شفق نيوز/ نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرًا أعدَّه مايكل هيرش، كبير مراسلي المجلة الأمريكية، يُسلَّط فيه الضوء على نوعٍ جديدٍ من الحرب الباردة يختمر على الساحة العالمية، ويتسم بعلاقاتٍ متعددة الأبعاد.
في مطلع تقريره، يتذكر الكاتب خطاب ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي ألقاه عام 1946 في كلية وستمنستر بولاية ميسوري، عندما حدد معالم الحرب الباردة الأولى ومخاطرها، موضحًا أن تشرشل لم يتحدث عن أوروبا فحسب، ونتذكر مقولته حين قال: «لقد هبط ستار حديدي على القارة الأوروبية يمتد من ستيتين على بحر البلطيق إلى تريستي على البحر الأدرياتيكي»، وحذَّر تشرشل في خطابه هذا من «الشبح القادم» للأنظمة السلطوية «في الغرب والشرق على حدٍّ سواء».
وبعبارةٍ أخرى، كانت الحرب الباردة الوليدة تكتسب طابعًا عالميًّا، حتى وهي في طور البداية، وربما تكون تلك الحرب الباردة قد انتهت قبل ثلاثة عقود، ولكن هناك نوعًا آخرَ مختلفًا تمامًا من الحرب الباردة يبدأ الآن، وهو نوع على وشك أن يصبح عالميًّا أيضًا، واجتمع قادة الناتو هذا الأسبوع مع التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بينما يستعدون لمواجهة الصين وروسيا، ويبدو أن ملامح الحرب الباردة الجديدة، التي ستستمر لأجيالٍ قادمةٍ، يجري التخطيط لها في قمة الناتو المنعقدة في العاصمة الإسبانية مدريد، حيث يحضر قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا.
نوع جديد من الحرب الباردة
يُوضِّح الكاتب أنه على النقيض من مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، التي استمرت 40 عامًا، والتي كانت بين قوتين عظميين معزولتين تمامًا عن بعضهما بعضًا في مجالات منفصلة، تتسم الحرب الباردة الجديدة بعلاقةٍ متعددة الأبعاد، يتعامل فيها الصين والغرب مع بعضهم بعضًا تجاريًّا واستثماريًّا على الرغم من تنافسهما، ويمكن فيها لروسيا، شريكة الصين في السلطوية ومعاداة أمريكا، الاستمرار على الرغم من العقوبات القاسية المفروضة عليها من خلال إمداد الجانب الآخر بالنفط والغاز والحبوب.
موسكفا أسطول البحر الأسود
وردًّا على تساؤل مفاده: ما سبب هذه الحرب؟ يجيب الكاتب: أولًا، شهدت واشنطن تحولًا في سياستها الحزبية القائمة منذ أمدٍ بعيدٍ، والمتمثلة في المشاركة الحثيثة مع الصين – من خلال السعي إلى تحويل بكين إلى «طرف مؤثر» في النظام العالمي، كما قال روبرت زوليك، نائب وزير خارجية الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش- إلى سياسة حزبية قائمة على المواجهة التي لا هوادة فيها، وبسبب تأثير صدمة الغزو الروسي لأوكرانيا، يبدو أن واشنطن تسعى للزج بأوروبا، التي كانت مترددةً في السابق، في تلك المواجهة معها.
ونشأ المفهوم الإستراتيجي الجديد لواشنطن من بيانٍ صدر قبل عامٍ مضى وجاء بعد قمة الناتو الأخيرة، محذرًا من أن «طموحات الصين المعلنة وسلوكها يمثلان تحديات شاملة لقواعد النظام الدولي والمجالات ذات الصلة بأمن الحلف».
وفي ذلك الوقت، كان قادة أوروبا لا يزالون يقاومون مناشدات أمريكا للتصدي لتحديات بكين الإستراتيجية، وأمضت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، كثيرًا من سنوات حكمها الممتدة لـ16 عامًا، في العمل على تعزيز العلاقات مع الصين، وأحدث الغزو الروسي لأوكرانيا، بموافقة الصين، تغييرًا جذريًّا في هذا النهج.
