يشكل النزوح الداخلي في العراق مشكلة معقدة تلقي بظلالها على كثير من مفاصل المجتمع وتسبب تغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة.

 والمفارقة فيما يتعلق بالنزوح وتغيير مناطق السكن، ان المجتمعات المتقدمة تشهد في اوقات الازمات نزوحا متوازنا ينسجم مع السياسات الحكومية بهذا الشأن، ففي المدة التي انتشر فيها وباء كورونا مثلا، شهدت البلدان الاوروبية نزوحا واضحا من المدن الى الارياف التي شهدت تفضيل الناس السكن فيها نشدانا للهدوء وابتعادا عن المخاطر الصحية المرتبطة باكتظاظ المدن.

وفي العراق فان النزوح ارتبط عادة بالصراعات المسلحة بالدرجة الاولى، ومن ذلك الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) التي تسببت في نزوح كبير للسكان من مناطق القتال، لاسيما من البصرة والمناطق الحدودية، وكذلك حرب الخليج (1990-1991)، أدت إلى تدمير البنية التحتية والنزوح.

وابان الهجوم الامريكي الأمريكي في العراق (2003) وما تلا ذلك تسببت العمليات العسكرية وسقوط النظام المباد بنزوح كثير من العائلات، كما ان الصراع ضد داعش (منذ 2014) تسبب في نزوح اعداد هائلة من السكان من المناطق التي سيطر عليها التنظيم.

ان اندلاع العنف الطائفي، أدى إلى التهجير القسري لكثير من السكان من مناطقهم الأصلية، الى مناطق اخرى، وكثير منهم مكثوا في مناطقهم الجديدة ولم يعودوا الى مناطقهم الاصلية، كما ان التوترات الاثنية في مناطق متنازع عليها مثل كركوك، لم تزل تدار بصورة سيئة ولم يرجع كثير من السكان الى مناطقهم الاصلية التي رحلوا منها لفرض تغييرات ديموغرافية في عهود سابقة.

كما ان تدهور الأوضاع الاقتصادية وانعدام فرص العمل في بعض المناطق دفع السكان إلى النزوح بحثًا عن فرص أفضل في مناطق أخرى، وينطبق هذا بالأخص على مدينة بغداد التي شهدت نزوحا من المحافظات المجاورة لاسيما محافظة واسط ليسكن النازحون الجدد في أطراف العاصمة نشدانا للعمل فاستقروا هناك في بيوت متواضعة انشأوها على عاجل بخاصة في المناطق الزراعية ومناطق العشوائيات.

اما عن تداعيات النزوح الداخلي ومخاطره، وبحسب مصادر الدراسات فانه يؤدي إلى تفكك الروابط الأسرية والمجتمعية نتيجة الابتعاد عن البيئات الأصلية والمألوفة، كما ان النازحين غالباً ما يفتقرون إلى الموارد المالية، مما يزيد من الفقر والبطالة في المناطق المضيفة؛ ويعاني النازحون من نقص في الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، مما يؤثر سلباً على الأطفال والنساء بشكل خاص.

ويمكن أن يؤدي تدفق النازحين إلى مناطق جديدة إلى توترات بين السكان الأصليين والنازحين، لاسيما إذا كانت الموارد شحيحة.

والنزوح الكبير يمكن أن يغير التركيبة السكانية في بعض المناطق، مما قد يؤثر على التوازن الطائفي والاثني.

ويعاني النازحون من صدمات نفسية بسبب العنف وفقدان المنازل والأحباء، مما يتطلب دعما نفسيا وتأهيلا اجتماعيا؛ كما ان معالجة هذه القضية تتطلب جهودا شاملة من الحكومة والمجتمع الدولي لضمان عودة النازحين إلى ديارهم وتحسين ظروفهم المعيشية.

ان التغيرات المشخصة والمسجلة في البنية الاجتماعية بسبب النزوح الداخلي، تؤثر على الأفراد والمجتمعات بشكل عام؛ وتتضمن بالخصوص انفصال أفراد الأسرة بسبب الظروف الصعبة، مما يضعف الروابط الأسرية، فبعض العائلات هاجر شبابها الى مناطق اخرى كأفراد من دون عائلاتهم وذويهم وحاولوا تأسيس اماكن سكن وعمل في مناطقهم الجديدة.

