قدرت المبالغ المراد اطفاؤها بحسب ما ورد في الموازنة العراقية الجديدة بالمادة 16 بـ 100 مليار دولار؛ ومن المعلوم ضخامة المبلغ المذكور في بلد بأمس الحاجة إليه، وبخاصة في المدة التي أعقبت إسقاط النظام المباد منذ عام 2003 في ظل مزاعم البناء والإعمار التي دأب المسؤولون على التحدث كثيرا عنها؛ فكانت نتائج أفعالهم مزيدا من الخراب ومزيدا من المشاريع الفاشلة والمتلكئة، أما الأموال التي استحصلت من واردات النفط فتسربت من دون أن يعلم بوجهتها أحد في ظل الفوضى السياسية والأمنية التي سادت طيلة عقدين من الزمن.
كيف صرفت السلف ولمن؟ وكثير من الاسئلة الأخرى ترتبط بذلك .. هذه هي التساؤلات التي يجب أن تطرح.
أن مبلغ السلف الذي كشف عنه، الذي استقطعه المسؤولون من الخزينة العامة بذريعة الإعمار والبناء، الذي ضاع هباء مثلما فقدت مئات مليارات الدولارات الأخرى بطرق ثانية، جرى تمريرها على الشعب، الذي خدعوه بتصعيد الخطاب والشحن الطائفي لغرض إدامة بقائهم في السلطة؛ نقول ان ذلك المبلغ يجب الا يجري التغاضي عنه. والغريب ان المسؤولين كانوا يفسرون التقصير في تأدية مهامهم بقلة التخصيصات .. فأين ذهبت الأموال المستلفة؟
أن ارقام تلك الأموال المنهوبة التي اعترفوا اخيرا بجزء يسير منها، يعني الكثير فيما يتعلق باستعمالها لبناء المدارس التي ظلت كثيرا منها طينية أو "كرفانية" تعرضت للاحتراق، وايضا لتوفير أدوية فعالة لعلاج الأمراض لاسيما المزمنة والمستعصية منها، والعمل على توفير العيش الرغيد وإطالة معدل عمر الانسان العراقي الذي انخفض كثيرا طيلة سنوات الحروب و "الحصار"؛ وذلك الامر هو ما تسعى إليه الدول، وليس مثلما يحصل عندنا بوساطة انتشار الأدوية منتهية الصلاحية، والعلاجات غير المتوفرة والحالة الرثة لمعظم المستشفيات.
كان يمكن لتلك الاموال التي نهبت وضاعت أن تعيد الكهرباء بصورة كاملة، وان تشغل المصانع المعطلة وتعيد احياء الطاقات البشرية والاقتصاد، وغيرها من الاحتياجات الضرورية للسكان.
وإذا كان ثمة سلف منحت بمثل تلك الاموال الهائلة، فمن الأولى أن يجري كشف الذين قبضوها بأسمائهم الصريحة؛ يتعلق هذا طبعا بالمؤسسات والافراد الذين استغلوا تواجدهم في مؤسسات الحكومة للاستئثار بتلك الأموال ونهبها.
كيف تمر مثل هذه الارقام التي سرقت من أموال الناس من دون وصولات تسلم، ومن غير أن تمر على الأجهزة الرقابية التي كثيرا ما روج لحكمتها ومهنيتها.
والمفارقة أن وزارة المالية ذكرت في توضيح بشأن اطفاء السلف بعد تداول موضوعها لدى الرأي العام، أنها بصدد اشعار دائرة المحاسبة لغرض التدقيق والمطابقة مع الحسابات الختامية لكل سنة وتأييد ديوان الرقابة المالية الاتحادي عليها واشعار دائرة الموازنة بشأن وضع التخصيصات المالية لها؛ وفي الحقيقة فإن تلك برأينا، ليست سوى نكتة سمجة، اذ ان الوقائع تشير إلى أن الجهات المعنية كانت قد اهملت قضية الحسابات الختامية، كما أن مجلس النواب كان قد صوّت على بعض الحسابات الختامية للموازنات المالية في بعض السنوات، إلا أن هذه الحسابات جرى التصويت عليها في داخل البرلمان في مدة لا تزيد عن نصف ساعة من دون أي دراسة، فضلا عن سنوات أخرى لم تقدم فيها حسابات ختامية، بحسب الوقائع والمراقبين والمتخصصين.
