عندما أسفرت نتائج الانتخابات العراقية في تشرين الأول عام 2021 عن قوى فائزة وأخرى خاسرة، كان على الجميع أن يذعن لنتائجها ويسرع في تشكيل الحكومة من القوى الفائزة، وهو الإجراء المتبع في جميع أنظمة الحكم الديمقراطية المتحضرة التي سبق ان خبرت الويلات بسبب الأنظمة الفردية والدكتاتورية، التي تسببت في حروب وكوارث فقد فيها عشرات ملايين الناس أرواحهم نتيجة عبث وتحكم غير المؤهلين بمقاليد السلطات التنفيذية والقضائية وحتى التشريعية.
كانت الانتخابات العراقية الأخيرة فرصة لا تعوض لتعديل مجمل ما يسمى بالعملية السياسية وسلك طريق جديد يلبي طموحات العراقيين الذين يعيشون الآن في ادني درجات الرقي والتحضر؛ بتشكيل حكومة فاعلة من القوى الفائزة التي تتحمل مسؤولية ادارة الأزمات وانقاذ الشعب من واقعه المزري وتحمل القوى والأحزاب التي تشكل الحكومة المسؤولية عن بناء البلد وتقدمه، و محاسبتها وإقالتها اذا اخفقت بتواجد معارضة قوية في ظل رقابة تشريعية فاعلة؛ لكن الذي حدث عكس ذلك تماما وبخلاف السياقات الديمقراطية التقليدية، إذ يجري القفز على نتائج الانتخابات ومحاولة منح الخاسر وحتى ممن لم ينل سوى بضعة مقاعد الفرصة للحكم وفق نهج المحاصصة والتوافق والمشاركة التي اثبتت فشلها في تلبية مطالب الناس، وهو اسلوب خطير وغير مضمون؛ فكيف لخاسر ان يفلح في الحكم وتلبية مطالب السكان؟!
وبرغم ان اغلبية الشعب قاطعت الانتخابات ولم تشارك في الاقتراع، فان اسلوب منح الخاسرين الحكم يؤدي حتما الى تفاقم المشكلات وتهديد السلم المجتمعي، بجره الى زوايا مظلمة ومخاطر مميتة حين ننتهج الاسلوب الفاشل ذاته في تقاسم المناصب وتوزيعها بين الجميع.
لقد وصلت العملية السياسية في العراق الى اخطر مراحلها بانسحاب الكتلة الفائزة الأولى التي صوت لها المقترعون، وبما ان معظم الشعب قاطع الانتخابات وبنسبة تقترب من الـ 80% بحسب ادق مصادر الاستطلاع، فان انسحاب الكتلة الفائزة الاكبر من مجلس النواب يقلص نسبة التمثيل للمجلس التشريعي الى نحو 10% من السكان وهو وضع شاذ وغير منطقي ويؤدي حتما الى تفاقم المشكلات والاخفاقات، ولن تنفع الوعود المعسولة في انقاذ الناس من محنها المتكاثرة.
من الضروري ان نشير هنا الى ان النظام الانتخابي المعمول به في العراق والقوانين المرتبطة به، كان سببا رئيسا للإخفاق باشتراطه حضور الثلثين وليس بالاغلبية في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ومن ثم اختيار رئيس الوزراء، وهو نمط في السياسة لمس الجميع بالتجربة انه غير ملائم للعراق الذي يمر بأزمات متفاقمة تتطلب الحسم ولا وتؤجل فيه عملية تنمية البلد ورخاء الشعب الى زمن مجهول، بل تستدعي اوضاع شعبه المزرية التحرك الفوري فيما يتعلق بتطوير البلد وتقدمه والارتقاء بحياة الناس.
لقد أدت التصرفات الخاطئة وعدم الاستفادة من دروس التاريخ وعبرة الماضي الى تعطيل الحياة النيابية والسياسية وسينتج عن ذلك النهج القاتل كوارث لن تنتهي بمعالجات مزاجية فصلت على وفق الرغبات والأهواء والمصالح الشخصية والحزبية، بل ان المشكلات تتعاظم في ظل الافتقار الى مؤسسات مهنية مستقلة لإدارة أموال الدولة والعجز عن تنفيذ الخطط اللائقة بالسكان على وفق نهج واضح وطموح وبرامج حكومية فاعلة تفتقر اليها القوى التي تسعى الى الحكم برغم خسارتها في الانتخابات.
اذا كان ممثلو الكتل والأحزاب ديمقراطيين حقيقيين كما يصرحون في الإعلام، فعليهم أن يطبقوا السياق الديمقراطي السليم المعمول به في أي ديمقراطية حقيقية، وذلك بمنح الحزب الفائز الأول في الانتخابات حق تشكيل الحكومة بغض النظر عن الموقف منه، وإعطائه الحرية والصلاحية في التحالف مع القوى الأخرى لاسيما تلك التي نالت أعلى الأصوات في الانتخابات وتسهيل الإجراءات الدستورية المطلوبة لتحقيق هدفه بتأليف الحكومة ومنحه الوقت المطلوب لتنفيذ التحالفات وتشكيل الحكومة والتصويت عليها في مجلس النواب بالأغلبية البسيطة؛ وإذا لم يتحقق له ذلك فلا ضير عندئذ من تكليف الفائز الثاني بعقد التحالفات وتشكيلها، وتلك هي الأسس الديمقراطية القويمة، وعدا ذلك فاننا نشهد مزيدا من الخراب وانعدام الإعمار والتخلف عن تطوير حياة السكان، وستفقد العملية الديمقراطية اسسها ومغزاها مهما فرح الخاسرون الساعون الى السلطة والاستئثار بمقدرات البلد المالية.
لن نقول ان بنا حاجة الى تغيير مجمل القوانين المتعلقة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية فذلك امر واقع يطالب به الشعب بقوة، وقد تجسد في المقاطعة الكبيرة للانتخابات وفي التظاهرات الجماهيرية الكبرى التي طالبت بالتغيير والمتواصلة حتى الآن بصيغ الاحتجاجات المطلبية بفعل افتقار الناس الى ابسط حقوقهم؛ أما محاولات الترقيع وعبور الأزمة كما يحلو للبعض أن يصور ذلك فلن تنفع إلا بتعميق الهوة بين طبقات الشعب والى مزيد من تخلف البلد وخرابه وانهيار البنى التحتية وغياب التنمية الصناعية والزراعية المرجوة وفقر الخدمات وتواصل دوامة الأزمات المتكررة.
وعندما يجري الحديث عن التوافق والتوصل الى الحلول الناجعة لإدارة البلد والارتقاء به فان الحل الوحيد برأينا هو التقاء القوى السياسية واتفاقها على تغيير النظام الانتخابي وحتى بنود في الدستور، بل الدستور برمته إذا تطلب، وتأمين عملية فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها وليس مثلما يجري الآن حين يتدخل القضاء بأمور لا تعنيه وبضمن ذلك مساعي وحوارات تشكيل الحكومة.
ان معالجة الأوضاع في العراق وخدمة السكان تتطلب السعي للتوصل الى حلول جذرية فيما يتعلق بأوضاعه السياسية والتشريعة، وسن القوانين المتوائمة مع العصر بما يحقق للسكان طموحاتهم في حياة حرة كريمة قوامها احترام الإنسان وكرامته بسن القوانين التي تخدمه، إذ ثبت بالتجربة بطلان القوانين الحالية؛ ومن دون ذلك لن نحقق شيئا وسنكون مقبلين على أزمات متلاحقة، ليس بمقدور احد إن يتنبأ بها.