تهدي من عمرك سنتين أو ثلاث لتتآلف مع غربة المهجر، وعلى نحو تدريجي غير محسوس ينسل منك الحنين لوطن الولادة حين تمضي بحياة أخرى تتنافذ معها بنجاح وطمأنينة، ثم ينهض فيك انتماء آخر كما زهور برية ملونة فوق صخور الجبال وبين شقوقها، تستهل حياتك في بيئة تسمح للغرباء بالتوطن وفق شروط انسانية أضاعتها الأوطان الأولى .
ثمة طرق عديدة تبتكرها لتهدئة الاحلام التي ادمنتك بالسنوات الأولى، وجوه الناس البعيدة تزودها الاطياف بحنين مباغت يواصل حصارك، ثم يمازج انشغالاتك والوجوه الجديدة والأماكن الغريبة تطبع الدهشة بمزاجك المتحول من بيئة المدن الأليفة الراكدة نحو مشهد متجدد لمدينة تزهو بالحركة بلا إيقاع ثابت فيترك حصاد البصر مشتتاً، ذلك التشتت الجديد يطرد ثمالات الذكريات ويعطل محرك الاحلام القديمة ، عندها تصبح كائناً جديدا باحلام جديدة .
تلك غربة متحولة الى وطن تضعك فيها بلاد المهجر وتعيد صياغتك بروح وتفكير ونمط سلوك متحول.
الغربة مزحة قدرية سخيفة تصنعها لك الحكومات في بلادك فتطردك مصحوبا بالخذلان وعقدة فقدان وطن لايمكن أن تسترده لأن الوطن قرين سنوات العمر فقط ، لاوطن قبل أن تولد ولا وطن بعد الموت .
أقسى ما يتعرض له الإنسان من تعذيب نفسي هو أن يعيش الغربة في وطنه ويشاهد أن كل شيء ينهار من حولك ويتحول الى خراب ، وطن يفقد ملامحه وناسه وشوارعه القديمة وبيوته الأليفة بصورها المودعة بذاكرتك وروحك الغارقة بألوان الحيطان ونقوش الآجر وشناشيل الشرفات ورائحة النهر والطرقات التي عشقتها أقدامك في زمان كان يرهن حياتك بكل ماهو جميل .
الجميل القديم أين هرب ، وتلك الناس الحلوة لماذا أختفت ؟
صار السؤال يأكل بروحك وأنت تصبح وتمسي في وطن يغادرك يتلاشى، يتركك خلفه في وطن لايحمل من ماضيه سوى النزر ، وتبقي وحدك تحاور نفسك ، وجع يحاور وجع ، وأنت لاتدري ما العمل بعد أن صعد بك العمر بعيدا ، واختفت اناقة البشر واختلفت الوجوه والمهن والهدوء واناشيد الاشجار حين تمرق رياح الخريف، ماتت الحدائق والاخلاق اصبحت حوارا بالرصاص ، وطن بلا أغاني ولا شوارع صالحة للتجوال ، وطن يموت بعجالة من أمره ، وطن لاتسعفك الدموع برثاء يليق بهزيمته .
كيف لهذا الوطن العحيب بعشقه وجنون شاعريته أن يصبح عدوا شرسا يدفع بك للبحث عن ملاذ لعزلتك خوفا أن ينتقل اليك جنون البقر وطباع الخنازير .
وطن يختفي مع الحدائق وتقاليد الشوارع ، طعم الفصول وعبق الجوري ومساءات الشبوي والرازقي والندى المتوافد بشذاه نحو طرقات العشاق ، وينفتح البديل المتيبس المدهون بسخام النفط ، بديل خلقته شعارات الثورية والديمقراطية لبرابرة وذئاب محلية، وحوش دربتها الحروب بمنهجيات إبادة الآخر برعاية آلهة الحديد واغتصاباتهم المتكررة لسمائك الأولى وأرضك المزروعة بروحك وكل مايعني وجودك في وطن صار يزورك بالاحلام بعد هزيمته الكبرى .
لعمري تلك أبشع حياة تمضي بك في اغتراب نفسي ووجودي بتشكيل كوابيسي محايث..!
عدو كان أسمه وطن.