ارتفعت أسعار النفط والغاز بشكل كبير، ويبدو أن هذا الارتفاع لا يمكن كبح جماحه على المدى المنظور، فالتعافي من الجائحة فتحَ آفاق العمل، وبالتالي رفعَ وتيرةَ الطلب على الطاقة، والانقطاعاتُ في إمدادات الطاقة أخلَّتْ في المعروض منها في الأسواق، ناهيك عن الأسباب السياسية والإدارية التي ساهمت في إشعال الأسعار.
وللطاقة أهمية قصوى في اقتصادات العالم، ولها في الوقت نفسه، تأثيراتٌ متعددة ومتناقضة على موازنات الدول وموازينها التجارية، إضافة إلى أسعار صرف عملاتها، وبالتالي حجم التضخم فيها، وهذا يدعو إلى البحث في قيمة هذه السلعة الإستراتيجية، ومتابعة تأثيراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية على الاقتصادات، واستشراف مستقبلها، في ضوء النقاط التالية:
* ارتفعت أسعار النفط إلى ما فوق 85 دولار للبرميل، وأسعار الغاز في أوربا إلى ما فوق 1300 دولار لكل ألف متر مكعب، ويبدو أنها في تصاعد مستمر على المدى المنظور، وذلك بسبب نقص الامدادات بالتزامن مع التعافي من الجائحة، وزيادة الطلب خاصة بعد انتعاش حركة النقل والسياحة.
* مع ارتفاع أسعار النفط والغاز، انتعشت عمليات استخراج النفط والغاز الصخري في أمريكا، فكلفة استخراج النفط الصخري تبلغ حوالي 40 دولار للبرميل، بينما سعر برنت يبلغ حوالي 85 دولار، وكلفة انتاج الغاز تبلغ حوالي 3 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (BTU)، بينما سعر بيع الغاز الصخري يبلغ حوالي 5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وبذلك انتشل ارتفاع سعر النفط والغاز شركات النفط الصخري من الإفلاس، فعاودت إنتاجها حتى بلغ أكثر من 8 مليون برميل يوميا.
* تعتبر وتيرة الزيادة في أسعار النفط والغاز من أهم العوامل المؤثرة على حجم التضخم العالمي، فأسعار كل السلع والخدمات ارتفعت عالميا، بسبب الارتفاع الحاصل بأسعار الطاقة، فبلغت نسبة التضخم في أمريكا حوالي 5%، وفي أوربا حوالي 3%، وهي نسب عالية جدا، قياسا بمعدلات التضخم الطبيعية فيها.
* لهذا الارتفاع تداعيات اقتصادية وسياسية على الدول، نُلخّصها كالآتي:
- أسعار النفط ما دون 40 دولار للبرميل تضرُّ الاقتصاد الأمريكي، لأنها تؤدي إلى إيقاف عمليات استخراج النفط الصخري، وبالتالي إفلاس شركاتها، على ألّا تتجاوز هذه الأسعار حاجز 80 دولار للبرميل، لأن هذا الارتفاع يكون مصحوبا بزيادة معدل التضخم، والضغط على سعر الفائدة بالارتفاع، ومن ثم الركود، وارتفاع نسبة البطالة، الأمر الذي دفع البيت الأبيض مؤخرا إلى حثِّ أعضاء منظمة أوبك بشأن إمدادات النفط والسيطرة على الأسعار.
- ارتفاع أسعار النفط عامل إيجابي لاقتصادات الدول المنتجة للطاقة الاحفورية، لأنه يرفع مواردها، ويعزّز موازناتها العامة، وموازينها التجارية، ويساهم في زيادة معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لها، إلا أن هذا الارتفاع يكون عادة مصحوبا بزيادة معدل التضخم، وضعف القدرة الشرائية لعملاتها المحلية، لهذا تفضل هذه الاقتصادات أسعارا تتراوح بين 70-80 دولار كسعر عادل بين الدول المنتجة والمستهلكة (المستوردة).
- يضرّ ارتفاع أسعار النفط ضررا شديدا اقتصادات الدول المستورِدة والمستهلِكة للنفط، ويؤثر مباشرة في موازناتها العامة، وموازينها التجارية، إذ يُعَدُّ هذا الارتفاع أحد أهم أسباب العجز فيها، إضافة إلى أنه يرفعُ معدل التضخم فيها، وبالتالي زيادة معدلات الفائدة، ويُعرّضُ سعرَ صرف عملاتها إلى التراجع أمام الدولار.
* تقلّباتُ أسعار هذه السلعة الإستراتيجية، النفط والغاز، تؤثر سلبا أو إيجابا على اقتصادات الدول المنتجة للطاقة والمستهلكة لها، على حدّ السواء، لذلك لا بد من تحري السعر الذي يحقّق العدالة لكافة الأطراف، ويتلافَى الضررَ، وقد يكون السعر بين 70-80 دولار للبرميل عادلا لكل الأطراف، حسب رئيس شركة سوناطراك الجزائرية.
* كان الاعتقاد سائدا لدى مسؤولي البنوك المركزية العالمية، والقائمين على اقتصادات الدول، بأن التضخم مؤقت، ناجم عن زيادة الطلب بعد التعافي من الجائحة، وبالأخص الطلب على الطاقة، إلا أن الانكسارات التي حصلت في سلاسل الإمدادات، وارتفاع تكاليف السلع والخدمات، والعوامل المناخية، والاضطرابات السياسية ولدت القناعة بأن التضخم الذي يجتاح العالم اليوم ليس مؤقتا، بل هو تضخم هيكلي هجين طويل الأجل، وهو ليس تضخم طلب فحسب، وإنما تضخم كلفة، وتضخم سعر الصرف المؤثر في الاستيراد، وتضخم ناجم عن نقص الإمدادات أيضا، لذلك فارتفاع معدلات تضخم السلع والطاقة سيستمر لعدة سنوات قادمة قبل أن يتم كبح جماحه كليا.
* إن التوجّه العام لدى الاقتصادات العالمية كان مُنصبًّا على استخدام البدائل النظيفة الخضراء المستدامة للطاقة، والابتعاد عن الطاقة الاحفورية، إلّا أن بطء التقدم التكنولوجي في مجال الطاقة المستدامة، ونقص الإمدادات، دفعَ اقتصادات الدول إلى العودة إلى الفحم، وأعادَ للنفط والغاز قيمتهما الإستراتيجية على المدى المنظور، ولو علمنا أن الطاقة الاحفورية آيلة للنضوب، فانه يتحتم على العالم البحث بجدية أكبر عن البدائل من جهة، وتوجيه موارد الطاقة التقليدية إلى التنمية المستدامة، وتحقيق الأمن الغذائي، والسياسي من جهة أخرى.
* وأخيرا.. لابد لكل الدول، المنتجة والمستوردة، من الاتفاق على سعر عادل للطاقة الاحفورية، يكون مناسبا لكل الدول في تحقيق التنمية، واستغلال هذه الثروة لإيجاد بدائل خضراء للطاقة قبل نضوبها، من جهة، وعدم إفساح المجال للقوى التي تسعى وتخطط لكسر سلسلة إمداداتها، وافتعال أزمات في التوريد والتوفير، مما يجعل أسعارها عرضة للارتفاع والتضخم من جهة أخرى.