عانى الكاتب الإنكليزي «كولن ويلسون»، كثيراً من أزمة عدم الاعتراف به ككاتب، حيث ظلمه النقّاد ظلماً كبيراً، لكنه كان مفكّراً عظيماً، ونَدَر في ستينات القرن الماضي أن تجد مثقّفاً لم يقرأه ويقرأ نتاجاته الأدبية والفلسفية والفكرية، على خلافنا نحن قرّاء العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين.
يبدأ ويلسون الغوص بعيداً في أعماق كلّ كتاب من الكتب التي عالجها نفسياً وفكرياً وفلسفياً ودينياً في كتابه «اللامنتمي» الصادر عام 1956م، فيقرأ الكتاب ذاتياً ونقدياً، ومن ثم يعالجه بطريقة مبتكرة، فيقدّم تحليلاً سيكولوجياً نفسياً اجتماعياً مفصّلاً، وبلغة نافذة محكمة ليست لها مثيلاً في عالم الأدب. يقارن أساليب الكتّاب وموضوعات كتبهم ودلالاتها ورموزها مع كتّاب آخرين، فلم يكفيه ذهنه لمواجهة ما هو مستتر لدى أولئك الكتّاب اللامنتميين، فواجهها فيلسوفاً وبأسلحة فلسفية، بلغة النقد، وتنظيم الأفكار في مقاطع وفصول.
قبل أن أغوص في دراستي هذه، لا بدّ أن أشير إلى نقطة جوهرية، وهو من الضروري لكلّ مَن يريد أن يقرأ هذا الكتاب؛ أن يقرأ أولاً المؤلّفات التالية:
- هنري باربوس: الجحيم.
- جان بول سارتر: الغثيان، الوجودية مذهب إنساني.
- آلبير كامو: الغريب.
- إرنست هيمنغواي: أول تسع وأربعين أقصوصة، وداع للسلاح، لمَن تقرع الأجراس.
- هارلي غرانفيل باركر: الحياة السرّية.
- جيمس جويس: صورة الفنّان في شبابه.
- هيرمان هيس: دميان، ستيفن وولف (ذئب البوادي)، سدهارتا.
- توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب): أعمدة الحكمة السبعة.
- توماس ستيرنز إليوت: الأرض اليباب، أربعاء الرماد.
- فرانز كافكا: المسخ، المحاكمة، الصائم المحترف.
- فريدريك نيتشه: هكذا تكلّم زردشت، مولد التراجيديا، إنسان مفرط في إنسانيته، ما وراء الخير والشرّ، إرادة القوّة، أصل الأخلاق.
- ليو تولستوي: الحرب والسلم، مذكّرات مجنون، آنا كارنينا.
- فيودور دوستويفسكي: مذكّرات من تحت سطح الأرض (رسائل من تحت الأرض)، الجريمة والعقاب، الشياطين، الأبله، الفقراء، الأخوة كارامازوف.
- يوهان غوته: آلام فرتر.
- سيرة الرسّام الهولندي «فينسنت ويليم فان جوخ».
- سيرة الصوفي الهندي «راماكريشنا».
- جورج برنارد شو: أعماله المسرحية.
- سيرة معلّم التصوّف الباطني أو المعلّم الروحي، اليوناني من أصل قوقازي «جورج غوردييف».
وربّما يسأل قارئ هذه الدراسة: لماذا يجب علينا أن نقرأ كلّ هذه المؤلّفات؟ الجواب بسيط جداً؛ لأن ويلسون يدخل في أعماق كلّ هؤلاء الكتّاب اللامنتميين، وحتى تفهم حقيقة وعقيدة وفلسفة اللامنتمي، لا بدّ أن تعلم ما هو مختبئ من قصص وأحداث في تلك المؤلّفات والسير الذاتية.
