كنت قد تطرّقت في المقالة الأولى عن رؤية انطباعية متوسّعة، سلّطت فيها الضوء على الناحية التعريفية والخبرية لإصدار كتاب حديث، وإعطائه تعريفاً شاملاً، هذا الكتاب الذي يحمل بين طيّاته همّ شعب وقضية مبعثرة في أروقة المجتمع الدولي، الذي يثبت يوماً بعد يوم أنه مجتمع متقاعس متعاهر، يهمّه مصالحه من الدرجة الأولى، وفي هذه المقالة النقدية أو التحليلية سأتناول مجدّداً رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك» للشاعر والروائي الكردي «جان بابيير»، لأغوص بين ثنايا تقنية – عنصر الراوي، بأشكاله ووظائفه.

 

لقد تجنّب جان بابيير في روايته هذه تحميل الحكاية لراوٍ واحد؛ «سنكتشف سبب ذلك من وجهة نظره الروائية والذاتية في حوارنا معه حول عمله المجنون هذا»، بل عمد إلى تعدّد الرواة، حيث يسيطر صوت الراوي على معظم أحداث الرواية ووجهة نظرها، ويبدو للقارئ مدى تفاعل الروائي مع الراوي. في مقابل ذلك تكثر الحوارات، مما يسهم في إتاحة الدور لأصوات أخرى أن تُسمَع وأن تدلي بدلوها، كما يستلم السرد أحياناً راو آخر، في أكثر من موقع، مما أتاح للصوت الآخر أن يحاور القارئ، وأن تُسلط الأضواء على الأحداث وعلى الشخصيات من زاوية أخرى، حيث يصف الأحداث المحلية والإقليمية وصفاً دقيقاً، وكأنه يحوّل الواقع إلى صور فوتوغرافية.

 

إذاً فنحن أمام أسلوب سرد مركّب، من خلال تعدّد الأصوات الناطقة، كلّ ذلك يجعل تتبع الحدث الروائي متعب قليلاً وشيّق في نفس الوقت، هذا إضافة لكثرة الأسماء وتنوّع الأحداث ومسارها، إذ يسرد جان حوادث روايته بطريقتين، أولها «طريقة السرد غير المباشرة»، التي تمّت بمعظمها بلسان «مَانو»، سواءً بضمير المتكلم أو الغائب، إذ اعتمد في هذه الطريقة على تصوير الشخصيّات التي يتحدّث عنها من خلال وجهة نظره الخاصّة، فيحلّلها تحليلاً نفسياً متقمّصاً شخصية البطل الذي هو مَانو، لدرجة أن القارئ يشك بل تصل أحياناً إلى درجة اتهام جان بأنه هو نفسه مَانو، وأنه يسرد تجربته الذاتية.

 

أما الطريقة الثانية فهي «طريقة السرد المباشر»، وفيها قصّ جان الأحداث وحلّل الشخصيات تحليلاً عميقاً، حيث عرض تصرّفاتها ووصف إحساساتها وعواطفها بدقّة، وغاص إلى أعماق تفكيرها وكشف عن صراعاتها الذاتية والخارجية.

 

لقد تفنّن جان في استخدام مفهوم الراوي، سواء كوسيلة أو أداة تقنية، فمجرّد الوصول إلى منتصف الرواية حتى تدرك أنه لجأ إلى تنويع الراوي، كأن يتنزّل الراوي الذي يروي بضمير الأنا مكانه، في مفصل ما من مفاصل العمل الروائي، إلى الراوي الشاهد، أو كأن يتحوّل هذا الراوي الذي يروي بضمير الأنا، من راوٍ حاضر يعرف أموراً كثيرة إلى مجرّد شاهد ينقل فقط ما يقع عليه نظره. وفي ما يأتي نعرض لكلّ نوعٍ من أنواع الرواة:

 

أ – الراوي بضمير المتكلم:

