شفق نيوز/ ليس من الممكن قراءة تاريخ المنطقة والعراق والحركة الكوردية تحديدا، من دون تسليط الضوء على شخصية ادريس بارزاني الذي حلت ذكرى رحيله ال33، بالنظر الى الادوار التي لعبها في أيام الحرب والسلم، على صعيد الساحة الكوردية والعراقية والاقليمية.
وتشير العديد من محطات سيرة حياة ادريس بارزاني، والد رئيس اقليم كوردستان الحالي نيجيرفان بارزاني، الى انه لم يكن شخصية عادية، سواء وهو ينهل من إرث والده الملا مصطفى، او وهو يعاني كغيره من الكورد والعائلة البارزانية خصوصا، من تحولات التاريخ ومؤامراته، أو وهو يمتشق السلاح في العام 1961، دفاعا عن اهله وشعبه، ولا حتى وهو يتحول بالفعل الى مناضل من اجل السلام الكوردي، او الى مفاوض يستحق معه أن يطلق عليه لقب "الدبلوماسي الكوردي الأول".
ينقل عنه الصحافي الفرنسي كريس كوتشيرا، المتخصص بشؤون الشرق الاوسط والقضية الكوردية، عندما التقاه قبل أيام من وفاته المفاجئة وهو في عمر الشباب في العام 1987، "عندما تتطور الثقة المتبادلة، عندها فإن كل المشكلات ستتلاشى".
ويعكس هذا التصريح الكثير من طريقة حياة ادريس بارزاني ونمط تفكيره في مختلف المحطات التي مر بها سياسيا ونضالياً، سواء في قاعات التفاوض أو ساحات القتال، فهو ساع دائم الى التفاهمات والتسويات وتغليب التوافق.
في كتاب "القاموس التاريخي.. الكورد" للكاتب مايكل غونتر يقول عن ادريس بارزاني إنه برز إلى جانب شقيقه مسعود كزعيمين للحزب الديمقراطي الكوردستاني بعد وفاة والدهما الزعيم الملا مصطفى، وكانت ابرز سمات ادريس انه اكثر اكاديمية ومفكر لكنه محتفظ بالتقاليد التي نشأ عليها.
وتأثر ادريس بارزاني المولود في العام 1944 في منطقة بارزان، بتقاليد عائلته المرتبطة بجذور قومية ودينية تميل الى الصوفية، وتأثر من دون شك بعواصف تقلبات الأحداث التاريخية التي ضربت المنطقة والحركة الكوردية.
فقد كان ادريس بارزاني يبلغ من العمر عامين فقط عندما توجه والده الزعيم مصطفى بارزاني ورفاقه الى شرق كوردستان بالتحديد الى الجمهورية الجديدة مهاباد، إلا أن بعد الأحداث التي رافقت قيام الجمهورية الكوردية، اضطر البارزاني الأب ورفاقه للتوجه نحو الإتحاد السوفيتي، فيما عادت الأسر والعوائل البارزانية الى العراق برفقة الأخ الأكبر لمصطفى بارزاني، الشيخ احمد بارزاني، وكان ادريس بارزاني يبلغ حينها الثالثة من عمره، ولدى وصولهم أجبرتهم السلطات العراقية على التوجه نحو المناطق الجنوبية من العراق.
وكان في السادسة من عمره عندما كان يتلقى التعليم في مدرسة في كربلاء حيث اقامت عائلته اضطراريا بسبب الابعاد، ولم يجتمع شمله بوالده الا بعد سقوط النظام الملكي في العام 1958 على يد عبدالكريم قاسم، وعودة الاب من الاتحاد السوفياتي.
ولم تنتظر انعطافات الحياة كثيرا على هذا الشاب اليافع وقتها، حيث اندلعت الثورة بعد ذلك بثلاثة أعوام فقط، وتحديداً في أيلول 1961، حيث ترك مقاعد الدراسة لحمل السلاح نصرة لاهله بعد تراجع عبدالكريم قاسم عن تعهداته، وكان بذلك من اوائل المقاتلين البيشمركة الذين حملوا السلاح، وقاد بعدها العديد من العمليات بما فيها معركة هندرين (1966).
ولان القتال لم يكن هدفاً، فإن ادريس بارزاني لعب دوراً أساسياً في محادثات العام 1970 والتفاوض حول بنود اتفاقية 11 اذار، ويشير مايكل غونتر في كتابه "القاموس التاريخي.. الكورد"، الى انه عندما سافر ادريس بارزاني الى بغداد للتفاوض مع "صدام التكريتي" في الثامن من آذار 1970 في مهمة ل24 ساعة، كان ناشطو الحزب الديمقراطي الكوردستاني قلقين على حياته، كما أن كثيرين عارضوا زيارة التفاوض التي سعى اليها ادريس.
لكن تلك المفاوضات جلبت اتفاقا، وهذا جوهر ما كان يسعى اليه ادريس بارزاني الذي يوصف بأنه أحد مهندسي الاتفاقية. صحيح أن الاتفاقية لم تعمر طويلا مع توصل شاه إيران محمد رضا بهلوي و"صدام التكريتي" الى ما عرف بـ"اتفاقية الجزائر"، وانقلاب كل من الشاه وصدام على الوعود الممنوحة للكورد، إلا أن ذلك كان بعلم الغيب، وكان ادريس كعادته يراهن على ان يكون التفاهم سيد المواقف وتغليب السلام على لغة الحرب وهو يسجل له انه بذل جهودا واسعة من اجل تعزيز العمل بالاتفاقية على الساحة الكوردية برغم وجود اصوات معارضة.
