قرّر البنكُ المركزي العراقي، الخميس 24/10/2024، خَفْضَ سعر الفائدة السنوي بينه وبين المصارف المسجلة لديه من 7.5% إلى 5.5%، وإعادةَ تفعيلِ العمل بالأوراق المالية (شهادة الإيداع الإسلامية والحوالات النقدية) بينه وبين المصارف العاملة في العراق، بعائد سنوي مقداره 4% لأجل 14 يومًا، وعائد سنوي مقداره 5.5% لأجل 182 يومًا. علما بأنه حدّد السقف الأعلى للاستثمار بما لا تتجاوز نسبته 50% من إجمالي ودائع القطاع الخاص لدى المصرف، وألّا يتجاوز سقف الاستثمار للمصرف في المزاد الواحد (500) مليار دينار عراقي.

ماذا يعني هذا القرار

يُفهَمُ من هذا القرار ما يلي:

1- أن البنك المركزي قد خفّض سعرَ الفائدة على الإقراض للمصارف العاملة في العراق بمقدار 2%، وعزا ذلك إلى رغبته في تحفيز الاستثمار المحلي وتوجيه السيولة نحو استثمارات بديلة، وتنمية الاقتصاد الوطني وخلق الاستقرار.

لقد تناسى البنك المركزي، عمدا، أن يشير إلى أن هذا الخفض في سعر الفائدة هو لصالح المصارف، وليس لصالح الشركات والأفراد، إذ لا تقوم المصارف، بناءً على خفض البنك المركزي سعر الفائدة لصالحها، بخض أسعار الفائدة على إقراض الشركات والأفراد بنفس النسبة، كي يشملها هذا الدعم، وتتحول السيولة إلى وجهات التنمية والاستثمار.

لذلك، يظهر جليا، أن هدف البنك المركزي هو توفير السيولة لبعض المصارف، وليس للمواطنين، كي تتمكن هذه المصارف من إقراض الفئة المُتنفِّذة التي حولها، وتهريب العملات إلى الخارج.

سيُوفِّرُ هذا الإجراء للمصارف والمؤسسات المالية العاملة مع البنك المركزي العراقي سيولةً كبيرة لممارسة تجارة الفائدة (Carry Trade)، إذ ستتمكّن هذه المصارف من توظيف الأموال المُقترَضة من البنك المركزي، وبسعر فائدة منخفض، بإيداعها لدى مؤسسات مالية عالمية، لقاء عوائد سنوية، وبأسعار فائدة عالية (فمثلا، المصارف التركية تدفع فوائد سنوية بحدود 50% على الإيداع)، وبذلك، ستجني هذه المصارف أرباحا طائلة، وبأموال الشعب العراقي المخزونة لدى البنك المركزي، من غير أن تستخدم أصولها المالية الخاصة، وستسعى هذه المصارف، أيضا، إلى توظيف الأموال المُقترَضة من البنك المركزي، في مضاربات الأسواق والبورصات العالمية، بهدف جَنْيِ أرباحٍ سريعة ووفيرة.

وسيضرُّ هذا التوظيفُ لأموال البنك المركزي من قبل المصارف، حتما، بالاقتصاد العراقي الذي يعاني من الخلل الهيكلي والهشاشة المُزمِنة، ناهيك عن أن هذا التوظيف للنقود مُحرَّمٌ شرعًا، والذي هو، في نفس الوقت، بابٌ من أبواب الرِّبا، ليس بسبب الفائدة، وإنما بسبب الاتِّجار بها. 

2- أن البنك المركزي قد أصدر أوراقا مالية، على شكل شهادات إيداع إسلامية، وحوالات نقدية، بعوائد وآجال ثابتة ومحدَّدة، وعزا ذلك إلى سعيه لتوفير نافذة للمصارف الواقعة تحت عقوبات الخزانة الأمريكية، والتي لا تتمكن من التعامل بالدولار، ولديها سيولة نقدية كبيرة بالدينار العراقي، لاستثمار ما لديها من فائض النقد المحلي لدى البنك المركزي، من خلال حيازتها لشهادات الإيداع الإسلامية، والحوالات النقدية، وذلك لجني عوائد مالية مجزية، في حين كان الواجبُ على البنك المركزي معاقبةَ هذه المصارف بسبب مخالفاتها القانونية والأخلاقية، وليس مكافأَتها بعوائد مالية من المال العام ومن حقوق المواطنين.

