تشكل قضية السلم الاجتماعي هما رئيسا لشعوب العالم، وكثيرا ما يعمل الحكام بالضد من ذلك، فتؤدي أفعالهم إلى الكوارث، وتنبثق المظالم والحروب ويموت بسبب ذلك ويجرح ويهجر ملايين البشر.

وبحسب المصطلح اللغوي فإن من اضداد السلم هي الحرب، فيما يسود بدلا من النزوع الاجتماعي الميل الفردي، وما ينتج عنه من السلبيات بحسب مفاهيم السياسة من تعصب ودكتاتورية تؤدي حتما إلى عدم الاستقرار والحروب والانهيارات المجتمعية.

وقد اتفقت جميع الدراسات وثبت ذلك بالتجارب على أن السلم الاجتماعي هو هدف سام يسعى إليه كل مجتمع، وهو أساس التقدم والازدهار.

ولكن لتحقيق هذه الغاية، هناك مجموعة من الأسس والاشتراطات التي يتوجب تأمينها، ومن دونها يظل هدف السلم المجتمعي أعرجا إذا جاز القول التي من دونها لا يمكن تحقيق هذا الهدف السامي؛ وان الإجراءات تتعلق بأهداف وأفعال عملية تطبق على الواقع وليست محظ حكم ونظريات وآراء فقهية تعوم في الهواء ونصائح فلسفية أو سياسية أو أخلاقية أو ما شابه، وفي هذا يمكن اقتباس قول المفكر والسياسي الروسي فلاديمير لينين؛ ان النظرية رمادية اما شجرة الحياة فخضراء دائما.

من الاشتراطات التي لا يمكن من دونها ترسيخ السلم الاجتماعي، تحقيق العدالة في توزيع الموارد والثروات، وتوفير فرص متساوية للعمل والكسب للجميع، والقضاء على التمييز والمحسوبية في هذا الجانب.

ومن ذلك ايضا الارتقاء بالنمو الاقتصادي وقد أضيفت له على وفق التعريفات الحديثة ما يسمى النمو الاقتصادي المستدام، الذي يسهم في تحسين مستوى المعيشة وتقليل الفقر، ما يقلل من التوترات الاجتماعية؛ وان الفقر والبطالة يزيدان من التوترات الاجتماعية ويؤديان إلى الجريمة والعنف، ومن الإجراءات المتعلقة بذلك مكافحة الفساد في جميع صوره، فهو يشكل تهديدا كبيرا للسلم الاهلي.

ومن الامور المعززة لتكريس السلم المجتمعي قبول التنوع الثقافي والقومي والديني والاجتماعي، والاحتفاء بالاختلاف كقيمة إيجابية، وتطبيق القانون على الجميع بعدالة ومن دون استثناء، وبناء مؤسسات قضائية مستقلة وفعالة، وتشجيع الحوار البناء بين شتى أطراف المجتمع، وتقبل الرأي الآخر، والعمل على بناء جسور التفاهم والتعاون.

وطبعا فان من شروط تحقيق السلم الاجتماعي تشجيع السكان على المشاركة في الحياة السياسية، وتوفير قنوات للتعبير عن آرائهم ومطالبهم وسن دساتير عصرية شاملة وتأسيس مجتمع مدني قوي يسهم في مراقبة أداء الحكومة، وحماية حقوق الناس.

ومن هنا يأتي دور النشاطات المجتمعية المتنوعة التي تكرس السلم الاهلي وتغذيه وتحافظ عليه من الانزلاق في متاهات هي بالضد من نزوع الناس الحقيقي ومن ذلك توفير تعليم جيد للجميع، وغرس القيم النبيلة والمواطنة الصالحة، وتوعية الأفراد بحقوقهم وواجباتهم.

ويرتبط بذلك توفير إعلام موضوعي ومهني يسهم في نشر ثقافة السلام والتسامح، وان تسعى المؤسسات الدينية بدورها الى نشر قيم التسامح والتعاون والسلام وهي المشتركات الاساسية لبني البشر بغض النظر عن تنوعهم؛ وهنا يأتي دور الاعلام المسؤول الذي يضع مصلحة الناس فوق الاعتبارات الفردية وحتى المهنية اذ تعارضت مع هدف تحقيق السلم المجتمعي.

وفي العراق الذي يمر بمرحلة حساسة من مسيرته نحو تحقيق السلم الاجتماعي والاستقرار لمسنا ان هناك عديد العوامل التي اعاقت وتعوق هذا المسار، ما نتج عنها الكوارث المعروفة التي مر ويمر بها البلد طوال الحقبة الماضية والعقود الاخيرة.

ومن العوامل الرئيسة التي اعاقت تحقيق مفهوم السلم الاهلي في العراق وتسببت بكوارث هائلة للسكان هو الاستقطاب السياسي لاسيما الطائفي والمذهبي أدى هذا الاستقطاب إلى تعميق الهوة بين المكونات العراقية، وجعل الحوار والتوافق أمرا صعبا.