وهو من أكثر أنواع الرواة شيوعاً واستعمالاً؛ لأنه من أكثر الطرق بديهية وبساطة، وهو عادةً بطل يروي قصته، لكنه ليس تماماً البطل، ذلك أن الراوي هو مَن يتكلم في زمن حاضر عن بطل كأنه هو الراوي. وقد وقعت أفعاله في زمن مضى، أي لئن كان الراوي هو البطل فإن ثمة مسافة زمنية بين ما كانه وما أصبحه، أي بين البطل الشخصية في الزمن الماضي والراوي في الزمن الحاضر. وعليه لا يعود الراوي هو (البطل) وليست الرواية (سيرة ذاتية) بل هي سرد يستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا، ليتمكن من ممارسة لعبة فنية تخوّله الحضور، وتسمح له التدخّل والتحليل بشكلٍ يولّد الإقناع، وظهر ذلك جلياً من خلال شخصية «مَانو» بطل الرواية الأول، وقد ظهر هذا الراوي في فصول كثيرة منها: «مفتقر للمساتك الناعمة – إصبع أمي إيمو أكبر من البلدان – سال صوتي على الفراش مع سوائل أخرى – نضجت بتنوّر المعلّمة وحطب الخوف».

 

ب – الراوي كلّي المعرفة:

هو راو منطوق من وجهة نظر كيان غريب تماماً على مستوى الواقع الذي يحدث فيه كلّ ما يتمّ شرحه، كمل لو كان نوعاً من الإله، الذي يمكن الوصول إلى جميع المعلومات في وقت واحد، وهذا النوع ظهر لنا في الفصل الثامن عشر «نثرات من الذاكرة». أيّ أنه يظهر ويروي بضمير الغائب (هو)، وهذا يعني أنه راو غير حاضر، لكن الروائي يتدخّل في سرده، عن طريق الشخصيات الأخرى؛ لئلا ينكشف تدخّله المباشر، وهذه المسافة بين الكاتب وشخصياته تعادل قدرة الكاتب على إبداع شخصيات حيّة قادرة على النطق بصوتها لا بصوت الكاتب، وبغياب الراوي، الظلّ الفني للكاتب، وبتقدم الكاتب بضمير (الهو) أعزل من تقنيات السرد وفنيته، يصبح العمل السردي أحياناً مجرّد إخبار أو نقل حوادث أو سرد حكاية تفتقر إلى المصداقية التي يولدها الفنّ حتى في واقعيته.

 

ج – الراوي الشاهد:

في هذا النوع من الرواة، فإن الشخصية التي لها دور الراوي لا تعمل كبطل، ولكن كشخص قريب من الرواية، فيحضر أحداثها الرئيسية؛ إذ أنه راوٍ حاضر، لكنه لا يتدخّل؛ لأنه يروي من الخارج، على مسافة بينه وبين مَن يروي عنه، فيكون بمثابة العين التي تكتفي بنقل المرئي في حدود ما يسمح لها النظر، وبمثابة الأذن التي تكتفي بنقل المسموع في حدود ما يسمح به السمع. أي تقنية آلية تقوم بعملية (المونتاج)، أو تركيب الصور الفوتوغرافية، ومثل هذا العمل لا يكشف عن حضور الراوي؛ لأنه غائب في بنية الشكل، كالمخرج الذي لا نراه إلا في أثره. وهذا يتطلب مهارة عالية من الروائي، وإلا سقط في شكلية سطحية، وقد ظهر هذا الراوي في فصول:

«أكثر من رؤية – هيمَن وكوباني يتصافحان – يطرق الرصاص الأبواب، ويتسلّق البارود الجدران – لا يحتاج الألم لعنوان، وحده يعثر عليك! – تصدّع أكثر من الكسر»، وغيرها من فصول أخرى، التي كان الراوي فيها شاهداً، على تسلّل مَانو وهيمَن إلى الحدود المطلّة على كوباني، وانتقالهما إلى داخل المدينة، ورؤيتهما ومعايشتهما لمجريات المجزرة الشنيعة التي نفّذتها عناصر من داعش كانوا على الحدود؛ استعداداً للعملية، وكل ما نتج عنها من شهداء عزّل وجرحى، وآلام خلّدت نفسها في المدينة.

