يكثر تداول مصطلح "الزمن الجميل" في العراق من على وسائل التواصل الاجتماعي في هذه الأيام، وغالبا ما ترفق به صور من عقود الخمسينات، الستينات، السبعينات، وحتى الثمانينات من القرن الماضي.
يرى كثير من العراقيين الكبار في السن هذه المدة مرحلة ذهبية اتسمت بالرخاء، الأمان، والتلاحم الاجتماعي؛ لكن فيما يتعلق بالجيل الجديد، قد يظهر هذا المفهوم غامضا، بل وغير مفهوم، في ظل واقعهم المعاصر المليء بالتحديات. فما هو "الزمن الجميل" للعراقيين، وما حقيقته مقارنة بالحاضر؟
عند الحديث عن "الزمن الجميل" في العراق، غالبا ما يشار إلى جملة أمور من أهمها، ان المدن كانت آمنة نسبيا، وكان التجول ليلا أقل خطورة، مما أتاح للناس حرية أكبر في التنقل والعيش.
و شهدت تلك الحقبة، لاسيما أواسط السبعينات طفرة اقتصادية بفضل النفط، مما انعكس على مستوى المعيشة. كانت فرص العمل متوفرة، والخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والمياه متوفرة بشكل واسع وبجودة مقبولة في معظم المدن. كان التعليم مجانيا ومنتشرا، والجامعات العراقية مصنفة ضمن الأفضل إقليميا.
يصف المؤرخون وكثير ممن عاصروا تلك المدة العلاقات الاجتماعية بأنها كانت أكثر ترابطا وعمقا، كان الجيران يهتمون ببعضهم البعض، وتكثر الزيارات العائلية، والتجمعات في المقاهي والأماكن العامة، والملاعب الشعبية وتجمعات الطلبة في المكتبات العامة، وغيرها، ما خلق نسيجا اجتماعيا متينا، كانت الأعراس والحفلات المرتبطة بها في الشوارع والمناطق، تنتشر بصورة لافتة بخاصة في أيام الخميس، أما مظاهر الطلاق فكانت نادرة، والعنف الزوجي والعائلي قليل.
و شهد العراق نهضة ثقافية وفنية كبيرة في تلك السنوات، إذ ازدهرت الموسيقى، المسرح، السينما، الأدب، والفنون التشكيلية، وكانت بغداد مركزا إشعاعيا للثقافة، وبرزت طلائع من الأدباء والمثقفين والفنانين والمسرحيين، وانتعشت قاعات المسارح ودور السينما وقاعات ومراكز الفنون التشكيلية.
و يتذكر العراقيون مرحلة كان فيها التعايش بين شتى الأطياف والمكونات المجتمعية أكثر وضوحا وقبولا، مما أضفى على المجتمع العراقي طابعا من التنوع والانسجام؛ ويجمع المؤرخون وعلماء الاجتماع على ان هذه الأمور الإيجابية كانت راسخة في الحياة العراقية قبل أن تتدخل السياسة بمظهرها العسكري الشمولي الدكتاتوري بأعلى صوره في نهاية عقد السبعينات ما نتج عنه تراجع المجتمع العراقي في جميع مظاهر الحياة لاسيما مع اقتران ذلك بالحروب التي تسببت في قتل اعداد هائلة من الشباب وفي عمليات التهجير التي وقعت على اعداد كبيرة من السكان بمسوغات واهية و الهجرة القسرية لمنتسبي ومناصري احزاب عراقية معارضة رئيسة الى دول اوروبا.
الجيل العراقي الجديد، الذي ولد وعاش سنواته في ظل الحصار الاقتصادي، الحروب المتتالية، التوترات الطائفية، غياب الخدمات، والفساد المستشري، يجد صعوبة في استيعاب فكرة "الزمن الجميل"، فالواقع الذي يعيشونه اليوم يختلف جذريا عن الصورة التي يرسمها الكبار للماضي.
يعيش الجيل الجديد في بيئة ما زالت تعاني من تداعيات النزاعات، وتفشي الجريمة المنظمة والعنف الطائفي، و يعاني معظم العراقيين اليوم من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء النظيف، وتدهور البنى التحتية، مما يجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة، بل مستحيلة العيش في كثير من الأحيان ما أدى إلى هجرات جديدة إلى الدول الاخرى.
يضاف إلى كل ذلك، صعوبة الحصول على فرص العمل وتدهور الاقتصاد، اذ يواجه الشاب العراقي تحديات كبيرة في الحصول على شغل مناسب وتتسم الأوضاع الاقتصادية بعدم الاستقرار؛ وبرغم أن التكنولوجيا قربت العالم، إلا أنها غيرت طبيعة العلاقات الاجتماعية، فالجيل الجديد يعتمد بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يقلل من التفاعل البشري المباشر الذي كان يميز الحقبة السابقة ويفتقر الى العلاقات الانسانية المطلوبة، وتفاقمت مظاهر العزلة.
