شهد العراق منذ اسقاط النظام المباد في نيسان 2003 تركيزا كبير من قبل الشباب على محاولة التعيين في القطاع العام، وقد ارتبط ذلك طيلة أكثر من عقدين بانهيار الصناعة والزراعة وتلكؤ الاستثمار وخوف الشباب من انعدام الضمانات الاجتماعية والصحية خارج نطاق العمل في مؤسسات الدولة.
ان حجم القطاع العام، يشمل الحكومة الاتحادية، والحكومات المحلية، والهيئات والمؤسسات العامة، وان نسبة العاملين في القطاع العام شهدت طيلة عقود ارتفاعا مقارنة بالقطاع الخاص، اذ يعد القطاع العام المشغل الرئيس لكثير من العراقيين.
لقد اعتمد النظام السابق على القطاع العام كأداة رئيسة لتوظيف القوى العاملة، وكان المتخرج من الجامعة او المعهد، من السهل عليه ان يجد وظيفة في المؤسسات الحكومية فيما عرف بالتعيين المركزي، وهو نظام حكومي كان معمولا به في العراق قبل عام 2003 يجري بموجبه توظيف الخريجين الجدد من الجامعات والمعاهد مباشرة في الوظائف الحكومية، وهذا النظام كان جزءا من سياسة الدولة لتنظيم سوق العمل وتوفير فرص عمل للخريجين، وضمان توزيع القوى العاملة على شتى القطاعات الحكومية وفقا للاحتياجات.
وكان يجري تعيين الخريجين بعد التخرج مباشرة في الوزارات والهيئات الحكومية وفقا لتخصصاتهم واحتياجات الجهات الحكومية، وعادة ما يجري ذلك بعد ادائهم الخدمة العسكرية التي كانت الزامية في ذلك الوقت، اما المعفو من الخدمة العسكرية لأي سبب فيجري تعيينه في الوظيفة مباشرة.
وفي العادة يتوجه الخريج اولا الى وزارة التخطيط ويوجه من هناك الى الوزارة المتعلقة باختصاصه ومن ثم تنسبه تلك الوزارة الى الدوائر التابعة لها التي قد تكون في محافظته او يجري تخييره بين مجموعة محافظات؛ وكان الهدف الأساس لذلك الأسلوب هو ضمان توفير فرص عمل لجميع الخريجين ومنع البطالة بين الشباب المتعلمين.
وبحسب المراقبين، قدم هذا الاسلوب استقرارا وظيفيا للخريجين، اذ كانت الوظائف الحكومية تتميز بالأمان الوظيفي والمزايا الجيدة مقارنة بالقطاع الخاص.
وكان النظام يعتمد بشكل كبير على البيروقراطية المركزية، اذ يجري اتخاذ القرارات في مراكز السلطة الرئيسة ثم تنفذ في تشعباتها، واسهم هذا المنهج في توفير استقرار اجتماعي كبير بوساطة توفير فرص العمل المضمونة للخريجين.
وأدى الاعتماد الكبير على التوظيف الحكومي إلى تضخم القطاع العام وارتفاع نسبة العاملين فيه مقارنة بالقطاع الخاص.
ومن السلبيات التي شخصت لذلك التوجه، ان ذلك النظام قد حد من روح المبادرة والابتكار بين الشباب، اذ كان كثيرون يعتمدون على الوظائف الحكومية بدلاً من التفكير في إنشاء أعمال خاصة أو البحث عن فرص في القطاع الخاص؛ كما أدت سياسة التوظيف الشامل إلى زيادة كبيرة في نفقات الرواتب والأجور، مما شكل عبئا على الميزانية العامة للدولة.
كما ان التوظيف الشامل قد يؤدي في بعض الحالات إلى انخفاض الكفاءة والإنتاجية بسبب عدم توازن العرض والطلب في سوق العمل وعدم ملاءمة المهارات للوظائف المتاحة، وبفهم نظام التعيين المركزي وتاريخه في العراق، يمكننا تقدير مدى تأثيره على الاقتصاد والمجتمع وكيفية تطور السياسات المتعلقة بسوق العمل في السنوات التي تلت ذلك.
بعد عام 2003، شهد العراق تغييرات جذرية في الهيكل السياسي والاقتصادي؛ وجرى التحول نحو اقتصاد أكثر انفتاحا، مع محاولة تقليل الاعتماد على القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، ومع ذلك، ما تزال تحديات كبيرة تواجه سوق العمل، بما في ذلك عدم التحرك الجدي نحو تفعيل المصانع وعدم تطوير الزراعة وتدهورها، ما ادى الى تصاعد نسب البطالة كما لم يشهد النظام التعليمي والمهني إصلاحا حقيقيا ، فولد ذلك نقصا للفرص في القطاع الخاص وتزايد ضعف هذا القطاع وتلكأت عمليات الاستثمار فيه، فضل القطاع العام بصفته الخيار الرئيس للتوظيف.
