الحديث عن الخلاف بين الحوزتين النجفية والقمّية حول مبدأ ولاية الفقيه هو حديث دعائي أو انفعالي، بعيد عن لغة العلم والواقع. وأوضّح هنا أهم ما يتعلق بدائرة الخلاف:
1ـ إنّ ولاية الفقيه مقولة فقهية تخصصية، وليست مقولة سياسية أو مناطقية، ولا علاقة لها بمتغيرات السياسة وعموم الشأن العام. أي أنّ بحثها ومقاربتها مهمة الفقهاء حصراً؛ شأنها شأن أي موضوع فقهي آخر يدخل في أبواب العبادات والمعاملات. ومن غير المجدي ولا الصحيح أن يكون موضوع ولاية الفقيه مادة صحفية أو سياسية أو دعائية خاضعة للمزايدات والانفعالات والمزاجيات الشعبوية، مآلها الفتنة بين أتباع مدرسة آل البيت. وهو ما يتسبب فيه أنصار الفقهاء القائلين بخصوصية الولاية والقائلين بعموميتها، أو المزايدين المنفعلين المناطقيين، وأغلبهم لا يعي البعد الفقهي التخصصي للموضوع، ولا مساحات الخلاف ومناطاته. حتى باتت هذه الانفعالات والمزايدات ثغرة ينفذ منها خصوم الشيعة الداخليين والخارجيين؛ لتمزيق الواقع الشيعي.
2ـ ليس هناك فقيه شيعي في التاريخ وفي الحال الحاضر لا يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه ولا يطبقه؛ إذ لا يكون الفقيه فقيهاً إذا لم يكن يعتقد بمبدأ ولاية الفقيه؛ بل لا يوجد شيعي في العالم يقلد فقيهاً وهو لا يؤمن بولاية الفقيه؛ لأنّ مآل زعم عالم الدين بأنّه مجتهد أو مرجع تقليد؛ هو تطبيق مبدأ ولاية الفقيه عملياً؛ فكل فقيه لديه ولاية تلقائية على الفتوى وعلى الحقوق الشرعية وعلى القضاء وعلى الأُمور الحسبية. والمقصد الشرعي للحسبة هو حفظ النظام العام للمجتمع، ودرء المفاسد عنه وجلب المصالح له. وإذا رفض الفقيه هذه الولاية فلا معنى لاجتهاده وتقليده. أمّا المكلّف الشيعي؛ فإنّ تقليده مرجعاً دينياً يعني أنّه تولاه في أُموره الدينية الفقهية، وآمن عملياً بولاية الفقيه الذي يقلده، وطبّقها على نفسه في جانب الفتاوى والأحكام الشرعية، وجانب الحقوق الشرعية التي يقدمها للمرجع من خمس وغيره، وجانب التقاضي عند هذا المرجع، إضافة إلى التزام فتاواه وتوجيهاته في الأُمور الحسبية. وهذه كلها أجزاء لا تنفصل من ولاية الفقيه.
3ـ إنّ الخلاف بين الفقهاء في موضوع ولاية الفقيه خلافٌ علمي بحت، وهو ليس خلافاً في أصل مبدأ ولاية الفقيه؛ بل في مساحاته. ويعود الخلاف إلى القراءات المختلفة لمصادر الاستدلال الفقهي، ووعي مقاصد الشريعة وغايات النظام الفقهي، وهو لا يختلف بتاتاً عن الخلاف بين المراجع في أيّ موضوع فقهي آخر في أبواب العبادات والمعاملات. وأبرز مساحات ولاية الفقيه المختَلف عليها بين الفقهاء هي مساحة الحكم؛ أي الولاية على الحكم. فالفقهاء الذين قادتهم أدلتهم إلى شمول الولاية لموضوع الحكم؛ يعتقدون بولاية الفقيه العامة. أمّا الفقهاء الذين لم يقتنعوا بأنّ الأدلة تفيد بشمول الولاية لموضوع الحكم؛ فإنّهم يعتقدون بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية التي تقتصر على موضوعات الفتوى والقضاء والمال الشرعي والحسبة. بل إنّ هناك خلافاً بين الفقهاء المعتقدين بولاية الفقيه الخاصة، بين من يوسع دائرة الأُمور الحسبية العامة وبين من يقلصها. وهناك خلاف أيضاً بين الفقهاء المؤمنين بولاية الفقيه على الحكم، بين من يقيدها بالقانون (الدستوري والدولي) وبين من يطلقها، لتكون متقدمة على القانون.