وأعلن أولاف شولتز، المستشار الألماني، ومعه الرئيس الأمريكي جو بايدن، وعدد آخر من قادة مجموعة السبع، عن مبادرة لتمويل بنيةٍ تحتيةٍ عالميةٍ جديدةٍ بقيمة 600 مليار دولار لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وأعلن الناتو، هذا الأسبوع، عن «مفهوم إستراتيجي جديد» يمتد لعشر سنوات يرمي إلى التصدي للتهديدات الصينية.
العمل على إضعاف روسيا
يلفت التقرير إلى أن التحول بدأ يتسارع خلال الأشهر القليلة الماضية، عندما وسَّع بايدن وحلفاؤه في الناتو سياستهم في المساعدة للدفاع عن أوكرانيا ضد العدوان الروسي إلى سياسة تهدف إلى تقويض قوة روسيا نفسها، أو كما أعلنها لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، «حتى نرى روسيا وقد ضعُفَت»، وصعَّدت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، من خطورة التحديات عندما أعلنت أن «الناتو يجب أن يكون لديه رؤية مستقبلية عالمية، وعلى استعداد لمواجهة التهديدات في المحيطين الهندي والهادئ، بما يضمن أن تتمكن دولة ديمقراطية مثل تايوان من حماية نفسها».
ومن جانبه، حرص جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، في تصريحاته التي أدلى بها الأسبوع الماضي عشية رحلة بايدن إلى أوروبا، على التأكيد على أن «الأمر لا يتعلق بإنشاء نسخة مماثلة لحلف الناتو في المحيط الهادئ»؛ لكنه أوضح أن المفهوم الإستراتيجي الجديد «يستند إلى شهور من المناقشات والمحادثات مع الحلفاء بشأن التهديد الذي تشكله الصين على الأمن الدولي بما يتجاوز منطقة المحيطين الهندي والهادئ فحسب».
وأضاف كيربي: «أعتقد أنه انعكاس لمخاوف حلفائنا المماثلة بشأن تأثير الممارسات الاقتصادية الصينية، واستخدام العمالة القسرية وسرقة الملكية الفكرية والسلوكيات القسرية والعدوانية، ليس فقط في المنطقة؛ ولكن في أي مكان آخر حول العالم». أو كما قال ينس ستولتنبرج، الأمين العام لحلف الناتو، إننا: «لأول مرة سنتطرق في الإستراتيجية الجديدة إلى الصين والتحديات التي تشكلها ضد مصالحنا وأمننا وقيمنا».
وفي الوقت نفسه، تعمل واشنطن على تسليح اليابان وكوريا الجنوبية (مع أستراليا)، حتى إنها دعت طوكيو وسيول للانضمام إلى قمة الناتو بصفتهما «مراقبين»، وهو ما بدأ يشبه بالتأكيد «نسخة مماثلة لحلف الناتو في المحيط الهادئ».
وردًّا على مشاركة الصين العسكرية الجديدة في جزر سليمان، أعلنت إدارة بايدن إطلاق مجموعة «شركاء في المحيط الأزرق»، وقال البيت الأبيض إن الهدف من المجموعة غير الرسمية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واليابان ونيوزيلندا يتمثل في تقوية العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول جزر المحيط الهادئ، أو بعبارةٍ أكثر وضوحًا، يتمثل الهدف في الاهتمام بتلك الجزر الآن، كما فعلت بكين (وقَّعت الصين اتفاقية أمنية يمكن بموجبها للبحرية الصينية أن ترسو سفنها الحربية على الجزر).
وبدورها، أطلقت بكين مبادرة الأمن العالمي لمواجهة مجموعة «الحوار الأمني الرباعي»، المكونة من الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ؛ إن المبادرة ستتصدى للاستخدام التعسفي للعقوبات الأحادية الجانب، بالإضافة إلى مجابهة الهيمنة وسياسة القوة والمواجهة بين الكتلتين».
ستار حديدي جديد
يُنوِّه التقرير إلى أن القوى الغربية الكبرى تعتقد على ما يبدو حاليًا أن هناك ستار حديدي جديد هبط على العالم، من ماريوبول في أوكرانيا على البحر الأسود إلى تايبيه في تايوان على مضيق تايوان، وربما على طول الطريق إلى هونيارا في جزر سليمان بجنوب المحيط الهادئ.
