في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت معلمة من أهل الموصل تأتي لقريتنا بحزاني بالسيارة خلال العطلة الصيفية وتلقي محاضرات على بناتنا ونسائنا من الأميات في إطار برنامج "محو الأمية" حينها.
تلك المعلمة الجميلة كانت ترتدي غالبا تي شيرت نصف ردن، وتنورة إلى ما تحت ركبتيها، وكان شعرها اسودا فاحما وقصيرا.. وكان لسانها عذبا حيث كان تطلب منا، نحن الذين كنا نمرق من المدرسة أحيانا "ممكن حبّاب اتروح تشتري لي بطل بيبسي بارد؟" وبطبيعة الحال سعيد الحظ فينا من كان يقع اختيار المعلمة الموصلية عليه لشراء البيبسي المنعش لها في تلك العصريات الصيفية القائظة.
تذكرتُ هذه القصة ليلة أمس عندما جافاني النوم.. وبدأت أقارن تلك المعلمة الأنيقة مع النساء الموظفات في عموم العراق في ظروفنا الحالية، وكان الفارق شاسعا جدا.. وأيضا إن تلك المعلمة الموصلية كانت تتكبد عناء الذهاب والإياب من الموصل لقريتنا الصغيرة لأكثر من شهرين على ما أظن، في سبيل إنقاذ بنات جنسها من الأمية، وطبعا بدون أن يكون هنالك أي حضور للاختلاف الديني أو القومي أو المذهبي، حيث الغالبية من قريتنا هم من الايزيديين.
اعتقد انه من الصعب الآن على أية معلمة موصلية أن تذهب للتعليم بإطراف الموصل بمناطق سكنى الأقليات وغير الأقليات، ليس لأسباب أمنية، بل إن اغلبنا لم يعد يقبل أن تداوم ابنته أو زوجته بمنطقة بعيدة نسبيا عن منطقة سكانهم ويحبذ أن تكون بين نفس أبناء مذهبها..! وهذا الأمر ينطبق على الأغلبية منا جميعا.
وارى إننا نعود القهقرى على مختلف الأصعدة، والسبب معروف لنا جميعا، لكننا نتهرب منه كي لا يتم وصمنا بأننا نغرد خارج السرب الذي دخل بنفق لا يعلم أحدا أين نهايته.
لا أنسى إن أوجه التحية لتلك المعلمة الموصلية التي لا اعرف اسمها، وربما عمرها حاليا بحدود 65 إلى 70 سنة.. وأسال الله أن يوفقها ويمدها بالصحة والعافية لأنها قدمت خدمة جليلة لأمهاتنا وشقيقاتنا قبل نحو 40 عاما مضت بسرعة فائقة.