شفق نيوز/ برغم أن اليوم تحل ذكرى 45 سنة على رحيل الزعيم التاريخي للكورد الملا مصطفى بارزاني، الا أن إرثه لا يزال حاضرا بقوة في ذاكرة الكورد وحياتهم، خصوصا أن جزءا اساسيا من نضال "أبو القضية الكوردية" طوال عقود قاسية، أثمر عن ولادة إقليم كوردستان.
ولم تكن دروب الملا مصطفى بارزاني سهلة، لا في السياسة والدبلوماسية، ولا في العسكر والميدان، ولا على طرقات السلام والمفاوضات والتسويات، وهو برغم رحيله في الأول من مارس/آذار العام 1979 بينما كان يخضع للعلاج في احد المستشفيات الامريكية وابنه زعيم الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني الى جواره، لا تزال بصماته واضحة في معالم الحكم والإدارة شؤون الامن في الاقليم حتى يومنا هذا.
وفي ذاكرة الكورد فإن الملا مصطفى هو الأب الروحي للحركة الكوردية الحديثة، وهو الذي أسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وحتى أن حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي أصبح منافسا على الساحة الكوردية، خرج في العام 1975 من رحم صفوف الحزب الديمقراطي.
ولهذا، يعتبر الكثير من الكورد ان في شخصية الملا مصطفى ومسيرته ما يجمع ويوحد، بل انه بالنسبة لكثيرين، الملهم الحقيقي منذ القرن الـ20، لمسيرة الكورد وكفاحهم، وهي مسيرة عكسها الملا مصطفى رمزيا وفعليا في مسيرته على الأقدام طوال 50 يوما، بعدما أجهضت تجربة جمهورية مهاباد التي تسلم أمانة قيادتها العسكرية في العام 1945، متجها نحو أراضي الاتحاد السوفياتي، إيذاناً لا بهزيمة، وإنما بانطلاق حقبة جديدة من النضال، وهي مرحلة كانت مجلة التاريخ التابعة لهيئة الإذاعة البريطاني "بي بي سي" وصفتها في العام 2021، بالقول ان الكورد هم اكبر شعب لم يصل قط إلى دولة، الى انه بعد الحرب العالمية الثانية بدأ "يتشكل أول جنين لحركة قومية كوردية متماسكة" على الرغم من أن وجودهم كقومية قبل ذلك بمئات السنين.
ومعلوم أن الملا مصطفى ظل في الاتحاد السوفياتي الى أن أطاحت ثورة بالنظام الملكي العراقي الذي اقامته بريطانيا في يوليو/تموز 1958، فعاد عندها من المنفى لقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي ضم إليه مجموعة متباينة من المثقفين والمناضلين والقوميين واليساريين وزعماء القبائل المحافظين.
وكانت الباحثة الروسية آنا بورشيفسكايا نشرت دراسة في العام 2023، تحت عنوان "روسيا والكورد: أداة قوة ناعمة للكرملين"، قالت فيها إنه رغم السقوط السريع لهذه الجمهورية، إلا أن الشخصيات القومية الكوردية ظلت مأسورة بفكرة دولتهم الخاصة، بما في ذلك الملا مصطفى الذي أسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العام 1946، وأنه بعد سقوط الجمهورية، فان بارزاني ورفاقه لجأوا الى الاتحاد السوفياتي، وبقي الزعيم بارزاني اكثر من عقد هناك، قبل عودته الى العراق حيث قاد ثورة ضد الحكومة المركزية.
وعمل الملا مصطفى على الأمل الذي ظهر بعد سقوط النظام الملكي في بغداد، خصوصا من خلال المفاوضات مع عبدالكريم قاسم، لكنها انهارت لاحقا بعدما كان يبحث معه ضمان الحقوق الكوردية في دستور ما بعد الملكية، بما في ذلك جعل كركوك "عاصمة" لكوردستان المتمتعة بحكم ذاتي، وانتقل الصراع إلى الميدان العسكري بين الطرفين.
ولم تكن الخيارات امام الملا مصطفى احسن حالا حتى مع سقوط نظام عبدالكريم قاسم في العام 1963، حيث ان الانظمة التي تتالت على بغداد بعدها، تعاملت بنفس الخصومة مع الكورد برغم خيوط التفاوض التي ظل الملا مصطفى يحاول العمل من خلالها. وتواصل هذا الحال الى ان تمكن الزعيم التاريخي للكورد من إبرام تسوية مع نظام البعثيين الذين استولوا على السلطة في بغداد العام 1968، حيث جرى التوصل إلى صفقة مع الرجل الثاني في النظام وقتها صدام حسين، في آذار/مارس العام 1970، والتي عرفت باسم اتفاقية الحكم الذاتي للكورد، والتي تشمل 3 محافظات كوردية، الاعتراف بتعليم اللغة الكوردية وتشكيل هيئة تشريعية ذاتية، إلا أن اتفاق شاه إيران وقتها مع الحكم في بغداد حول اعادة ترسيم شط العرب بتقديم تنازلات عراقية، وتعهد الشاه بسحب دعمه للكورد، في إطار ما عرف باسم "اتفاقية الجزائر"، فتح باب الحرب مجددا على الكورد، حيث تحركت قوات عسكرية عراقية كبيرة لمهاجمة قرى الكورد ومناطقهم ما أجبر أكثر من 200 ألف منهم على النزوح باتجاه الأراضي الإيرانية. وفي الوقت نفسه، كانت واشنطن تحاول ألا تثير استياء حليفها الشاه، فتجاهلت اتفاقه مع بغداد، ولم تتحرك لمنع الاعتداءات الكبيرة التي استهدفت الكورد.
وبعد اتفاقية الجزائر هذه العام 1975، غادر الملا مصطفى من العراق الى ايران ثم الى الولايات المتحدة حيث خضع للعلاج في مستشفى جورج واشنطن، قبل أن توافيه المنية في الاول من اذار العام 1979.