى ما كان عليه عند تأسيس أول كلية طب في جامعة بغداد ألا وهو نظام التعليم الطبي البريطاني، الذي ثبت نجاحه لأقصى حد، وعليه يجب تشكيل مجلس تعليم طبي يعمل على وضع السياسات التعليمية الطبية في الدولة بأفضل صورها مستنداً بذلك على الأنظمة الطبية التعليمية في الدول المتطورة المذكورة أعلاه، وفي بريطانيا على وجه الخصوص.
لقد أصيب التعليم الطبي في العراق بـ"شيخوخة"، لأن مضمون المناهج وطرق التدريس لم يتغيرا منذ أنشئت أول كلية طب في جامعة بغداد، حيث منذ ذلك الوقت حدثت تطورات جديدة وكبيرة في التعليم حول العالم لم تدخل إلى كليات الطب فى العراق، بل المأساة أن مناهج التعليم الطبي والتعليم الطبي المستمر في العراق هي من أكثر المناهج تخلفاً مقارنة مع أي كلية طب عربية أخرى.
إن التعليم الطبي فى العراق "متخلف جداً"، وأن معلوماته غير حديثة تماماً كما أن هيكل التعليم وطرق التدريس فيه تنتج طلاباً لديهم ربما معلومات زائدة ولكن نقص كبير في المهارات وخصوصاً المهارات السريرية (الإكلينيكية) أو القدرة على اتخاذ القرارات السليمة. فالطب ليس علماً بايولوجيا فقط، بل يحتاج الطبيب أن يكون ملماً بعلم النفس والظروف المجتمعية التي تشهدها البلاد وعلاقتها بالأمراض، ومجموعة كبيرة من العلوم السلوكية والمجتمعية والإدارية التي يستفيد منها فى حياته، وهو ما لا يدرس فعلياً، وهذا الأمر نتج عنه فوضى في التعليم الطبي وتدهور فى المستوى ونتائجه بالطبع ضعف مستوى الخريجين.
خلال السنوات الماضية حدث الكثير من التطورات في المناهج الطبية حول العالم لكنها مازالت لم تطبق في العراق وكذلك وبشكل عام ليست كافية لتحقيق الطموح المرجو من العملية التعليمية، ولهذا فمن الضروري جداَ تكوين لجنة عليا للمناهج لمراجعة المقررات من بداية السنة الأولى للطلاب وحتى الدكتوراه لمنع وجود إزدواجية فى المناهج، وإزالة الأجزاء القديمة منها والتى طرأ عليها تطور، من خلال الاستعانة بمجموعة كبيرة من الأطباء.
التعليم الطبي فى العراق يحتاج إلى ثورة حقيقية لتصحيحه حيث أنه متدني جداً، وأن لا أمل فيه إلا بثورة حقيقية لتصحيحه. وسبب ذلك هو أن العديد من الأساتذة لا يلقون إهتماماً بتطوير التعليم الطبي ومناهجه، والمصيبة الآن هو أنه أصبح هناك وجود فرص جيدة أمام الطلبة غير الكفوئين لدراسة الطب من خلال التعليم الطبي الأهلي الموازي للدخول إلى المهن الطبية والذي أطلقه بعض المستثمرين حباً بالمال وليس بالمهنة حيث تحل رؤوس الأموال محل الكفاءة، وهذا ما يؤكد أن نتائجه ليست جيدة على الإطلاق نظراً لعدم وجود ضوابط تحكمه، مما سيؤدي إلى إنهيار المنظومة الطبية والمزاحمة بالعمل في المستشفيات والدراسات العليا.
أ. د. محمد العبيدي
بروفيسور متخصص بعلم الفسلجة والعقاقير الطبية