الدبابات ما الذي يمكن أن يتعلمه الجيش الصيني من حرب روسيا وأوكرانيا؟- ث- ماريوبول جورج فريدمان: ما الدروس التي تعطيها الحرب في أوكرانيا للعالم؟
وقال ماكس بيرجمان، مدير برنامج أوروبا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، إن «الناتو يتجه نحو وضع الحرب الباردة إلى حدٍّ ما»، وعندما يتعلق الأمر بآسيا، يكمن أمام هذا الستار الجديد حلفاء غربيون راسخون ودول ديمقراطية قوية، مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، وفي الجهة المقابلة من روسيا والصين، توجد أنظمة استبدادية لا تبدي أي قدر من الندم، مثل بيلاروسيا وباكستان وكوريا الشمالية.
وعلى نطاقٍ أوسع، قد تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها حاليًا مزيجًا من قوتين نوويتين، إذ يقول جورج بيبي، كبير محللي الشؤون الروسية السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، إن «روسيا الغنية بالموارد تعقد شراكة مع الصين القوية تقنيًّا واقتصاديًّا»، ومن جديد، لا تبدو الملامح والمخاطر واضحة كما كانت خلال الحرب الباردة الأولى، حتى عندما شهد العالم صعود كتلة عدم الانحياز الجديدة.
وكان الصدام الأيديولوجي بين الشيوعية والديمقراطية/الرأسمالية، خلال حقبة الحرب الباردة، واضحًا؛ وعلى النقيض من ذلك، لا تجد محاولة بايدن تأطير الصراع على أنه نضال عالمي من أجل الحرية تأييدًا من معظم دول العالم، ويضطلع الاقتصاد، الذي لا يزال يتسم بالعولمة، بدورٍ أساسي، لا سيما أن الصين الصاعدة تعتمد عليه كثيرًا في نموها؛ بينما تعتمد روسيا الضعيفة كثيرًا على الصين من أجل سلامتها الاقتصادية.
وكما قال ستولتنبرج «نحن لا نَعُد الصين خصمًا، لكن علينا أن ندرك حقيقة صعود الصين ونفهم أنهم يستثمرون بكثافةٍ في قدراتٍ عسكريةٍ حديثةٍ جديدةٍ، بما فيها توسيع قدراتهم النووية، والاستثمار في تقنيات مدمرة، ومحاولة التحكم أيضًا في البنية الرئيسة الحيوية في أوروبا، وكل هذا يؤكد على أهمية معالجة تلك القضايا»؛ لكننا حتى الآن، لا نعرف كيف سيتعامل حلف الناتو مع هذه المعضلة.
ويشدد التقرير على أنه من جهةٍ أخرى، قد يكون ما يحدث حاليًا أمرًا لا مفر منه، وربما يتعامل بايدن وحلفاؤه الغربيون والآسيويون ببساطةٍ مع الحقائق على أرض الواقع من خلال قبولها ومواجهتها؛ لكن قد يشهد العالم أيضًا قصورًا في التخيل والشجاعة السياسية من الرئيس الأمريكي والقوى الكبرى، وهذا ما يعني أن المَخرَج من الأزمة سيكون عن طريق التفاوض.
جو بايدن وشي جين بينج
وربما لا يمكن هذا حاليًا مع روسيا، لكنها برغم كل شيء تُعد شريكًا أصغر للصين، وتعتمد على المساعدات السخيَّة من بكين، والعلاقة بين الغرب والصين موجودة على عديد من المستويات المختلفة، بما فيها الحاجة المشتركة لمعالجة أزمة تغير المناخ والتجارة المفتوحة، حتى يمكن التوصل إلى نوع من التسوية المؤقتة في ظل النظام الدولي الحالي.
