شفق نيوز/ رسم معهد "المركز العربي في واشنطن" الأمريكي صورة المشهد المائي المعقد في المنطقة، بما في ذلك في العراق واقليم كوردستان، وكيفية تداخل عناصر الحاجة مع المصالح والصراعات السياسية.
ودعا التقرير الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، الى التعامل مع ملف المياه في حوض نهري دجلة والفرات من منظور مشترك للتعاون والتنسيق فيما يتعلق بحاجات تركيا من الطاقة الكهرومائية وحاجات العراق للري، وحاجات السوريين للشرب، بدلا من ان تستخدم هذه الاحتياجات البشرية كوسائل للضغط والسيطرة الجيوسياسية.
واشار التقرير الامريكي الى ان امن الطاقة والسيطرة على النفط كانا منذ فترة طويلة عوامل حاسمة في الصراع الجيوسياسي في الشرق الاوسط، الا ان السياسات الجيوبوليتيكية في المنطقة تشكلت ايضا من خلال القضايا المتعلقة بالوصول الى المياه.
واعتبر التقرير ان السيطرة على المياه واستخدامها وتوزيعها ونقلها من المجالات الرئيسية للاهتمام الاستراتيجي لدول الشرق الاوسط، سواء على طول الانهار العابرة للحدود في المنطقة، مثل نهر النيل ودجلة والفرات، او في المناطق الساحلية الرئيسية وخصوصا في الخليج ومضيق هرمز.
ولفت التقرير الى ان السياسات المائية لدول المنطقة، تميل نحو الفصل عن الديناميكيات الجيوسياسية الاوسع، مضيفا ان الامن المائي يتداخل مع النزاعات الاقليمية ويغذيها، كما انه يرتبط ارتباطا وثيقا بامن الطاقة والغذاء، محذرا من ان تأثيرات التغير المناخي تجعل مثل هذه التشابكات اكثر تعقيدا، مما يؤدي الى حلقات من ردود الفعل الحادة تربط بين الماء والغذاء والطاقة بطريقة مضرة.
واشار التقرير الى ان نظام ضفاف نهر دجلة والفرات، الاكبر في غرب آسيا، يهيمن على السياسة المائية لمنطقة المشرق العربي، وذلك من خلال مساحة مجتمعة تقل قليلا عن 880 الف كيلومتر مربع عبر ستة دول، مضيفا انهما ينبعان من تركيا وتعبر من خلال شرق الأناضول وسوريا والعراق، قبل ان تصب في الخليج في جنوب شرق العراق.
وتابع التقرير ان تعد احواض النهرين مجتمعة تعتبر موطنا لانظمة بيئية فريدة من نوعها، وابرزها في الاهوار العراقية، التي تشكل اكبر نظام بيئي للاراضي الرطبة في الشرق الاوسط. واضاف ان النهرين يمثلان اهمية مركزية لاقتصادات المنطقة وسبل الحياة فيها، حيث ان هناك نحو 60 مليون شخص يعتمدون على نهر الفرات وحده، مما يجعل النهر مركزا للاستقرار الاقليمي.
وعلى الرغم من ذلك، قال التقرير ان نهري دجلة والفرات تعرضا للاثار السلبية لضعف التعاون والادارة المائية العابرة للحدود، مشيرا الى انه جرى اقامة السدود وتطبيق انظمة الري وخطط ادارة المياه الى حد كبير من جانب واحد، مما ادى الى نشوء لعبة محصلتها صفر حولت موارد الانهار، موضوعا للتنافس والنزاع.
وعلى سبيل المثال، اوضح التقرير ان تركيا التي كانت تستورد نحو ثلاثة ارباع طاقتها، بدأت منذ عقود التطلع الى موارد الطاقة الكهرومائية من نهري دجلة والفرات على انها حل لاحتياجاتها من الطاقة.
وتابع ان سد اليسو للطاقة الكهرومائية المقام على نهر دجلة، اثار في الاونة الاخيرة، توترات جيوسياسية مع العراق وسوريا، حيث تقوم بغداد وانقرة في الوقت الراهن باستطلاع الاليات القانونية الدولية والقنوات الدبلوماسية، بهدف منع اقامة السد.
وكان تشييد السد بدأ في العام 2007، وهو جزء من "مشروع جنوب شرق الاناضول التركي" (GAP)، والذي يشتمل على اقامة 22 سدا و 19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على طول نهري دجلة والفرات بالقرب من حدود تركيا مع سوريا والعراق.
واشار التقرير الى ان دول الشرق الاوسط لطالما وجهت انتقادات للمشروع بسبب تاثيره على امدادات المياه لجيران تركيا الجنوبيين، وتم تأجيله عدة مرات.
