رغم مضي تسعة عشر عاما على إسقاط نظام صدام حسين من قبل القوات الأمريكية، لا يزال العراقيون "كما هي عادتهم دائما" غير متفقين فيما إذا كان ما حصل تحريرا ينبغي الاحتفال به، ام انه كان احتلالا، والشعوب عادة لا تحتفل بمناسبات احتلالها.
ولا ينحصر عدم الاتفاق هذا عند الشريحة المؤيدة لنظام البعث وحسب، بل حتى عند من كانوا يعارضونه من الذين خرجوا في الدقائق الأولى لدخول الدبابات الامريكية للعاصمة بغداد محتفلين بسقوط الصنم، ومن منا لا يذكر أبو تحسين الذين كان ماسكا بصورة لصدام ينهال عليه بالضرب ويبشر بنهاية حقبته البغيضة.
ان ما عكر فرحة العراقيين بسقوط نظام صدام هو اعلان امريكا رسميا بعد ايام من دخولها للعراق بان قواتها هي قوات احتلال. ورغم ذلك فان العراق "الرسمي" كان يحتفل سنويا بهذه المناسبة في السنوات الاولى من تغير النظام، الى ان تغيرت الموازين الإقليمية والداخلية وارتخت القبضة الأمريكية، فتم تسويق التاسع من أبريل اعلاميا باعتباره يوم احتلال العراق.
يجب على العراقيين التمييز بين أمرين مهمين.. الاول هو اسقاط نظام صدام بغض النظر عن تداعياته، والثاني هو تبعات "الاحتلال" الامريكي بغض النضر عن سقوط النظام. فالموضوعان منفصلان عن بعضهما، والتوقيتات مختلفة، فامريكا لم تعلن عن نفسها كقوة احتلال في 9-4 بل جاء وراءها بأيام .كذلك ليس من المنطق ان نقيم نظام صدام حسين وفق ما حصل بعد سقوطه، فسلبيات الحكومات التي جاءت بعده لا تبريء صفحته ولا تلغي جرائمه .
من المعروف ان المعارضة العراقية لم تكن لتتمكن من ازاحة نظام صدام حسين بمفردها , ولولا الغزو الامريكي للعراق لما استطاعت المعارضة العراقية من السيطرة حتى على محافظة عراقية واحدة , ولبقي نظام صدام حسين قائما الى يومنا هذا, ينتقل فيه الحكم من الاب الى الابناء ومنهم الى الاحفاد , وكما قال هو بنفسه في احدى جلسات محاكمته موجها كلامه للقاضي بانه ( لولا الامريكان لا انت ولا ابوك كنتوا تقدرون تجيبوني هنا)، وطبعا لم يكن ذلك لقوة صدام حسين ولا لذكائه الخارق وانما بسبب ضعف تلك المعارضة وتشتتها , وكونها لم تكن بمستوى ذلك الحدث , تماما مثلما هم ليسوا بمستوى ادارة البلد منذ الالفين وثلاثة ولغاية يومنا هذا , وما نشهده اليوم من انسداد سياسي يندرج تماما ضمن نفس الاسباب .
لقد جبلت الطبيعة البشرية على امرين...رفض اي احتلال خارجي , ورفضها بان تحكم بالحديد والنار من قبل دكتاتوريات محلية , وهذه حقائق ثابتة لا يمكن الجدال حولها , وبذلك كان العراقيون امام خيارين وهما... اما القبول باحتلال خارجي ينقذهم من الدكتاتورية المحلية , او الرضوخ لتلك الدكتاتورية المحلية لاجيال واجيال .
ماحدث بعد الالفين وثلاثة اثبت ان الاحتلال الاجنبي القادم من وراء المحيطات على بعد الاف الاميال اهون بكثير من دكتاتورية محلية تجثم على صدر الشعوب. فبعد سنوات قليلة من دخول الامريكان بدأت مفاوضات جدية بينها وبين الحكومة العراقية لتغير العلاقة بين الطرفين وذلك من علاقة احتلال الى علاقة اتفاقيات امنية تضمن حقوق ومصالح الطرفين . ولكي نكون واقعين فان القبول الامريكي بالانسحاب من العراق لم يكن ليتم لولا بعض المواجهات المسلحة التي تعرضت اليها القوات الامريكية في العراق من قبل مجاميع مسلحة صغيرة . فان كانت تلك المجاميع المسلحة قد نجحت بدفع القوات الامريكية للخروج من العراق , الا انها لم تكن بالمستوى الذي تستطيع من خلال عمليات قليلة وغير مؤثرة من ازاحة نظام دكتاتوري محلي كنظام صدام حسين يسيطر على المؤسسات الحكومية ويمتلك عمقا شعبيا من المنتفعين , ويتعامل بالحديد والنار مع معارضيه.
المفارقة ان من يصفون التاسع من ابريل على انه يوم احتلال للعراق، هم اكثر من استفاد من ذلك الاحتلال, فوجود اكثرهم اليوم في العملية السياسية لم يكن ليحصل لولا "الاحتلال" الامريكي، ولا اتصور ان اعتبارهم ذلك اليوم يوم احتلال يأتي لوطنيتهم المفرطة والا لما أباحوا العراق لقوى اخرى في المنطقة، ليضيفوا احتلالات اقليمية على الاحتلال الامريكي للعراق.
وهنا يبرز سؤال اخر وهو، هل الاحتلال الامريكي الآتي من وراء البحار اهون على العراق ام الاحتلال السياسي والامني والاقتصادي لقوى اقليمية؟
وهنا يجدر الاشارة بداية الى نقطة مهمة وهي، ان كلمة الاحتلال لا تستقيم مع الوضع الامريكي في العالم، فالامريكان هم قدر العالم المعاصر شاء من شاء وابى من ابى , ليس لدول الشرق الاوسط فحسب بل لكل دول العالم وحتى للدول الاوروبية، وعلاقتها مع مناطق نفوذها عادة ما تكون علاقة مبنية على مبدأ المصالح المتبادلة، بالاعتماد على الناحية الاقتصادية اكثر من السيطرة العسكرية المباشرة.
وكان بإمكان الساسة العراقيين الاستفادة من تبادل المصالح هذه لما فيه خير العراق كما حصل في دول اسيوية كثيرة , لكنهم فشلوا في هذا المجال ايضا .وبدلا من ذلك فسحوا المجال لقوى اقليمية جديدة لاحتلال العراق وايجاد توازن بين القوى الاقليمية والقوى العظمى على الساحة العراقية , دون ان ينتبهوا ان القوى الاقليمية هذه لا تزال تتبنى لغاية اليوم المفهوم القديم للاستعمار , فهيمنت على العراق سياسيا وامنيا واقتصاديا دون ان يحصل العراق على اي مقابل من وراء ذلك .
فاذا كنا نتحدث عن "الاحتلال" الامريكي للعراق فعلينا الحديث عن الاحتلالات الاقليمية ايضا ... فان كنا نعرف تاريخ "الاحتلال" الامريكي للعراق , فهل من سياسي يخبرنا متى وفي اي يوم احتل العراق من قبل بقية الدول التي تجول وتصول على الساحة العراقية اليوم؟