ثم كيف لنا ان نعوض السلف المفقودة بتخصيصات مالية أخرى لبدلها.. الا يعد ذلك تشجيعا على مواصلة النهب؟
وبالنتيجة يعتقد معظم الناس ان الموضوع يجري لفلفته عاجلا ام آجلا ويضيع موضوع تلك السلف مثلما ضاعت اخبار غيرها من الأموال الكبيرة.
اما القانونيين فان لهم رأي آخر، اذ يلفت كثير منهم الى ان إطفاء جميع الديون والسلف والتبادل المالي لمؤسسات الدولة يشكل خللا قانونيا صارخا، بحسب تعبيرهم.
من جهتها قالت هيئة النزاهة انها ستفتح تحقيقا بشأن كيفية صرف كل سلفة يجري اطفاؤها بغية التعرف على المسؤولين عن عملية الصرف واحالتهم امام القضاء ومعاقبتهم على وفق القانون، وفي هذا يشكك الرأي العام، اذ ان تحقيقات سابقة اهملت كثيرا من الملفات المالية لاسيما فيما يتعلق بمسؤولين "كبار" في الحكومات السابقة، بفعل "التحاصص" السياسي وحكومات الشراكة، اما النتيجة فتكمن في خسران الاموال التي نهبت من دون وجه حق، واخذت كسلف وقروض الى جهات من دون ان ينعكس ذلك في مجال تحسين وضع الناس.
وهنا يحق لنا التساؤل ما الذي يضمن عدم إضاعة ونهب أموال أخرى متجددة في المدة المقبلة بعد ان ينتهي موضوع إطفاء السلف مع نهاية السنة الحالية 2023 وهو الموعد الذي حددته الموازنة لإطفائها؟
ان الدول لا تهمل ملفات سابقة جرى فيها تسريب الأموال او اخذ الرشى وغيرها من ضروب الفساد؛ لأن التهاون في الامر يدخل بلدانهم في طريق من الفوضى والفساد الممنهج، وذلك ما لا ترتضيه الحكومات التي تحترم نفسها وتبحث عن استقرار سكانها.
وتلك قضية الرئيس الفرنسي في المدة من 16 ايار 2007 حتى 15 ايار 2012 نيكولا ساركوزي، لم تزل تتفاعل، اذ حكمت محكمة استئناف في باريس على ساركوزي بالسجن 3 سنوات بعد إدانته بالفساد واستغلال النفوذ، كما تجري إعادة محاكمته في محكمة الاستئناف في قضية تمويل غير قانوني لحملته الرئاسية في العام 2012. وهو مهدد بمحاكمة ثالثة في محكمة الجنايات في قضية الاشتباه بتمويل من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي لحملته الرئاسية للعام 2007؛ وصدر حكمان مماثلان على محامي ساركوزي، وعلى كبير القضاة السابق اللذين ادينا بعقد "صفقة فساد" مع ساركوزي في عام 2014 وحُكم عليهما بالعقوبة نفسها، كما وأصدرت محكمة الاستئناف أيضا حكمين بحرمان ساركوزي 3 سنوات من حقوقه المدنية مما يجعله غير مؤهل لأي انتخابات، ومنع محاميه من ممارسة عمله 3 سنوات.
كما سبق ان حكم في عام 2011 على سلفه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك بالسجن لمدة عامين مع وقف التنفيذ في قضية عمل وهمية في مدينة باريس.
وبالعودة الى العراق، فان الاعفاء في قضية هدر الأموال التي تعد في قوانين الدول جنايات وجرائم كبرى، يعد مثلبة كبيرة، كما ان سرقة أموال البلد يجب الا تلغى بالتقادم، اذ انها أموال الناس، وكان يتوجب ان تصرف لتطوير أوضاعهم وادامة حياتهم المعيشية بصورة لائقة؛ وان التغاضي عن تلك الجنايات والصفح عن مرتكبيها يعد جريمة أخرى تستوجب تدخل القضاء؛ ومن اجل تحقيق العدالة يجب متابعة الأموال المنهوبة والمسربة والعمل جهد الإمكان على استردادها، وليس الصفح عن مرتكبيها ومنحهم مسوغات الاستمرار في غيهم ونهبهم.