اللامنتمي هي أن ترى ما لم يره الآخرون، أيّ (اللامنتمي) يرى أكثر ممّا يراه الناس العاديون. كان يعاني من تراجيديا الانفصال بين المثالية والواقعية. هو لا شيء ولا يستحقّ شيئاً، وهذا لا يعني بأنه عدميّ – عبثيّ؛ بل هو إنسان يبحث عن الحقيقة، وأن كلّ ما في الوجود يصادر هذه الحقيقة، أو ربّما يطمرها تحت اعتبارات حياتية فارغة وزائلة: (المال، النظام، العائلة، المجتمع، العاطفة، التكنولوجيا...).
وهو شخص يشقى شقاء الأنبياء؛ ينسحب من غرفته كالعنكبوت في الزوايا المظلمة، ويعيش وحيداً، راغباً عن الناس (حنينه إلى الناس لا يقاوم). إنه يفكّر ويحلّل ويهبط إلى نفسه. باختصار: اللامنتمي كالنبي لا يعرف نفسه؛ فهو معني بالتفكير لا بالعمل.
وفي اعتراضه لقوانين أو شرائع حياة المجتمع إنما يطرح أسئلته المشكّكة في صحّة سير العالم واستقامته، يطرح أجوبته التي يثق في صحّتها، و يرى فيها الخلاص لنفسه وللعالم، والأهم أنه يطرح بدائله التي يراها أنسب لهؤلاء الموافقين دوماً والمنتمين دون نقاش لحضارة مريضة يشكّلون عضال مرضها، ويدفعونها للأمام قدماً نحو مزيد من التفكّك.
فما كتبه الشاعر الإنكليزي «جون كيتس» نفسه إلى حبيبته «فاني براون» قبل موته بعام واحد، يوضّح ملامح الشخصية اللامنتمية: «إني أشعر وكأنني ميت منذ زمن، وإني إنما أعيش الآن حياة ما بعد الموت. ذلك هو معنى اللاحقيقية، الذي يمكن أن يبرق في سماء شديدة الصفاء: إلا أن الأعصاب القوية والصحّة الجيدة تجعلان ذلك أمراً غير ممكن، غير أن ذلك قد يكون لأن هذا الرجل الذي يتمتّع بصحّة جيدة يفكّر بالأشياء الأخرى دون أن ينظر في الاتجاه الذي يكمن فيه الشكّ، لأن مَن ينظر في هذا الاتجاه لا يستطيع أن يرى العالم كما كان يراه عليه من قبل من استقامة». (الصفحتان 22 – 23، ترجمة: خليل حنا تادرس).
يحاول ويلسون من خلال معالجاته لأعمال كتابية عالمية، أن يحدّد مظاهر اللامنتمي أو مظاهر شخصيته، ومن هذه المظاهر:
اللامنتمي هو وحده الذي يستطيع أن يرى، إنه يردّ على مَن يتّهمه بالمرض والنورالجية قائلاً: «الأعور في بلاد العُميان ملك». (الصفحة 30، ترجمة: خليل حنا تادرس).
اللامنتمي هو الرجل اللامسمّى، الذي يفكّر ويعيش خارج ما يفكّر ويعيش به الآخرون.
اللامنتمي يشعر بأنه ميت منذ زمن. (كما في رسالة كيتس لحبيبته براون).
يوميات اللامنتمي عبارة عن مجموعة من الأحلام.
اللامنتمي رجل موزّع النفس؛ باعتباره ينشد التوحيد النفسي.
اللامنتمي إنسان صبور على وحدته المتطرّفة، التي تجعله نوعاً من الأثير البارد، مشبّهاً وحدته بوحدة المسيح المعلّق وحيداً على الصليب.
قدرة اللامنتمي على الانفعال الديني الشديد.
لقد تطرّق «ويلسون اللامنتمي» إلى أساليب الحوار لدى مَن هم مثله، فالحوار عندهم تارة مسرحي اعتيادي بينه وبين ذاته، وتارة أخرى فلسفيّ محيّر، وفي معظم الأحيان عبثيّ – عدميّ، ولعلّ النوع أو الأسلوب الأخير هو ما يقرأه أيّ قارئ عن اللامنتمي، أو يشاهده على هيئته من بعيد للوهلة الأولى أو الاختلاط الاجتماعي الأول.