وعلى النقيض من ذلك، تستسلم واشنطن لليأس، وفي مقالٍ نُشِر حديثًا في مجلة «فورين أفيرز» تحت عنوان «النظام الأجوف: إعادة بناء نظام دولي ناجح»، كتب فيليب زيليكو، مسؤول كبير سابق في إدارة جورج دبليو بوش، أن: «الحاجة إلى نظام عالمي جديد ظاهرة»، وهذا هراء بكل وضوح، ولم يعمل بنجاحٍ ما يُسمَّى بالنظام العالمي القديم المصمم بعد الحرب العالمية الثانية، بالطريقة التي تصورها تشرشل، وخاصةً منظمة الأمم المتحدة، ولكن بصورةٍ عامةٍ، كان هذا النظام لا يزال يعمل بنجاحٍ جيدٍ على الرغم من الكوارث القريبة، مثل كوريا وفيتنام؛ لكن أكبرها حتى الآن هي الحرب التي دبر لها جورج دبليو بوش: غزو العراق عام 2003.
خطر النظرة المتساهلة للدخول في حرب ضد الصين
يؤكد التقرير أن تاريخ الولايات المتحدة لم يشهد كارثةً أكبر في السياسة الخارجية من غزو العراق، من حيث التداعيات غير المباشرة في جميع أنحاء العالم، لدرجة أن تلك التداعيات ساعدت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تبرير عدوانه المَقِيت ضد أوكرانيا، وفي خطابه الذي ألقاه يوم 24 فبراير (شباط)، استشهد بوتين بالسوابق المزعومة لواشنطن قائلًا إن: «المثال الذي يختلف عن أحداث ليبيا وسوريا هو بالطبع غزو العراق دون أي معايير قانونية».
ومع ذلك، لم يكن من الضروري أن تمضي الأمور بهذه الطريقة، ويصعب تخيل أن أي رئيس آخر غير بوش الابن، سواءً ديمقراطي أم جمهوري، كان سيتصدى لتحدٍّ مثل تنظيم القاعدة، يفرض ضرورة الاستخدام الأكثر حكمة للنظام الدولي عن طريق تجاهل ذلك النظام الدولي.
كما يصعب تصور أن أي رئيس آخر، ديمقراطي أو جمهوري، كان سيرتكب فعلًا غير عقلاني بغزو العراق، وهو البلد الذي لا علاقة له بأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، في وقتٍ كانت فيه الأيدي الآثمة الأساسية لا تزال طليقة؛ إن غزو بوش للعراق فتح الباب أمام كل الشرور التي لا تزال تمزق العالم يمينًا ويسارًا؛ والتي أسهمت إسهامًا مباشرًا في الكارثة المروِّعة في أفغانستان.
ولا توجد حروب حتمية، حتى الحروب الباردة. وبالفعل، ربما تجد الصين وروسيا دائمًا طريقةً لمقاومة الهيمنة الأمريكية والغربية، وقد أصبح بوتين حاليًا منبوذًا بعد غزوه لأوكرانيا، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن استمالة بكين للحفاظ على موطئ قدم في النظام الدولي؛ ومع ذلك، يكاد يكون الخطر السياسي المتمثل في النظرة المتساهلة للدخول في حربٍ ضد الصين أمرًا شائعًا في واشنطن، كما حدث ضد العراق منذ ما يقرب من 20 عامًا؛ وقد استسلم بايدن نفسه للإغراء السياسي الأول، ومن ثم دعَم حرب العراق على مضض.
وبعد تأثر شعبيته حاليًا في استطلاعات الرأي ومواجهته لانتكاسة محتملة في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني)، يبدو أن بايدن سيستسلم للإغراء الثاني.
وفي تصريحاته الأخيرة، بدا الرئيس الصيني المتشدد، وكأنه يبحث عن مَخرَج، وقال شي خلال حديثه في منتدى أعمال البريكس «يجب علينا في المجتمع الدولي أن نرفض ألعاب المحصلة الصفرية، ونعارض جميعًا الهيمنة وسياسة القوة»؛ وعلى الرغم من أنها تأتي من مصدرٍ مشبوهٍ؛ فإنها لا تزال فكرةً جيدةً عمومًا، وهل من السذاجة الاعتقاد بعدم وجود طريقة لتحقيق ذلك؟ بحسب ما يختم الكاتب.