وظلت الثقافة المجتمعية تفضل الوظائف الحكومية بسبب الاستقرار الوظيفي والمزايا الاجتماعية مثل الرواتب الثابتة والتأمين الصحي والتقاعد وغيرها من الميزات التي يتمتع بها العاملون في مؤسسات الدولة.
وقد لمس السكان التحديات التي واجهت القطاع العام، ومنها تأثير الفساد الإداري والمالي على فعالية المؤسسات الحكومية، كما ان تأثير انخفاض أسعار النفط كثيرا ما أثر على قدرة الحكومة على توظيف المزيد من الأفراد ودفع الرواتب، وبرزت الحاجة إلى إصلاحات هيكلية لتحسين كفاءة القطاع العام وتقليل الاعتماد عليه.
ومن الحلول التي طرحها المتخصصون التي اتبعتها الحكومات في بعض الاحيان، تحفيز القطاع الخاص وذلك عن طريق دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة وتقديم حوافز للاستثمار المحلي والأجنبي، وتنفيذ إصلاحات تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط وتحسين مناخ الأعمال.
وبرزت الحاجة الى تحسين نظام التعليم والتدريب المهني لتلبية احتياجات السوق المتغيرة وتوفير فرص عمل جديدة في القطاعات الناشئة، وتشجيع استعمال التكنولوجيا والابتكار لخلق فرص عمل جديدة وتحسين الإنتاجية، كما جرت المناشدة بضرورة دراسة تجارب دول أخرى تمكنت من تقليل الاعتماد على القطاع العام وتعزيز القطاع الخاص، لغرض التخلص من سلبيات الاعتماد على القطاع العام في ادارة الاقتصاد العراقي.
ومن الاجراءات التي تجري المطالبة بها لتفعيل القطاع الخاص وتشجيع الشباب للعمل فيه، تقليل الإجراءات الروتينية المطلوبة لتأسيس الشركات والحصول على التراخيص، وتطبيق قوانين صارمة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في التعاملات الحكومية، وتقديم حوافز ضريبية للشركات الجديدة وتبسيط نظام الضرائب لجعله أكثر عدالة وشفافية.
وكذلك تولدت ضرورة إنشاء صناديق تمويل مخصصة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بفوائد منخفضة وتوفير خدمات استشارية وتدريبية لأصحاب المشاريع لتحسين مهاراتهم الإدارية والفنية؛ وتقديم جوائز واقامة مسابقات لتحفيز الابتكار وروح ريادة الأعمال بين الشباب.
كما تولدت الحاجة لجعل المناهج الدراسية تتماشى مع احتياجات السوق ومتطلبات القطاعات الاقتصادية المتنوعة، وإنشاء مراكز تدريب مهني وتقني لتزويد الشباب بالمهارات المطلوبة للعمل في القطاع الخاص، وإقامة شراكات بين المؤسسات التعليمية والشركات لتوفير برامج تدريبية وفرص تدريب عملي.
كما تتطلب الاجراءات تطوير البنية التحتية بتحسين الطرق، والنقل، والاتصالات، والخدمات اللوجستية لتسهيل عمل الشركات؛ و إنشاء مناطق صناعية مجهزة بالبنية التحتية المطلوبة لجذب الاستثمارات الصناعية والتجارية، و دعم منصات التمويل الجماعي لمساعدة رواد الأعمال في جمع رأس المال المطلوب لمشاريعهم، و توفير برامج إرشادية لرواد الأعمال الجدد تساعدهم في تطوير أفكارهم وتحويلها إلى مشاريع ناجحة، و تعزيز الثقافة الريادية بحملات توعية وبرامج تعليمية بشأن ريادة الأعمال.
كما يتوجب تحسين قوانين حماية الملكية الفكرية لحماية ابتكارات الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير قوانين وضمانات لحماية الاستثمارات الأجنبية وجذب رؤوس الأموال الخارجية، وتشجيع الحكومة على شراء المنتجات والخدمات من الشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة، وتقديم برامج تحفيزية تشمل منح، قروض، وتخفيضات ضريبية للشركات الناشئة والمشاريع الجديدة.
كما تتطلب المعالجات تشجيع العمل الحر والعمل عن بُعد وتوفير منصات تعليمية عبر الإنترنت لتدريب الشباب على مهارات العمل الحر، وتعزيز منصات العمل الحر التي تربط بين أصحاب العمل والعاملين المستقلين، مما يسهل إيجاد فرص عمل متنوعة، وتشجيع الشركات على التحول الرقمي واعتماد التكنولوجيا الحديثة لتحسين الإنتاجية، ودعم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بصفته قطاعا واعدا يوفر فرص عمل كثيرة؛ وإقامة شراكات مع منظمات دولية ومؤسسات مالية عالمية لتبادل الخبرات والحصول على الدعم الفني والمالي.
وعلى صعيد العاملين في القطاع الخاص تتجدد ضرورة سن قوانين عصرية تتعلق بالتقاعد والضمانات الاجتماعية والصحية وغيرها، لتشجيع الشباب على التوجه الى العمل في ذلك القطاع.