حين اتفقت الكتل السياسية على توليّ محمد شياع السوداني رئاسة الحكومة الحالية استبشرنا خيراً بالرجل لأسباب عدة لكن أبرزها أنه ولد من رحم المعاناة والعوز وحقبة البؤس البعثي في تسعينيات القرن الماضي وما يسمى جزافاً الحصار الاقتصادي الذي من المفترض أنه عقوبة للنظام الحاكم في حينها، لكنه في حقيقته كان عقوبة جماعية للأمة العراقية بمباركة الأمم المتحدة والعالم المتحضر، وأيضاً لأن السوداني مشهود له بالنزاهة ولم تتلوث يداه بالفساد المالي والإداري، وهذان السببان كافيان للتفاؤل بالرجل، لكن للأسف يبدو أن حكام العراق يستنسخون بعضهم البعض وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالكرسي المقدس.
يبدو أيضاً أن رئيس الوزراء ورغم أنه من عوائل ضحايا النظام السابق الذي أعدم والده شياع صبار السوداني، لكنه مع هذا لا يتورع عن استنساخ جانباً من السياسات البعثية الفجة عندما يتعلق الأمر بحرية الرأي والتعبير، كما أنه "يجتّر" التجربة الفاشلة التي قام بها سلفه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي حين حجب موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" ظناً منه أنه بذلك يستطيع تكميم الأفواه التي كانت تجلده ليل نهار بسبب سياساته الطائشة، لكن وبعد ساعات قليلة وجد العراقيون طريقة للوصول إلى "فيسبوك" عبر برامج الوصول إلى المواقع المحجوبة وعاد الجلاد الأرزق ليهوي بسياط المنشورات على المالكي وفريقه الذي لا يرى أبعد مما بين قدميه.
السوداني وبعلم منه أو غير علم قام هو الآخر بحجب تطبيق التواصل الاجتماعي "تلغرام" في محاولة منه ومن فريقه الذي على ما يبدو لا يختلف كثيراً عن فريق سلفه، ظناً منه أنه يستطيع تكميم الأفواه متناسياً هو وفريقه برامج الوصول إلى المواقع المحجوبة.
السوداني ومن قبله المالكي وغيرهما ابتداءً من الحقبة العارفية الهوجاء، مروراً بالمرحلة السوداء الحمراء للنظام البعثي الهمجي الدموي، وصولاً إلى حكومات ما بعد 2003 من حكومة علاوي وحتى الحكومة الحالية، يبدو أنهم يتناسلون فكرياً بطريقة الأميبيا ولا يستوعبون أن ثورة الاتصالات الحديثة كما أنها وفرت سياطاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجلد الحكام، وفرت أيضاً برامج ووسائل تساعد الشعوب في الوصول إلى المواقع المحجوبة تعسفاً، والتنفيس عن غضبها والتعبير عن آرائها.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وحين كان العراقيون يسمعون سماعاً فقط بشيء اسمه الأنترنت، سمح النظام القمعي السابق بتوفير هذه الخدمة لكن بشكل محدود جداً وتحت الرقابة الأمنية وفي مقاهي أنترنت محددة ولم يتم أبداً السماح بالخدمة المنزلية، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي وكانت في حينها فقط "ماسنجر ياهو" محجوب ولا يمكن الوصول إليه وكل من يحاول ذلك يتم اعتقاله من قبل الأمن الصدامي والله أعلم إن كان سيعيش أم لا.
بعد سقوط ذلك النظام البغيض، أخذ الأنترنت ينتشر في العراق بشكل واسع وسريع أيضاً عبر مقاهي الأنترنت لكنها لم تكن محدودة ولا تخضع لأي نوع من الرقابة، ثم توفرت الخدمة المنزلية وبات بمقدور أي عراقي وعراقية من كل جنس ودين وقومية وعمر الاطلاع على العالم والتواصل مع الأهل والمعارف والأصدقاء وشعوب العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعد تناسل مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح خمسة منها هي الأكثر انتشاراً في العراق والأشد تأثيراً في الرأي العام، بدأت الحكومات المتعاقبة بـ"اجترار" سياسة البعث البغيضة لتكميم الأفواه والتضييق على أصحاب الرأي في محاولة لكبحهم حيناً ولتدجينهم أحياناً أخرى، ومنها حكومة محمد شياع السوداني التي أقدمت على حجب "تلغرام" بحجة وعذر مضحك وسخيف وهو "الأمن الوطني" وكأن باقي وسائل التواصل الاجتماعي محصنة من أن تتحول إلى أداة تهدد هذا الأمن الذي يرتعش رعباً من "تلغرام"، وعلى الرغم من أن تطبيق "واتساب" الأوسع انتشاراً يشكل فعلياً تهديداً أمنياً لكونه مخترق من قبل مخابرات دولية حتى أن الأمم المتحدة لا تستخدمه ولا تعتمده في اتصالاتها، لكن الحنكة الأمنية لحكومة السوداني ترى أن الخطر يتمثل بـ"تلغرام" دون غيره ولكي تحافظ على الأمن المستتب تماماً وجداً، قامت بخطوة الحجب لتحفظ أمن الوطن والمواطن.
رغم أن السوداني وخلال أول خمسة أشهر من عمر حكومته كانت تحركاته وقراراته مقبولة وتحظى بتأييد شعبي ومن ذوي الاختصاص أيضاً، لكن يبدو أن الرجل تماهى جداً مع عنفوان الكرسي وبدأ يذوب عشقاً به وها هو يخطو أولى خطواته على طريق من سبقوه من الحكام الذي لم يتركوا خلفهم سوى لعنات الفقراء ومختلف فئات الشعب.