4ـ إنّ الخلاف بين الفقهاء حول مساحة ولاية الفقيه، تخصيصاً وتعميماً وإطلاقاً؛ لا علاقة له بالنجف وقم، ولا بأية حوزة علمية أُخرى؛ فهناك فقهاء معاصرون في النجف يعتقدون بولاية الفقيه العامة، وآخرون يعتقدون بولاية الفقيه الخاصة. فمن خلال مراجعة كتاب «عقائد الإمامية» للفقيه النجفي الشيخ محمدرضا المظفر (ت 1964) ـ مثلاً ـ سنجد أنّه أشار إلى ولاية الفقيه العامة المطلقة منذ خمسينات القرن العشرين الميلادي(1)، أي قبل أن يطرحها الإمام الخميني ويفصِّلها في النجف في أواخر ستينات القرن الماضي. ومن فقهاء النجف الذين طرحوا ولاية الفقيه العامة بالمساحة نفسها التي يقول بها الشيخ المظفر، يمكن الإشارة إلى السيد محمدباقر الصدر(2)، والسيد محمد الصدر(3)، والشيخ إسحاق الفيّاض(4) وغيرهم. وفي المقابل هناك مراجع وفقهاء كبار أحياء في حوزات قم وطهران ومشهد لا يعتقدون بولاية الفقيه العامة. وبالتالي؛ فإنّ من يقول بأنّ مبدأ ولاية الفقيه العامة هو مبدأ فقهي قمّي أو إيراني، فهو يجهل بديهيات البحث الفقهي، أو أنّه يهدف إلى إيجاد موضوع للخلاف بين الحوزتين لأغراض سياسية وطائفية.
5ـ إنّ السبب في انتشار مبدأ ولاية الفقيه العامة بين فقهاء قم، وانتشار مبدأ ولاية الفقيه الخاصة بين فقهاء النجف، يعود إلى قضية فنية بحتة لها علاقة بالجغرافيا فقط؛ فالإمام الخوئي الذي يقول بولاية الفقيه الخاصة، كان يقيم في النجف، والإمام الخميني الذي يقول بولاية الفقيه العامة كان يقيم في قم. ولذلك؛ فإنّ من الطبيعي أن يكون أغلب تلاميذ الإمام الخوئي يقيمون في النجف، وقد ورثوا من أُستاذهم القناعة العلمية نفسها، وفي مقدمهم السيد علي السيستاني. أمّا تلاميذ الإمام الخميني، فإنّ أغلبهم يقيم في قم، وقد ورثوا من أُستاذهم القناعة العلمية نفسها، وبينهم السيد علي الخامنئي (5). وهناك من تلاميذ السيد الخوئي الأحياء في النجف من يعتقد بولاية الفقيه العامة، كالشيخ إسحاق الفيّاض، خلافاً لمبنى أُستاذه. وهناك من تلاميذ الإمام الخميني في قم من لا يؤمن بولاية الفقيه العامة، خلافاً لرأي أُستاذه أيضاً. بل إنّ ثلاثة من أبرز مراجع قم الكبار الأحياء، من تلاميذ السيد حسين البروجردي؛ يقولون بولاية الفقيه العامة؛ خلافاً لمبنى أُستاذهم البروجردي، وهم: الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ومبناهم الفقهي في هذا المجال يتطابق مع مبنى الإمام الخميني. وبالتالي؛ فإنّ موضوع الخلاف حول مساحات ولاية الفقيه لا علاقة له بخلاف مزعوم بين حوزتي النجف وقم؛ بل برؤيتين علميتين لمدرستي الإمام الخوئي والإمام الخميني، وهما المدرستان الفقهيتان المعاصرتان الأبرز حضوراً في الوقت الحاضر.
6ـ إذا كان مرجع النجف السيد علي السيستاني (6) يعتقد بولاية الفقيه الخاصة، أي عدم شمولها على موضوع الحكم؛ فإنّما هو اجتهاد شخصي، وليس مبنىً نجفياً، ومن الممكن مستقبلاً صعود فقيه لموقع المرجعية العليا يعتقد بولاية الفقيه العامة، وسيكون مبناه اجتهاداً شخصياً أيضاً. ولكن ستكون له تبعاته على الشأن العام دون شك. وربما يحدث الأمر نفسه في حوزة قم. فالسيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني (ت 1994) الذي تفرد بكرسي المرجعية العليا في قم بعد وفاة الإمام الخميني، والشيخ محمد علي الأراكي (ت 1993)؛ لم يكونا يعتقدان بولاية الفقيه العامة، فضلاً عن المطلقة. كما أنّ أبرز مرجعين حالياً في قم، وهما: الشيخ حسين الوحيد الخراساني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي؛ الأول يؤمن بولاية الفقيه الخاصة بمساحتها الضيقة كما هو مبنى أُستاذه السيد الخوئي، والثاني يؤمن بولاية الفقيه العامة المطلقة كما هو مبنى الإمام الخميني. أي أنّ مبدأ ولاية الفقيه العامة ليس مبنىً قمياً. وبالتالي؛ فإنّ هذا الموضوع ـ کما قلت ـ هو موضوع اجتهادي شخصي للفقهاء، ولا علاقة له بجغرافيا الحوزة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه «عقائد الإمامية»، عقيدتنا في المجتهد، ص 34.
(2) السيد محمدباقر الصدر في مجموعة دراساته المجموعة في كتاب «الإسلام يقود الحياة».
(3) السيد محمد الصدر في كتابه «مبحث في ولاية الفقيه» الذي نشره في العام 1970 وتقريرات دروس أستاذه الإمام الخميني في ولاية الفقيه.
(4) الشيخ إسحاق الفيّاض في كتابه «أنواع الحكومات».
(5) السيد علي الخامنئي في كتابه «الحكومة في الإسلام».
(6) السيد علي السيستاني في تقريراته «الاجتهاد والتقليد والاحتياط»، ص68 ـ 120.