مئة سنة ميلادية مضت على تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921-2021، مئوية برصيد صفري لدولة تقف على حافات الإنهيار، وحزمة تهديدات وجودية أقلها خطورة شبح الفساد الذي صار يشغل الآليات الغاطسة للدولة -اللادولة، والإفلاس الذي يتراكم بعجز مالي سنوي وأزمات متداخلة ومركبة ليس بمقدور السلطات تفكيكها ومعالجتها.
مئوية ..وليس بمقدور العراق أن يحتفل بانجازاته خلال مئة عام ، ذلك لعدم وجود إنجاز يعطي لنا تميزا بين الدول والمجتمعات وهي تتسابق بالعلم والمبتكرات والصناعة والتقنيات والزراعة والاستثمار ومعدلات النمو والتنمية المستدامة وتطوير ثرواتها الوطنية .
مئوية احتفال رسمي بكلمات انشائية بائسة للحكومة وعروض موسيقية وشعرية تستعير من زمن كلكامش والتاريخ السحيق بتكرار ممل ودون حياء أو كمن يستلف من بنك مغلق . دون توفر قدرة حتى على قراءة المستقبل ورؤية مايترتب على العراقيين من ادوار لمغادرة واقع الحال، والتوجه نحو الزمن المقبل وما يحمل من الاحداث أو مقومات النهوض والخروج من خانق الأزمات .
مئوية تحل على البلاد دون قدرة أو شجاعة على مراجعة أخطاء وإنهيارات النصف الثاني من هذا القرن الدموي للعراقيين جميعا، مئوية وسط احتلالات متنوعة وميليشيات متمردة ودواعش بعناوين متعددة وتخلف اجتماعي غير مسبوق، وتراجع ثقافي خطير و .. ومخاوف شعبية من تصادم مسلح واقتتال بين فصائل واحزاب تروم التمسك بالسلطة وللأبد .
دراما تتصف باللامعقول حين يمضي العراق في النصف الأول من القرن نحو التقدم بالصناعة والزراعة والتجارة والتقنيات الحديثة والثقافة والفنون والآداب والقانون والقضاء، ثم يبدأ بهوط متسارع في النصف الثاني من القرن حتى يبلغ مرحلة تقارب الصفر المئوي على ايقاع الاحتفال المئوي، نصف قرن من الدكتاتورية والحروب والتهجير والطائفية والافكار الظلامية والنزاعات المسلحة لتجار الحروب والطائفية كانت كافية لإنجاز خراب شامل للعراق، وهذا ماحدث على نحو شاذ واستثنائي في التاريخ .
يكتسب الزمن -الوقت أهمية قصوى عند المجتمعات الحية، إذ ترتبط جميع الانجازات ومشاريع البناء والتقدم والاستراتيجيات بالزمن، الأمر الذي يجعلها تطل على المستقبل وهي تعلم ماذا تريد، بخلاف مجهولية المستقبل للعراقيين وهم يدلفون للمئة الثانية من تاريخ دولتهم وكأنهم ضيوف على الآدمية كما يقول محمود درويش .
المفارقة المؤلمة أن يبدأ القرن الأول للدولة العراقية الحديثة برعاية نخب عديدة بالفكر والفلسفة والادارة والطب والتجارة والاقتصاد والصناعة والبناء والعمارة والتخطيط وبسياقات نمو متصاعدة حتى تبلغ ذروتها في خمسينات وستينات القرن الماضي، ولعل أهم ميزات تلك النهضة هو الطابع المديني والانفتاح على ثقافات جديدة واخرى متنوعة المشارب والاتجاهات، لكننا اليوم نفتقد لذلك الفيض من الكفاءات والقدرات التي ارتبطت بمواطنية الدولة والسعي لانجاز بنائها بحداثة التكوين والتميز الاقليمي والعالمي .
أن ماتحقق عراقيا من تقدم في نصف الأول من عمر الدولة، أي من عشرينات القرن الماضي الى سبعينات القرن، فقده العراق في الخمسين سنة اللاحقة عندما بدأت سلطات الدولة تختزل في يد الدكتاتور ونظامه الشمولي ونزعته الدموية في اعدام معارضيه وغلق نوافذ التنوع والتعدد والروح المدينية، بل قدم الولاء الشخصي والحزبي وتكريس ثقافة العشيرة وكل ماتستدعيه الحروب من بيئة واجواء اجتماعية تشجع مظاهر النفاق والكذب والازدواجية السياسية التي اصابت المواطنة بالأختفاد القسري، حتى أنتهينا الى مجتمع تغلب عليه سلوكيات العنف ومهيأ لاستقبال الطائفية وثقافة الكراهية التي جاءت بها احزاب الاسلام السياسي، وأحالته لمجتمع مريض منفصل عن ماضيه ، أي مصاب بشوزفرينيا يصعب شفاءها بوقت قريب ، خراب الإنسان تمثل الخسارة الكبرى في المجتمعات المتشظية عرقيا وطائفيا .