إن مفهوم "الزمن الجميل" بالنسبة للعراقيين هو مزيج من الحنين إلى الماضي الذي يمثل لهم مدة من الاستقرار والازدهار المفقود، ونقد ضمني للواقع الحالي بما يحمله من تحديات ومعاناة. من المهم أن ندرك أن تلك الحقبة، وبرغم إيجابياتها الواضحة مقارنة بالحاضر، لم تكن خالية تماما من المشكلات أو التحديات السياسية والاجتماعية التي أدت لاحقا إلى التدهور.
بالنسبة للجيل الجديد، فإن فهم "الزمن الجميل" يفترض الا يعني العودة إلى الماضي، بل هو فرصة لفهم التحولات التي مر بها العراق، وتقدير ما فقده، والعمل من أجل بناء مستقبل أفضل يجمع بين استقرار الماضي وطموح الحاضر، إنه دعوة للتأمل في قيم التلاحم الاجتماعي، وأهمية توفير الخدمات الأساسية، وضمان الأمان، وهي أمور يفتقدونها اليوم بشدة.
وبالمجمل، يتفق كثيرون على أن السنوات التي امتدت من الخمسينات إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي، التي يشار إليها غالبا بـ "الزمن الجميل"، كانت مرحلة مميزة، كانت الحياة أقل تعقيدا من الناحية التكنولوجية والاجتماعية، لم تكن هناك ضغوط وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت وسائل الترفيه أبسط وأكثر جماعية.
كانت نفوس الناس طيبة ومتفائلة في الغالب، وانهم يعتمدون على بعضهم البعض بشكل أكبر، وكانت التجمعات العائلية والاجتماعية جزءا أساسيا من الحياة اليومية؛ وبرغم تواجد التحديات، والظواهر السياسية والانقلابات العسكرية فإن كثيرين يربطون تلك المدة بشعور أكبر بالأمان والاستقرار في مجتمعاتهم ومناطقهم.
و تؤدي الذكريات الشخصية دورا كبيرا في هذا الشعور، فالسنوات التي قضاها الناس في شبابهم غالبا ما تكون مرتبطة بلحظات سعيدة وذكريات إيجابية، بغض النظر عن الظروف العامة، بخاصة بعد ان أصبحت العلاقات الإنسانية الآن أقل عمقا في كثير من الأحيان؛ وقد يسهم الاعتماد المفرط على التكنولوجيا في هذا التباعد، و تزايدت مظاهر العنف والقتل الجنائي حتى لأسباب تافهة واصبح الانتحار خبرا اعتياديا بخاصة في أوساط الشباب، وارتفعت معدلات الطلاق بشكل مريع مع انخفاض رغبة معظم الشباب في الزواج وتكوين اسرة.
ومع ذلك، فأن "الزمن الجميل" لم يكن خاليا من الصعوبات، ففي تلك الفترات، كانت هناك تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، كانت مستويات التعليم والرعاية الصحية أقل تطورا، والفرص المتاحة محدودة مقارنة باليوم ـ ولكن برغم ذلك حققت الجامعات مستويات متقدمة ـ وكانت هناك قضايا اجتماعية لم تكن تحظى بالاهتمام الكافي، مثل الزواج عن طريق الحب، فكثير من الزيجات كانت تجري بوساطة الاقارب وكانت مظاهر مثل "الفصلية" و "النهوة" الظالمة بحق النساء متواجدة.
القول بأن تلك المرحلة كانت "زمنا جميلا" هو إلى حد كبير وجهة نظر شخصية متأثرة بالحنين والذكريات، فضلا عن المقارنة بالسلبيات الظاهرة في الحاضر؛ فلكل فترة إيجابياتها وسلبياتها، و ما يراه البعض جمالا وبساطة، قد يراه آخرون قيودا أو نقصا في الفرص.
و قد لا تكون المسألة تتعلق بما إذا كان "الزمن الجميل" حقيقة مطلقة، بل هي تعكس رغبة فطرية في البحث عن الاستقرار والترابط والعلاقات السلسة الصادقة في عالم يتغير بسرعة. من المهم أن ندرك أن التحديات متواجدة دائما، وان التقدم التكنولوجي والاجتماعي يجلب معه فرصا وتحديات جديدة يجب أن نتعامل معها بوعي، كي نحظى بزمن جميل ومستدام فعلا.