يجمع ابن ليستر في بحثه الكبير والقيّم عن اللامنتمي، من خلال الفكر والفلسفة والفنّ والأدب من رواية وقصّة وشعر ومسرحية، إذ لا يعتمد على صنف واحد، بل يغوص في ذلك أشواطاً من العمق السيكولوجي والإيديولوجي والأبابية الذاتية، فمثلاً:
في مسرحية «الحياة السرّية» للكاتب والباحث المسرحي الإنكليزي «هارلي غرانفيل باركر» الألم سبب للضعف الإنساني لدى الإنسان اللامنتمي، هذا الضعف الإنساني بتفكيره الديني يقود إلى إدراك أن الإنسان ليس كائناً ثابتاً غير متبدّل، إنه شخص ما في يوم ما، وهو شخص آخر في يوم آخر. إنه ينسى بسهولة ويعيش في لحظته. إنه ينسى هدفه الأصلي، ويتحوّل عنه إلى هدف آخر، ومن جملة ما تقوده الأفكار المضمرة التي تباحثها ويلسون لدى الفيلسوف الفرنسي «جان بول سارتر» والروائي الأمريكي «إرنست همينغواي» والفيلسوف الفرنسي «آلبير كامو» إلى السؤال:
كيف يستطيع الإنسان أن يكون أقوى؟ كيف يستطيع أن يقلّل من عبوديته للظروف أو المحيط اللاصق به؟
وفي الرواية الرسائلية «آلام فرتر» للأديب الألماني «يوهان غوته» نرى اللامنتمي شاعراً مثالياً شاحباً، بقلبه وروحه، لا بجسده ووجهه. هو شخص لا يميل إلى الحماس، ولا يستطيع أن يكون متشائماً نهيلستياً مثل سارتر وكامو، بل يحلم بعوالم جديدة. فيما الكاتب السويسري من أصل ألماني «هيرمان هيس» يرى أن قبول اللامنتمي حالة النظام والعيش في ظلّها لا يكفيان، بل يجب أن يواجه الإنسان الفوضى؛ ليحصل على نظامه الحقيقي في التفكير والعيش.
وقد صنّف اللامنتمي إلى أنواع عديدة ومختلفة، فهناك اللامنتمي الواقعي واللامنتمي الرومانسي واللامنتمي الانفعالي والجسدي والديني والمعنوي والمادي. إن الفرق بين اللامنتمي الواقعي واللامنتمي الرومانسي كبير؛ فالأول يستفسر عن معنى الحقيقة، فيما الثاني يبحث عن الحقيقة ذاتها، فيسأل: «أين أستطيع أن أجد الحقيقة؟». (الصفحة 71، ترجمة: خليل حنا تادرس).
وهذا ما ظهر في مؤلّفات هيس القصصية، الذي يرى أن اللامنتمي يزهد في الوحدة، وذلك أن اللامنتمي الرومانسي يجد نفسه غالباً في ربقة التشاؤم واليأس معادياً للحياة، مثلاً: «إن أذيال النساء المرتفعة لا تزعجه في الشارع، كما إنه لا يعلّق أهمية كبيرة على الوقوف إلى جانب الحقيقة، وإنما يسمع لخياله بأن ينطلق، فنرى أن اليوميات عبارة عن مجموعة من الأحلام.». (الصفحة 83، ترجمة: خليل حنا تادرس).
إن مشاكل اللامنتمي مشاكل حقيقية، وليست ضلالات نورالجية، إذ حاول ويلسون جاهداً التركيز عليها، ومنها «لا حقيقية حياتهم»، وهم يدركون ذلك فعلاً حين يكون سبباً في إيلامهم، إلا أنهم لا يدركون مصدر هذا الألم، خاصّة وأنه لا يجد «الإدراك النفسي» في أيّ مكان يذهب إليه، ومع حاجته إلى اللحظة اللازمنية:
«انفتح باب العالم الآخر فجأة بين قطعتين أو ثلاث قطع من موسيقى البيانو، فأسرعت إلى السماء، وهناك رأيت الله مشغولاً بأعماله... فثبتت لدي الأشياء كلّها – وسلمت هذه الأشياء كلّ قلبي، إلا أن ذلك لم يدم أكثر من ربع ساعة». (الصفحة 98، ترجمة: خليل حنا تادرس).
