قطعاً لا أقصد أن كل كوادرنا التدريسية، وفي المراحل الدراسية كافة، بدء من مرحلة رياض الأطفال ووصولاً إلى الكليات والدراسات العليا، بل أنني أشهد بأن لدينا من الكفاءات الأكاديمية يستحقون أن تكتب أسماءهم بمداد الذهب وما هو أغلى من ذلك، لكنني أقصد هذه الفئة الكسولة المتكاسلة الانتهازية التي تنتهج السطحية في تعليم أبنائنا وبناتنا لكي تضطر العوائل إلى اللجوء للمدرس الخصوصي، هؤلاء هم من أقصد ومن ألعن حتى.
بداية وللتاريخ، هذه الظاهرة السرطانية وأقصد بذلك عدم الأمانة التدريسية لدفع التلميذ والطالب نحو التدريس الخصوصي ليست وليدة اللحظة أو مرحلة ما بعد العام 2003، بل أنها من نتاج الزمن الأغبر في عهد النظام الهمجي السابق وبدأت تحديداً منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما بلغ الفقر والفاقة في العراق مرحلة لم يشهدها تاريخ بلاد الرافدين حيث بلغ انهيار العملة العراقية وتردي الوضع الاقتصادي إلى حد أن الراتب الشهري للمعلم والبالغ ثلاثة آلاف دينار لا يكفي لتأمين الغذاء الأسبوعي من خضروات بسيطة، فكان الغذاء الأساسي للعائلة العراقية في مرحلة ما الطماطم، وفي مرحلة أخرى الباذنجان، وأخرى الباقلاء، حتى شاعت في حينها طرفة سوداء مفادها: إذا سحبت الدم من العراقي سيتحصل على باقلاء أو باذنجان أو طماطم.
هكذا كان الوضع في ذلك العهد الأسود الذي يطلق عليه بعض الحمقى والبعثيون "الزمن الجميل"، أي جمال في هكذا قبح وبشاعة وانهيار اقتصادي وأخلاقي وقيمي انتقلت أوبئته إلى عصرنا الحالي؟!.
لكن بعد العام 2003 وللدقة أكثر بعد العام 2008 وإقرار سلم الرواتب الموحد اختلف الوضع بنسبة 180 درجة فلماذا ما زال التدريس لدينا بهذه الرداءة؟.
الإجابة بكل بساطة: الجشع، نعم هذا هو التوصيف الأبرز لما يعانيه أبناءنا وبناتنا ونحن كأولياء أمور مع المدارس الحكومية، وبالإضافة إلى الجشع هناك سبب آخر وهو مخرجات المرحلة الصدامية التي أنتجت لنا مدارسها ومعاهدها وكلياتها معلمون وطلبة لا يعرفون أين يضعون الهمزة وكيف يرسمون حرف الاستدراك (لكن) بحيث أن البعض منهم يكتبه (لا كن)، ولا ننسى أيضاً أطباء وطبيبات لا يجيدون اللغة الإنكليزية التي هي عماد دراستهم وكانوا يكتبون أسم الدواء في الوصفة الطبية بحروف عربية مما يثير غضب واستياء الصيادلة المحترمين الذين احترموا دراستهم واختصاصهم وبذلوا أبصارهم ونومهم في سبيل نيل الشهادة بجدارة وليس برشوة أو واسطة أو مدرس خصوصي يمنحهم في الامتحان النهائي درجات إضافية أو يسرب لهم الأسئلة، وغير ذلك الكثير.
معلمونا الكسالى لم يكتفوا بالكوارث المذكورة آنفاً بل جاءتهم كورونا لتزيد الطين ليس بلة بل ضحالة أكثر، فعندما لجأت الحكومة العراقية في العام 2020 إلى جعل دوام المدارس إلكتروني حذرنا في حينها من أن أولياء الأمور ليسوا جميعهم خريجوا كليات أو معاهد أو ثانوية بل وحتى متوسطة، والدروس الطلسمية التي أتى بها وزراء التربية المتعاقبون من دون مراعاة لوعي وفهم التلميذ لا يستطيع أي وليّ أمر إيصالها وتبسيطها لابنه وابنته، كما أن ليس كل أولياء الأمور يتميزون بفهم جميع المواد الدراسية فهناك من لا يجيد الإنكليزية، وهناك من لا يفهم الرياضيات، والبعض يفتقر لقواعد اللغة العربية، وهكذا باقي المواد، وبالتالي فإن عصر كورونا قطعاً أنتج لنا جيلاً متراجعاً دراسياً.
انتهت مرحلة الحجر الصحي الجمعي وعادت الحياة إلى طبيعتها، لكن هل عاد التدريس إلى طبيعته؟، كلا، ما زالت المدارس الحكومية تحمل العائلة مسؤولية تدريس أبنائها وبناتها من دون مراعاة للمستوى العلمي للأب أو الأم، ومن دون إحساس وشعور بالمسؤولية من قبل الكوادر التدريسية التي تتقاضى رواتب من الدولة من دون أن تؤدي واجباتها الوظيفية والإنسانية.
الكوادر التدريسية لا تراعي أن لدى الأب مسؤوليات كثيرة تجاه عائلتها ليس التدريس من ضمنها، ولديه التزامات اجتماعية ربما لا تمنحه الوقت ليحل بديلاً عن المعلم الذي لا يمارس واجبه، ولا تراعي أن الأم قد تكون موظفة أو عاملة، وحتى إن لم تكن كذلك فهي عاملة لا تملك وقتاً للراحة بسبب الواجبات المنزلية.
ربما سيقول البعض أن المعلم والمعلمة أيضاً لديهم هذه الواجبات العائلية والالتزامات الاجتماعية، نعم وألف نعم هم كذلك، لكن هل أدوا واجباتهم الوظيفية؟، لا أظن ذلك، ولست أنا من أجيب بل أترك الجواب لأولياء الأمور، هل أبنائكم وبناتكم يعودون للمنزل وقد فهموا الدروس أو أنهوا الواجبات، بل هل أن الدروس التي يتلقونها في المنهاج الدراسي هي دروس ومعادلات وأمثلة تتناسب مع مستوياتهم الفكرية والعمرية؟، وهل كمية الواجبات التي يكلفهم بها المعلمون تتناسب مع ساعات اليوم المتبقية قبل نومهم وهل لدى أولياء الأمور الوقت الكافية لمتابعة أبنائهم وبناتهم وتدريسهم؟.
أعتقد أن الحكومة الجديدة بحاجة ملحة وإجبارية إلى مراجعة المناهج الدراسية، وآليات التدريس في المدارس الحكومية، والطريقة الكلاسيكية البليدة في التدريس، وحجم وكمية ونوعية الواجبات المنزلية التي لا طائل منها ما دام المعلم ليس حريصاً على إفهام المادة الدراسية في الصف وهذا واجبه وليس واجب الأب أو الأم.