وبحسب التقديرات، فإن العديد من مشاريع بناء السدود والطاقة الكهرومائية في تركيا قد تسببت في تخفيض امدادات المياه في العراق على طول النهرين بنسبة 80% منذ العام 1975 وان سد اليسو سيقلل من مياه نهر دجلة في العراق بنسبة 56 % اضافية.
ولهذا، فان العراق ينظر الى السد على انه سيفرض عليه ضغوطا اكبر في ميادين الزراعة والموائل الطبيعية، مما يفاقم من التصحر والملوحة في مناطق بعيدة مثل الاهوار الجنوبية.
وبالاضافة الى ذلك، فان المعارضة لهذه المشاريع جاءت من مجتمعات كوردية تعتبر بان السد الذي غمر اراض تشكل اهمية تاريخية وثقافية للكورد ودمر مدينة "حسن كيف" الكوردية القديمة، يمثل انتهاكا لحقوق الانسان.
لكن بالنسبة لتركيا، فان ادارة المياه تسمح بمزيد من "الامن المائي" وتهدئة المناطق الكوردية فيما يتعلق بمسائل حقوق الاراضي الكوردية والملكية والهوية القومية تحت ستار ضرورة بناء السدود وامن المياه والطاقة.
وتابع التقرير انه بالنسبة الى العراق، فانه منذ بدء تشغيل سد اليسو في ايار/مايو 2020، اصبح العراق مضطرا ان يطلب من أنقرة حدا ادنى من التدفقات المائية الشهرية، وانه بينما تقول تركيا ان السد له فوائد للعراق لانه يسمح بتدفق اكثر تنظيما وتوقعا على نهر دجلة، فان المسؤولين العراقيين يشكون من ان السد فاقم من حالة عدم اليقين بالنسبة للمزارعين العراقيين، الذين صاروا يخضعون الان لاهواء انقرة.
ورأى التقرير ان مذكرة التفاهم الموقعة العام 2021 تطلب من تركيا تزويد العراق بحصة عادلة من المياه من نهري دجلة والفرات، وهي بمثابة خطوة في الاتجاه الصحيح، الا انه لم تتبعها اتفاقيات تفرض التزاما اكبر ودائم.
وبحسب التقرير، فان التوصل الى اتفاقية للمياه في المستقبل، تكون متعددة الاطراف وتضم العراق وايران وتركيا وسوريا (وكذلك المملكة السعودية والاردن، اللذان يحصل كل منهما على حصة صغيرة من المياه من نهر الفرات)، بمثابة خطوة مهمة للتعامل مع حقوق المياه كمجال للتعاون في المنطقة، بدلا من التنافس.
وبعدما لفت التقرير الى مشكلات تتعلق بنجاح السد الذي ينتج في المتوسط اقل من نصف انتاجه من الطاقة الكامنة، قال انه حتى لو لم يضمن سد اليسو امن الطاقة والمياه لتركيا، الا انه كان برغم ذلك، أداة جيوسياسية فعالة لتركيا في مواجهة العراق وسوريا حيث يبدو ان انقرة ربما تستخدم السد كوسيلة ضغط لانتزاع تنازلات اقتصادية وسياسية من العراق.
لكن التقرير استبعد ان تتسبب السياسات المائية هذه في اندلاع نزاع ثنائي، مذكرا بان تركيا كانت الشريك التجاري الاقليمي الرئيسي للعراق وان التجارة الثنائية بينهما تجاوزت 24 مليار دولار في العام 2022، بالإضافة الى وجود دلائل على تنامي التعاون الاقتصادي والروابط بين البلدين، كما يظهر من خلال مشروع "طريق التنمية" من الفاو الى اسطنبول.
مناطق الادارة الذاتية
وفي الوقت نفسه، اشار التقرير الى انه جرى استخدام المياه ايضا لتبرير اعمال عسكرية، حيث اتهمت تركيا والجماعات المسلحة المدعومة منها، ب"عسكرة المياه" حيث جرى استخدام السدود للحد من امدادات المياه لمناطق الادارة الذاتية التي يسيطر عليها الكورد في شمال شرق سوريا.
وبعدما اشار التقرير الى ان ضعف موقف الكورد في مناطق الادارة الذاتية، بالنظر الى انهم محاصرون بين السياسات المائية لدول الجوار الاربع، ايران والعراق وسوريا وتركيا، لفت الى ان الكورد انفسهم استخدموا المياه كعنصر استراتيجي من خلال السيطرة على البنية التحتية الرئيسية للمياه في شمال سوريا، بما في ذلك بعض اكبر السدود في سوريا التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، مثل سد الطبقة وسد تشرين.