ويمكننا تلخيص مساهمة المؤلّف البريطاني «هنري جيمس» في هذه المشكلة بكلمات «ايلروي فليكر»: «أن الأموات يعرفون شيئاً واحداً فقط: هو إنه من الأفضل أن يكون الإنسان حيّاً». (الصفحة 103، ترجمة: خليل حنا تادرس).
وأيضاً أن هذا العالم الاعتيادي يفقد قيَمَه بالنسبة له، إذ تتسم حياته بالكابوسية أو ما يشبه شاشة السينما حين تكون بيضاء، إذ يدرك أن ما شاهده من آمال ورغبات لا يعدو فيلاً مصوّراً على الشاشة، فيسأل نفسه: «مَن نحن؟ ماذا نصنع هنا؟»، ومتى ما تنتهي الشاشة بوهمها وينقطع سبل الحوادث العرضية ومصادفاتها يجد نفسه في مواجهة حرّية مرعبة، ويعبّر سارتر عن ذلك بقوله: «إنهم محكوم عليهم بالحرّية». (الصفحة 99، ترجمة: خليل حنا تادرس).
ومن مشاكل اللامنتمي، التي ذكرها ويلسون، إلى جانب اسم الشخص – الكاتب الذي كان يعاني منها:
- مشكلة الإدراك النفسي، ظهرت لدى «هيس».
- مشكلة إنكار التغيير الذاتي، ظهرت لدى «لورنس».
- مشكلة الهدف أو الأسلوب الذي يجب أن تُعاش به الحياة، ظهرت لدى «كامو وهيمنغواي».
- مشكلة الانفصال عن الآخرين، أو «إيكليزياستس»، والتي تعني أن لا شيء يستحقّ بذل أيّ مجهود، وظهرت هذه المشكلة لدى «باركر».
- مشكلة التفاهة الذاتية، لدى «نجنسكي».
- مشكلة التشكيك بحقيقة أو عمل الأديان.
- مشكلة الحرّية.
- مشكلة أنه لا يشتهي الحياة.
- مشكلة الشعور بالخوف من الحياة، والبحث عن نفسه، ظهرت لدى الروائي الروسي «ليو تولستوي» في كتابه «مذكّرات مجنون»، حيث يقول: «لماذا هذه الحياة؟ أللموت؟ ألأنتحر حالاً؟ كلا. إنني خائف. ألأنتظر الموت حتى حين؟ بل إنني أخاف ذلك أكثر. إذن يجب أن أعيش. ولكن لماذا؟ ألكي أموت؟ ولم أستطع أن أنجو من تلك الحلقة المفرغة. وأخذت كتاباً وقرأت، ونسيت نفسي للحظة، إلا أنني عدت مباشرة إلى الرعب والسؤال السابقين. واضطجعت وأغلقت عيني، ولم يقل الأمر سوءاً...». (الصفحة 225، ترجمة: خليل حنا تادرس).
- مشكلة (مَن أنا).
وقد تطرّق معالجات هذا الكتاب إلى أعراض مشاكل اللامنتمي، إنه شخص «ليس حيّاً فيما يفعل، وإنه لا يشعر ما يفكّر به»، إذ جاء في الصفحة (152) على لسان مؤلّف الكتاب: «أنا إدراك بواسطة العقل، لا بواسطة الشعر (لورنس). وأما فَان كوخ فهو يستطيع أن يقول: أنا إدراك بواسطة الشعور، لا بواسطة العقل، في حين يقول نجنسكي: أنا إدراك بواسطة الجسد، لا بواسطة العقل أو الشعور».