وهنا فان الفساد المستشري الذي نتج بالضرورة عن ذلك أضعف الثقة بالحكومات والمؤسسات، وأدى إلى توزيع غير عادل للموارد، مما زاد من الاحتقان الاجتماعي.

وكان لتدخل بعض القوى الخارجية لتحقيق مصالحها الخاصة سببا في تأجيج الصراعات في العراق، مما عقد عملية بناء الدولة، وأدى غياب الإصلاح السياسي إلى استمرار الأوضاع الخاطئة المستمرة حتى الآن، المتمثلة بعدم قدرة الدولة على تلبية احتياجات السكان وبالنتيجة تمهيد الساحة لغياب السلم الاهلي، وهنا اسهمت البطالة والفقر في زيادة الشعور باليأس والإحباط، وهذا يشجع على الانخراط في أعمال عنيفة.

أدى التفاوت الطبقي إلى زيادة التوترات الاجتماعية، وشعور الفئات الفقيرة بالظلم والتهميش، كما ان التهجير القسري أدى إلى تدمير النسيج الاجتماعي، وجعل إعادة الإعمار والتأهيل أمرا صعبا، وان غياب الخدمات الأساسية، ادى إلى تدهور مستوى المعيشة، وزاد من حدة الاحتجاجات والتظاهرات.

يضاف الى ذلك ان تواجد التنظيمات الإرهابية والمجاميع المسلحة خارج سيطرة الدولة يشكل تهديدا مستمرا للسلم والاستقرار، ويؤدي إلى زعزعة الثقة في الدولة، وارتباطا بذلك ادى العنف الطائفي الى زيادة حدة الصراع وسقوط ضحايا أبرياء، وان انتشار السلاح يسهل ارتكاب أعمال العنف والجريمة، ويصعب ضبط الأمن.

وفضلا عن ذلك فان عوامل ثقافية تسببت في حالة عدم الاستقرار في العراق واساءت الى السلم الاهلي ومنها النظرة الدونية للمرأة التي تحرم النساء من حقوقهن، وتحد من مشاركتهن في الحياة العامة، وارتكبت في هذا الإطار اعمال التعنيف وحتى القتل للنساء بذريعة غسل العار التي يتهاون القانون في تطبيق عقوباتها، اذ كثيرا ما يجري التهرب من قبل السلطة التشريعية من سن القوانين التي تجرم التعنيف الاسري واعمال القتل غير المسوغة ضد النساء.

ويمكن القول ان هناك عوامل ساعدت في هذا الانحدار المجتمعي منها غياب ثقافة الحوار والتسامح والتطرف الفكري والاجتماعي الذي يشكل تهديدا للسلم الاجتماعي، ويؤدي إلى تسويغ أعمال العنف.

وطبعا فان الحلول لمعالجة مشكلات المجتمع وتحقيق السلم الاجتماعي معروفة ولطالما جرى التطرق اليها من قبل السياسيين، ولكن يجري التهرب منها حين يتعلق الامر بالتنفيذ وسن القوانين المتعلقة بها ومن ذلك بناء دولة المؤسسات بترسيخ مبدأ سيادة القانون، ومحاربة الفساد، وبناء وتقوية الأجهزة الأمنية على اسس سليمة ومهنية.

وكثيرا ما يجري التهرب من اقامة الحوار الوطني الشامل لمعالجة الخلافات السياسية والقومية والمذهبية، وبناء توافق وطني، فيجري بدلا من ذلك لاسيما في اجهزة الاعلام غير المهنية اثارة النعرات وتعميق الخلافات.

وارتباطا بذلك غابت السياسة الفاعلة لتوفير فرص العمل بتشغيل المصانع وتفعيل الزراعة و دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الاستثمار، كما ظلت مؤسسات الدولة متلكئة ومقصرة في تحسين الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان، لتحسين مستوى معيشة السكان؛ وعلى صعيد مكافحة التطرف والإرهاب ودعم الاعتدال، وتجفيف منابع التمويل وحصر السلاح بيد الدولة الذي يجري الحديث عنه كثيرا لاسيما في هذه المدة، فلم تنفذ اجراءات عملية بذلك، وذلك يصح ايضا عن غياب دور النساء وتغييب حقوقهن وتمكينهن من المشاركة في الحياة العامة، فجرى السعي عوضا عن ذلك الى محاولة سن قوانين متخلفة فيما يتعلق بقضايا المرأة مثل الزواج والطلاق والميراث، ولولا ضغوط بعض منظمات المجتمع المدني لانحدرت الامور الى اسوأ من ذلك؛ وهنا يجمع الباحثون على ان بناء مجتمع مدني قوي لدعم الحوار والتسامح، ومراقبة أداء الحكومة يشكل الضمانة لعدم الانهيار الشامل في بنية المجتمع، وبناء سلم اجتماعي حقيقي.