لا يعلم الكثير ممن ولدوا بعد الإطاحة بالنظام البعثي السابق أن التبرعات "الإجبارية" هي إحدى وسائل ذلك النظام في امتصاص دم العراقيين من أجل إثراء خزائن الطغمة الحاكمة في حينها تحت مسميات شتى باسم الدولة رغم أننا جميعاً كنّا على يقين تام لا شك فيه أن الأموال كانت تذهب إلى جيوب أزلام النظام السابق، وتحديداً العائلة الحاكمة.

وتحت مسمى "التبرع لقادسية صدام" هذه الحرب الطاحنة التي حولت العراق وإيران إلى مقبرة لمئات الآلاف من العراقيين والإيرانيين وخلفت ملايين المعاقين جسدياً ونفسياً ثم انتهت إلى ما قامت عليه وهي معاهدة الجزائر أو معاهدة 1975، وخرج منها العراق مثقلاً بديون كارثية تجاوزت 120 مليار دولار في ذلك الزمن بعد أن كان اقتصاداً مترفاً إن جاز التعبير.

في السنوات الأولى لهذه الحرب التي أحرقت خزينة الدولة، لجأ النظام السابق إلى حيلة قذرة تمثلت بما يسمى "التبرعات"، وهبّ البعثيون والطائفيون و"الحمقى" إلى التبرع بما فاض عن الحاجة لديهم لتمويل طاحونة الموت والدمار، ومع استمرار رحى الطحن الدموي، أصبحت التبرعات التي من المفترض أنها طوعية إجبارية ولم ينجو منها سوى العوائل المعدمة ومحدودة الدخل في ثمانينيات القرن الماضي التي يعتبرها أيتام البعث وبعض المغرر بهم "زمن الخير" بل هو زمن الشر والفقر والعوز والموت.

وما أن انتهت الحرب العبثية البعثية مع إيران حتى دخل العراق في أتون غزو الكويت والحصار الاقتصادي الذي أنتج أجيالاً عراقية هجينة حصدنا دمارها بعد سقوط النظام في العام 2003، وبلداً متخلفاً في كل شيء، ومنقطعاً عن العالم.

وفي هذه الحقبة السوداء المجدبة والتي كان الإنسان العراقي يحارب فيها الجوع والعوز وما دون الفقر، ابتدع النظام المقبور طرقاً لامتصاص دماء العراقيين الجافة في شرايينهم من شدة الجوع، فكان بين فترة وأخرى يبتدع بدعاً شيطانية لسلب العراقيين قوتهم، مرة تحت ذريعة إعادة إعمار ملوية سامراء، ومرة إعمار ضريح الإمام الكاظم، وغيرهما الكثير في وقت كان المواطن العراقي يحفر الصخر من أجل الحصول على لقمة يسد بها رمقه ولا يجدها.

وبعد العام 2003 والخلاص من ذلك النظام الهمجي الإرهابي ظننا أننا تخلصنا من هذه الحماقات والفعاليات الاستعراضية لكن يبدو أن بعض العقليات تتناسل كما الأميبيا، فالاستعراض التافه لرئيس النظام السابق (انطونه وصل أرض يم إسرائيل واحنا انتكاون وياهم -امنحونا مساحة أرض قريبة من إسرائيل ونحن نحاربهم-) ما زال قائماً لكنه اتخذت شكلاً آخراً، والتبرعات التي كان يمنحها لـ"الانتحاريين" الفلسطينيين (25 ألف دولار لكل انتحاري) لم تتغير لكنها اتخذت مسمى بديلاً.

العراقيون يكرهون الحاكم هذه حقيقة لابد من الإقرار بها، ولا يتفقون على حكومة إلا إذا كانت صادقة وخادمة لهم هذا واقع فعلي لا جدال فيه، وبشكل عام يكرهون أي حكومة مقدماً حتى تقدم لنفسها صورة مغايرة ملموسة واقعياً تتقرب بها إلى نفس الإنسان العراقي حينها تتغير المشاعر، وكادت هذه المعادلة أن تتغير بعد سقوط النظام السابق، ولكن للأسف الشديد فساد الحكومات المتعاقبة وتكالبها على المال والاقتتال في ما بين أقطابها نسف هذه المحاولة ورسخ الكره تجاه الحكومات، ثم جاءت حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لتفاقم من هذا الكره بالبدعة التي ابتدعها هو ومن حوله من شلة المستشارين حيث قام باستقطاعات "إجبارية" من رواتب الموظفين والمتقاعدين بنسبة 10% من الراتب تحت ذريعة "التقشف" وتمويل الحرب ضد تنظيم داعش.

ما أثار استياء العراقيين في حينها -إلى جانب كرههم للحكومات- هو أن الدولة لم تكن أساساً بحاجة إلى المال لتستقطعه من رواتب الموظفين والمتقاعدين، وبالإضافة إلى ذلك لم نكن نعلم إلى أين تذهب هذه الاستقطاعات هل إلى خزينة الدولة فعلاً أم إلى جيوب الأحزاب والكتل الحاكمة؟.

أما بخصوص هبوط أسعار النفط "افتراضياً" فهي لم تؤثر على إيرادات العراق النفطية كما كانت تدعي الحكومة كذباً وزوراً في حينها، بل أن الهبوط كان مقتصراً على عقود نفطية لنوع من النفوط لا ينتجه العراق أصلاً وهو هبوط اقتصر على العقود الآجلة والعاجلة لخاميّ "برنت" و"تكساس" أما النفط العراقي فلم يتأثر ولا حتى أسعار النفط العالمي.

ثم انتهت حكومة العبادي "التقشفية" وظننا أننا تخلصنا من الفعاليات البعثية لكن تبين أننا واهمون، فها هي حكومة "احنا بخدمتكم" برئاسة محمد شياع السوداني تبتدع بدعة جديدة لامتصاص دماء العراقيين تحت غطاء دعم غزة ولبنان.

العراقيون وبشكل طوعي عفوي تبرعوا بما يستطيعون والبعض منهم تبرعوا بأكثر من استطاعتهم طوال عام للفلسطينيين ومنذ نحو شهرين للبنانيين من دون أن تطلب منهم الحكومة ذلك، وقوافل تبرعاتهم فاقت تبرعات جميع البلدان والشعوب مجتمعة، وما زالوا مستمرين بذلك ومن دون أن يمنّوا على أحد، لكن ما أن ابتدعت حكومة السوداني قرار الاستقطاع الطوعي حتى نسفت كل شيء.

السوداني وحكومته أحرق كل تبرعات العراقيين، فالامتعاض حقيقي وشعبي وصادق لسبب بسيط، نحن نكره الحكومات ونكرهها بشكل أشد عندما تفرض علينا قراراً، هذه هي الحقيقة، ويتضاعف الكره عندما نعلم تماماً أن هذه الاستقطاعات لن تذهب إلى غزة ولبنان بل إلى جيوب المنتفعين الانتهازيين.

بعد قرار الاستقطاع هذا تغيرت صورة الكرم العراقي لدى العالم، فتناسى حجم التبرعات الضخم الذي شهد له أهل غزة ولبنان وأشادوا به، وأصبحنا الآن رافضين لمساعدة الشعبين الفلسطيني واللبناني، هذه هي الصورة التي يراها العالم الآن عن العراقيين بسبب قرار لا أعرف بأي توصيفه أصفه.