كتب الضابط الإنكليزي «توماس إدوارد لورنس» رسالة إلى «إدوارد كارنيت»، قال فيها: «لقد بحثت في الشعر الذي قرأته عن شيء من الشعور بالقناعة، إلا أنني لم أجد شيئاً من ذلك، ووجدت بدلاً عنه أني إنما حوّلت تلك المجموعة من الحلويات إلى نوع من الشوكولاتة الروحية، في حين إنني كنت أبحث عن وجبة طعام. ولما تبينت فشلي في الحصول عليها في الشعر، بحثت في النثر، ووجدت في كلّ مكان شيئاً قليلاً من الغذاء، أما ما عدا ذلك فلم يكن هنالك إلا القليلون الذين التزموا الأمانة لغرض واحد هو أن يكونوا اسمي من الجنس البشري، ولم يملأ معدتي منهم إلا مصارعاتهم ومجاذباتهم. إنني لا أستطيع أن أكتب الشعر، وعليه فقد بدأت أكتب النثر، لأحاول أن أعدّ وجبة من الطعام لي ولكلّ مَن يبحث عنها مثلي». (الصفحتان 106 – 107، ترجمة: خليل حنا تادرس).
وممّا جاء في كتاب «ت . ي . لورنس بأقلام أصدقائه» دليل آخر على أن اللامنتمي لا يدرك نفسياً بأنه حيّ: «لقد جعلتني قراءتي لهذا الكتاب أعاني الأمرين، فإن مؤلّفه هو أعظم رجل عرفته، إلا أنه مع ذلك مخطئ خطأ كبيراً. إنه ليس نفسه. لقد وجد (أنا) إلا أنها ليست أنا حقيقية، ولهذا فإني لأرتجف من مجرّد التفكير فيها سوف يحدث. أن مؤلّف هذا الكتاب ليس حيّاً فيما يفعل، إذ ليس هناك تبادل ما، وإنما أراه يشبه أنبوبة تتسرّب منه الحياة، وأنه لأنبوب ممتاز، إلا أنه لكي يعيش الإنسان حقّاً، يجب عليه أن يكون أكثر من هذا». (الصفحة 107، ترجمة: خليل حنا تادرس).
وهذا العَرَضُ النفسي قد مرّ به أيضاً «ميرسول» آلبير كامو، و«كريبزا» إرنست هيمنغواي، في أنه ليس نفسه؛ ذلك أن واجب اللامنتمي هو أن يجد الاتجاه الذي يؤدّي فيه أعماله ويشعر فيه بأنه نفسه على أشدّ ما يكون.
ومن أعراضه، شغف البحث الدائم عن السعادة، أو أنه لا يستطيع أن يكون سعيداً في المجتمع؛ لأنه يرى أكثر وأعمق ممّا يجب، يقول لورنس حين يسأله فيصل بن الحسين في أن يكون مستشاراً له: «قلت أني أكره المسؤولية، وإني في حياتي كلّها كنت أرى السعادة في الأشياء أكثر ممّا أراها في الأشخاص، وفي الأفكار أكثر ممّا في الأشياء...». (الصفحة 112، ترجمة: خليل حنا تادرس).
إن الرهبنة، أو النبوة الذاتية في الجسد والروح، أيضاً أحد أعراض مشاكل اللامنتمي التي ظهرت في شخصيته، لأن العالم بالنسبة إليه مكان لا لون له؛ وأن كلّ شيء غير حقيقي، فيقول لورنس: «لم يمنعني إلا الضعف على الانتحار العقلي – الذي يتمثّل في واجب بطيء يخنق هذه الكاوية الملتهبة في ذهني: لقد كوّنت أفكاراً عن الأشخاص الآخرين، إلا أني لم أخلق شيئاً خاصّاً بي، ربما لأنني لا أستطيع أن أستصوب خلق الأشياء». (الصفحة 113، ترجمة: خليل حنا تادرس).
يشعر اللامنتمي بأنه إنسان صرصار، كما في رواية «ملاحظات من تحت سطح الأرض» للروائي والفيلسوف الروسي «فيودور دوستويفسكي»، حيث توحي الرواية بأن بطلها ليس إنساناً بل صرصاراً، أيّ لامنتمياً معنوياً، حيث يقول دوستويفسكي: «إنني مريض... مملوء بالقيح والنتن...». (الصفحة 235، ترجمة: خليل حنا تادرس).