اقليم كوردستان
وذكر التقرير ان اقليم كوردستان يستفيد من الوفرة النسبية للمياه عند مقارنتها ببقية مناطق العراق وسوريا، حيث يتمتع باحتياطيات كبيرة من المياه الجوفية والقدرة على الاكتفاء الذاتي مائيا واستخدام المياه للانخراط في الدبلوماسية مع جيرانه الاكبر.
واشار التقرير الى ان حكومة اقليم كوردستان اعلنت عن رغبتها في استخدام احتياطياتها الكبيرة من الغاز لتصبح مركزا للطاقة في المنطقة، وهي ايضا تتطلع الى الاستفادة من مصادرها المائية وموقعها الاستراتيجي بين تركيا والعراق وايران للمساهمة في تعزيز مطالباتها السيادية وشرعيتها في نظر المجتمع الدولي.
الا ان التقرير قال انه برغم وفرة المياه لديها نسبيا، فان حكومة اقليم كوردستان، تعتبر احيانا مسؤولة عن سوء ادارة الموارد المائية، ولم تنجح في في اقامة شكل من المؤسسات والاطر القانونية التي قد تحد من حجم الضغوط المزدوجة للطلب المتزايد على المياه وشح المياه.
ومع ذلك، اوضح التقرير ان هذا الوضع تفاقم بسبب الضغوط التي تسبب بها كل من النازحين واللاجئين السوريين في اقليم كوردستان، حيث ادى ذلك الى زيادة عدد السكان في الاقليم بنسبة 28 %.
كما ان اعتماد اساليب زراعية تستهلك المياه بكثافة وبشكل متزايد، تسبب في تعزيز الضغط على موارد المياه في الاقليم وكيفية ادارتها.
ولم يستبعد التقرير ان تؤدي تأثيرات التغيير المناخي الى زيادة حدة التوترات على طول نهري دجلة والفرات، حيث انه ينظر الى هذا الحوض النهري على انه احد مستجمعات المياه الاكثر هشاشة في العالم، في ظل ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة اسرع بمرتين من المتوسط العالمي.
كما انه من المتوقع ان يؤدي التبخر المتزايد الى مزيد من الضغط على النهر واولئك الذين يعتمدون عليه للبقاء على قيد الحياة حيث هناك مخاطر تتعلق بالامن الغذائي وبهرجة واسعة بفعل التغييرات المناخية وتداعياتها.
وعلى سبيل المثال، قال التقرير ان بعض المحللين ربطوا بين الثورة السورية والحرب الاهلية التي تلت ذلك وبين شح المياه في المنطقة، حيث انه خلال السنوات التي سبقت الحرب الاهلية، كان هناك جفاف قاس تسبب بفشل زراعي وهجرة كبيرة من الريف نحو المدن الكبرى مثل حلب ودمشق.
واعتبر التقرير ان الحرب وانعدام الامن المائي يعدان عنصرين متبادلين، حيث ان الجفاف شكل احد العوامل التي اشعلت فتيل الحرب، كما ان الحرب ساهمت في تعميق ازمة المياه في سوريا.
المياه والتنازلات الاقتصادية
ختم التقرير بالقول انه من الواضح ان السياسات المائية الاقليمية تنشط وتحفزها الجغرافيا السياسية في المنطقة، مضيفا انه جرى استخدام مياه النهرين للاستفادة من التنازلات الاقتصادية والسياسية من البلدان المجاورة، كما ان المياه اصبحت في اوقات الحرب، سلاحا يستخدم لفرض عقاب جماعي على بعض السكان.
وتابع التقرير ان السياسة المائية ترتبط بشكل وثيق بالغذاء والطاقة، مضيفا انه من غير الممكن التفكير في الامن المائي من دون ان يتم النظر ايضا في كيفية ارتباطه برغبات الدول في تعزيز امنها الغذائي وامن الطاقة. ولهذا، يؤكد التقرير على اهمية ان تكون سياسات المياه عابرة للحدود وضمن استراتيجيات دبلوماسية شاملة، تهتم بكيفية تلبية موارد المياه المشتركة للاحتياجات المختلفة.
وختم قائلا انه "يجب ان يتم فهم الطاقة الكهرومائية التركية والري العراقي ومياه الشرب للسوريين، على انها احتياجات بشرية مترابطة تشكل اساسا محتملا للتنسيق والتعاون، بدلا من الادوات التي يجب استخدامها للضغط والسيطرة الجيوسياسية".