3- الاقتراض الحكومي من خلال إصدار السندات السيادية، يُعدُّ أداة من أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي، إلا أنه يشير، في نفس الوقت إلى أن وزارة المالية تعاني من نقص في السيولة النقدية بالعملة المحلية، وهذا يدفعنا إلى السؤال الآتي: لماذا تعاني وزارة المالية من نقص في الكتلة النقدية بالعملة المحلية، رغم الإصدار النقدي الذي تجاوز 100 تريليون دينار عراقي؟

قد يكون الجواب هو وجود كتلة نقدية كبيرة بالعملة المحلية خارج النظام المصرفي، وأن قسما منها يتمّ تداولُه في الداخل والخارج لأغراض تمويل عمليات التهريب.

الآثار المترتبة على هذا القرار

ستترتَّبُ على هذا القرار الآثارُ التالية:

1- سيؤدي القرار إلى رفع سعر صرف الدينار تجاه الدولار والعملات الأخرى، ولكن بشكل مؤقت، إذ سيزداد الطلب على الدينار العراقي، وهذا سيتسبب برفع سعر صرفه، ولكن سرعان ما يتجه نحو الانخفاض تجاه الدولار، جراء عمليات مبادلته بالدولار، لأغراض التهريب، أو التوظيف النقدي الخارجي.

2- سيوفّر هذا القرار سيولةً كبيرة للمصارف والمؤسسات المالية، يتمّ استغلالُها لتنفيذ معاملات مالية خارج العملية التنموية، بهدف جَنْيِ أرباحٍ طائلة وسريعة، وسيتعرّض الاقتصادُ العراقي إلى الضّرر الجسيم، جراء هَدْرِ أمواله، وتوظيفها من قبل شُلّةٍ متنفِّذة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الشعب، في حين كان من المفروض على البنك المركزي تخفيضُ سعر الفائدة، بشرط تنفيذ المشاريع التنموية، والسماح للمصارف بالاقتراض منه، في نطاق الملفات التي يقدمها الأفراد والشركات إلى المصارف المحلية، وذلك لمنع هذه المصارف من استغلال هذه الأموال لمصالها الخاصة، خارج العملية التنموية.

3- هذا القرار، وبهذه الصيغة، هَدْرٌ للمال العام، وهضمٌ لحقوق المواطنين، وجريمةٌ اقتصادية، يعاقبُ عليها القانونُ.. وحَرِيٌّ بالبنك المركزي العراقي أن يتجنَّب هكذا قرارات، مُضِرَّةً اقتصادًا، ومُحرَّمةً شرعًا.

4- هذا القرار، وما شابَهه من القرارات التي اتّخذها البنكُ المركزي، تسبّب، ويتسبّب بتعميقِ الخلل والهشاشة في الاقتصاد العراقي، وسياسته النقدية، وإطالةِ أمد التذبذب النقدي، وعدمِ استقراره.

الخاتمة

يبدو أن قرار خَفْضِ سعر الفائدة قد تمَّ اتخاذُه وتصميمُه وفق ما تقتضيه مصالح الفئة الحاكمة على النقد في العراق، وليس وفق مصالح التنمية الوطنية، ومستقبل الاقتصاد العراقي الريعي، الذي يحتاج إلى التمويل لتنويع مصادر دخله، كما ويتبيّنُ أن الأوراق المالية مصمَّمة لتحقيق مصالح المصارف المُعاقَبة من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، بينما كان من المفروض معاقبتُها وإلغاءُ إجازاتها، بدل مكافأتِها بتوفير أرباح مُجزية لها من قبل البنك المركزي. 

 أُحذِّرُ البنكَ المركزي العراقي من اتخاذ قرارات تضرُّ النقد، وتُعمِّقُ جراحاتِه، وأَدعوهُ إلى سلوك سياسة أرثدوكسية، تنسجم مع مبادئ الاقتصاد، والسياسة النقدية، وتجنّبِ رسم سياساتٍ، أو اتخاذ قراراتٍ تساهم في تحقيق مصالح شرذمّة متنفِّذة في البلاد وخارجه.