وبالنتيجة فان المجتمعات التي كانت مترابطة بشكل جيد تعرضت للتفكك نتيجة نزوح سكانها إلى مناطق متنوعة وشهدت بعض المناطق زيادة كبيرة في عدد السكان بسبب تدفق النازحين، مما يؤدي إلى تغيرات في التركيبة السكانية، ويتوضح هذا بصورة لافتة في العاصمة بغداد التي تضخمت اعداد سكانها لتتجاوز 9 ملايين نسمة بحسب الارقام الرسمية.

وبالمقارنة مع دول اخرى تفوقنا سكانا وعلى سبيل المثال فان عدد سكان باريس 2,234 مليون وفقاً لإحصائيات عام 2009، لم يرتفع سوى إلى 2,243 عام 2010 وفي عام 2019 انخفض الرقم الى 2.161 مليون، وتعدها التصنيفات واحدة من أكثر المدن كثافة سكانية في العالم، فيما يبلغ عدد سكان فرنسا 67.97 مليونا ‏(2022)، اما مدينة برلين عاصمة المانيا فتحتل المرتبة الثانية ألمانيا وأوروبيا من حيث عدد السكان، ويبلغ عدد سكانها نحو 3.5 ملايين نسمة في عام 2015، في حين ان نفوس المانيا 83.8 مليونا، ومساحتها اصغر من مساحة العراق بنحو 100 ألف كيلومتر مربع، وبلغ عدد سكان برلين 3,66 ملايين،  وفقاً لإحصائيات عام 2020.

ووفقًا لأحدث إحصائية رسمية للأمم المتحدة، انخفض عدد سكان برلين في عام 2024 الى نحو 3.59 ملايين نسمة، أي انه تناقص، ويحسب ضمن العدد الكلي حاملو الجوازات الأجنبية بأكثر من 780,000 نسمة من 3.59 مليون نسمة مواطنة. 

 وكما نرى فان ذلك يحصل بعكس ما يحدث لدينا، لأسباب عدة لا مجال لشرحها الآن، ولكن يمكن القول ان من اهمها التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتكنلوجي، الذي يشمل جميع اجزاء تلك البلدان بمدنها واريافها، ما يؤدي الى التوزيع المتساوي للسكان في تلك الانحاء التي يجد الناس ان جميعها ملائمة لسكنهم من دون معوقات.

ومختصر القول، ان من مظاهر النزوح الداخلي، امكانية أن يؤدي إلى تشكيل مجتمعات جديدة تجمع بين أفراد من خلفيات مختلفة، مما يخلق تحديات جديدة لنمط التعايش، وان تدفق النازحين إلى مناطق جديدة قد يؤدي إلى زيادة التوترات بين السكان الأصليين والنازحين، بخاصة إذا كانت الموارد والخدمات محدودة.

والنزوح من مناطق معينة إلى أخرى قد يعزز من النزاعات الطائفية بسبب الخلافات القائمة مسبقًا، كما ان النازحين غالباً ما يواجهون صعوبات في الحصول على فرص عمل، مما يزيد من معدلات الفقر والبطالة في المناطق المضيفة.

وان تدفق النازحين يؤدي إلى زيادة الطلب على الموارد والخدمات المحلية، مما قد يرهق الاقتصاد المحلي، والأطفال النازحون غالباً ما يفقدون فرص التعليم بسبب الانتقال المستمر وعدم توفر المدارس في مناطق النزوح.

والخدمات الصحية قد تكون غير كافية لتلبية احتياجات النازحين، مما يؤدي إلى تدهور الحالة الصحية للأفراد، كما ان النزوح وما يصاحبه من فقدان للمنازل والأحباء يؤدي إلى صدمات نفسية تحتاج إلى تدخلات علاجية ودعم نفسي.

والنازحون قد يشعرون بفقدان الهوية والانتماء نتيجة الابتعاد عن مجتمعاتهم الأصلية؛ وبسبب ان كثيرا من النازحين لدينا ينتقلون من المناطق الريفية إلى الحضرية، فان ذلك يؤدي إلى تغير في نمط الحياة والعمل، والنزوح يمكن أن يؤدي إلى تغير في العادات والتقاليد الاجتماعية نتيجة التفاعل مع مجتمعات جديدة.

كما تبرز ظاهرة اعتماد النازحين على شبكات جديدة للدعم الاجتماعي، مثل المنظمات غير الحكومية والجمعيات المحلية، وفي ظل غياب الهياكل الاجتماعية التقليدية، قد تظهر قيادات جديدة في داخل المجتمعات النازحة لتنظيم وتقديم الدعم.