 

د – الراوي الذي لا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات:

أو هو الراوي الذي لا يتجاوز حدود الشخصيات في الرؤية، فإذا فعلت الشخصية فعلاً، أو اتصفت بصفة، فإن الراوي يُقدم فعلها أو صفتها. ويمكن تحديد الراوي الذي لا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات في شكلين: الأول أن يكون الراوي مشاركاً في أحداث الرواية أو شاهداً عليها، والثاني أن يتخذ من إحدى الشخصيات أو من أكثر من شخصية مرايا تعكس الأحداث، وظهر ذلك في غالبية الأحداث التي كانت تدور حول كلّ من الشخوص (عيشانه، أحمو كنك، كارو، بوزو، محمد طاهر، حسين حمو لوري...).

 

وبحسب الناقد الأدبي الفرنسي «جيرار جينيت»، الذي رأى أن وظيفة الراوي تكمن في خمس وظائف، وهي الوظيفة السردية، والوظيفة الإيديولوجية، ووظيفة الإدارة، ووظيفة الوضع السردي، والوظيفة الانتباهية أو التواصلية. وهذا لا يعني أن تتوفّر جميع الوظائف في الرواية، أو أن يضع الكاتب على عاتقه مهمّة وضعها وامتزاجها بشكل كامل في عمله، فيكفي أن تستغرق وظيفة واحدة مجمل الحدث السردي لحكاية – رواية ما، فيما التنوّع دليل حرّية الراوي في تأدية مهمّات متعدّدة ترتفع بمستوى النصّ السردي إلى مستوى النصّ المفتوح الذي يقبل تأويلات متعدّدة.

 

وفي رواية  «هيمَن تكنّسين ظلالك»، اجتمعت عدّة وظائف للراوي، تناولها جان بشكل مسؤول، ومنها:

الوظيفة الوصفية:

حيث قدّم مشاهد وصفية للأحداث العسكرية والسياسية والاجتماعية، والطبيعة، والأماكن، والأشخاص، سواء قبل الثورة السورية أم بعدها، قبل مجزرة كوباني أم بعدها من وقائع أخرى أكثر ألماً، كوصف مشاهد ذبح وقتل المدنيين العزّل في مجزرة كوباني عام 2015م، وكذلك مشاهد التهجير من القرى واللجوء عبر عدّة دول إلى أوروبا. 

 

الوظيفة التوثيقية:

وفيها قام بتوثيق بعض الأحداث السياسية الهامة والتي غيّبوها عن الشعب والمجتمع، رابطاً إياها بتوثيق تاريخي وتخييل روائي، كما في فعل في فصول (أكثر من رؤية – هيمن وكوباني يتصافحان – يطرق الرصاص الأبواب ويتسلق البارود الجدران – لا تبحث عني! ثمة صور لا تُمحى...)، عندما وثّق مجريات المجزرة – المذبحة التاريخية التي ارتكبت في كوباني، وإلى الآن المجتمع الكوباني بشكل خاص والكردي بشكل عام مشتّت وضائع؛ نتيجة الاستفسارات التي تختبئ في عيونهم وقلوبهم وعقولهم، دون أن يصلوا إلى نتيجة، لكن جان يوثّق المجزرة، ويكشف الفاعل، من خلال مغامرات مَانو وهيمَن للدخول – تهريباً – من أورفة إلى كوباني، وتقديم خمس شهادات حيّة عن الواقعة. كما جمّع داخل هذه الوظيفة أيضاً الوظيفة الوصفية.

 

خلاصتنا تكمن في أنه من خلال الرؤية من خلف الشخصية (راوٍ يعلم أكثر من الشخصية)، أو معها (راوٍ يعلم بقدر ما تعلم الشخصية)، أو من خارجها (راوٍ يعلم أقل مما تعلمه الشخصية)، استخدم جان الراوي بشكل أكاديمي، يجعل من القارئ يغوص في أعماق المواضيع والأحداث ويتفاعل معها ومع سيميائياتها، واقفاً وقفة رجل بين الحيرة والضياع.