وعندما نسأل أنفسنا السؤال: لماذا يعتبر دوستويفسكي نفسه صرصاراً؟ ذلك لأنه عاش في غرفته وحيداً مدّة عشرين عاماً، نادراً ما يغادرها، يشكو من عسر الهضم والمزاج الحادّ، ويفكّر عميقاً، ويستمرّ على شرح أفكاره، فيستغرق ذلك خمسين صفحة، إنه مصاب بالحساسية النورالجية الشديدة، وهو يقول في ذلك لا أحدب ولا قزم، يمكن أن يكون أكثر اشمئزازاً وضجراً. وهذا الشعور تكرّر أيضاً على البطل «راسكولنيكوف» في رواية «الجريمة والعقاب».
وعن حالات الإدراك يقول «جورج غوردييف» أن هناك أربع حالات محتملة له، أولها هي (النوم)، والثانية (الإدراك اليقظ)، والثالثة (التذكّر الذاتي)، في حين أن الرابعة هي (الإدراك الموضوعي)، ولعلّ الحالة الثالثة كانت يعيشها كثير من اللامنتميين، كستيفن وولف مثلاً، فيشرح «أوسبنسكي» وهو أحد تلاميذ غوردييف البارزين التذكّر الذاتي في أن الشخص ينتبه إلى شيء موجود أمامه، وكأن الانتباه يصدر عنه، وينصب على الشيء، أما إن عرف في أفكاره أو ذكرياته فإن الانتباه يتجه إلى أعماقه، فيقول أوسبنسكي:
«تؤاتي الإنسان لحظات التذكّر الذاتي حين يرى محيطاً جديداً لم يكن يتوقّعه، وناساً آخرين لم يكن يألفهم، ويحدث ذلك في الأسفار مثلاً أو في اللحظات التي ينفعل فيها الإنسان جدّاً، ولحظات الخطر...». (الصفحة 286، ترجمة: خليل حنا تادرس).
لقد حاول «كولن ولسون» إيضاح نقطة جوهرية في كتابه، فيما يتعلّق بأول أسئلة الفلسفة والتي «ما هو الغرض من وجود هذا الكون؟»، بل حاول الذهاب عميقاً، بل أعمق وأمتن من ذلك، أيّ – وعن طريق فلسفة الكتّاب في هذا الكتاب – أن يجيب عن السؤال الثاني من الفلسفة «ماذا يجب علينا أن نفعل في حياتنا؟». والأمثلة كانت غزيرة، لتوضيح هذه النقطة.
عند الانتهاء من قراءة الكتاب نصل إلى نتيجة مفادها: كولن ويلسون لم يكن بناقد لغوي ولا بمحلّل لقراءات الأعمال الأدبية؛ بل كان مفكّراً ومحلّلاً نفسياً، أو معالجاً لنفسية وروحانية الكتب وما فيها من طوفان عقلي وفكري وفلسفي، فيغوص في وعيهم ولاوعيهم، ويقوم بدراستها وتحليلها وإعطاء أحكام حقيقية طبيعية عنها، ليؤكّد أن الشخصية اللامنتمية شخصية إنسانية طبيعية، ومن الإجحاف أن نصفها بالعبثية – بالعدمية.
ويبقى السؤال: ماذا حقّق هذا اللامنتمي من نجاح في الحياة؟ وهل هو نجاح إيجابي؟ إلى أيّ مدى يخدم الطبيعة الإنسانية، والواقع الراهن بمرارته وعبثيته؟ وماذا يريد؟ إنهم (اللامنتمون) يقدّمون إلينا فوضى من الفاسدين المنحطّين، مرضى العقول، محاولين إثبات أنهم أنواع من الإنسان السامي. يريدون عدلاً وإدراكاً حسّياً حرّاً؛ ليفهموا الروح الإنسانية وأفعالها، لينجوا من التفاهات الذاتية، وليعرفوا كيف يعبّروا عن ذواتهم.