وبرغم ذلك، فان ادريس بارزاني كان له موعد غادر مع الموت. ويقول المؤلف مايكل غونتر الى تعرض ادريس لمحاولة اغتيال في كانون الاول/ديسمبر 1970، أي بعد شهور من اتفاقية اذار مع حكومة بغداد، لكنه نجا منها. واتهمت صحيفة "الثورة" التابعة للنظام في بغداد وقتها بعض الأوساط "الامبريالية" بالتورط في محاولة الاغتيال.
ولأن ادريس كان يبحث دوما عن قنوات سياسية للعمل، فانه كان أول من فتح قناة تواصل مع الاميركيين. ويقول السياسي الكوردي الدكتور محمود عثمان في مقابلة مع موقع "فرونت لاين" الاميركي، ان الاتصالات الاولى التي جرت بشكل مباشر بين القيادة الكوردية وبين الاميركيين في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ووزير الخارجية هنري كيسنجر، تمت في العام 1972، وشارك فيها هو شخصيا الى جانب ادريس بارزاني اذ توجها سوية الى واشنطن.
وبحسب رواية محمود عثمان فان اللقاءات جرت عبر وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) في العام 1972. وكانت تلك الزيارة الاولى من نوعها من جانب الطرف الكوردي الى الولايات المتحدة في مهمة رسمية وسرية، والتقيا هناك في لانغلي رئيس الوكالة ريتشارد هيلمز وشخصيات اخرى من وزارة الخارجية والبنتاغون، وهي مهمة وصفها عثمان بانها كانت خرقا كبيرا لكن هذه المحاولات تعرضت لانتكاسة بعد الاعلان عن "اتفاقية الجزائر" بين شاه ايران وصدام حسين، حيث يبدو ان واشنطن لم ترغب في اثارة استياء حليفها الشاه بالانفتاح على الكورد.
وفي مواجهة هذا الموقف الذي وصف بأنه انتكاسة لثورة ايلول، انصب اهتمام ادريس بارزاني مع شقيقه مسعود، وبإرشادات من الزعيم الملا مصطفى، بالتعاون مع مجموعة من القادة والكوادر المتقدمة بتأسيس قيادة مؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني، بحسب ما يؤكد الموقع الالكتروني الرسمي لمسعود بارزاني.
وفي أعوام ما بين 1980و1987، لعب ادريس بارزاني وشقيقه مسعود ادواراً مؤثرة في قيادة ثورة كولان التي جاءت رداً فعلياً على "اتفاقية الجزائر"، وفي تأسيس عدة جبهات سياسية معارضة في العراق، وكان أبرزها، تأسيس الجبهة الكوردستانية التي اعلنت في ايار/مايو 1988، والتي اعتبر ادريس "مهندسها" برغم إعلانها بعد شهور من وفاته المفاجئة في 31 يناير/كانون الثاني 1987 في منطقة سليفانه التابعة لمدينة أورمية في شرق كوردستان في إيران.
لكن تلك الجبهة كانت نواة التحرك الثوري الذي قاد الى انتفاضة العام 1991 لاحقا.
ولم تقتصر أدوار ادريس بارزاني على ذلك. عرف عنه جهده الدؤوب في هندسة المصالحات والتسويات الداخلية على الساحة الكوردية وحقن الدماء بما يخدم المسيرة النضالية، وترتيب البيت الداخلي الكوردي، تماما مثلما يفعل ابنه نيجيرفان بارزاني الان من خلال دوره في رئاسة اقليم كوردستان.
لعب ادريس بارزاني ايضا دورا كبيرا ايضا في هندسة العلاقات مع طهران ما بعد الثورة الاسلامية فيها منذ العام 1979، مستفيدا من الفترات الطويلة التي أمضاها هناك، ومن قدرته على التفاوض الديبلوماسي مع الإيرانيين حيث نجح في كسب ثقتهم بصدقية تحركاته ومواقفه، برغم الحساسية التي يدركها التي لدى الايرانيين القوميين، وهو الذي كان يتولى منذ سنوات موقعه السياسي الرئيسي كعضو في اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي انتخبه في المؤتمر الثامن للحزب، ثم عضوا في المكتب السياسي للحزب منذ العام 1976.
في مقالته على موقع "كريس كوتشيرا دوت كوم"، يروي هذا الصحافي الفرنسي تفاصيل عن التصريحات الاخيرة التي ربما ادلى بها ادريس بارزاني على هامش مشاركته في مؤتمر للمعارضة العراقية والكوردية انعقد في ايران العام 1987، وتحديدا قبل أيام من وفاته المفاجئة بنوبة قلبية.
في ذلك المؤتمر المنعقد بين 24 و28 كانون الأول 1986 حيث سمع تعهدات من الرئيس الايراني وقتها علي خامنئي بان ايران ستترك اختيار النظام السياسي والقيادة السياسية للعراقيين أنفسهم، يقول ادريس بارزاني للصحافي الفرنسي "هذه الكلمات مهمة لمجموعات المعارضة وستجعل العلاقات بين ايران والدول العربية اسهل".
كان ادريس مستاء لان ان فصائل واحزاب ناصرية وبعثية ويسارية مثل الحزب الشيوعي والتجمع الديمقراطي تغيبوا عن مؤتمر المعارضة في طهران لانهم بذلك جعلوا الامر اكثر صعوبة علينا للدفاع عن موقفنا بأن الشعب العراقي يريد انتخابات حرة لاختيار نظامه الذي سيأتي بعد سقوط صدام حسين، فلو كانوا هناك لكان وضعنا اسهل في الدفاع عن موقفنا".
وكان ايضا حائرا من تغيب الرجل الثاني في ليبيا عبدالسلام جلود ووزير الخارجية السوري فاروق الشرع. لكن استياءه كان واضحا من غياب قوى عراقية وكوردية، وهو ما يؤكد سيرته الدائمة برغبته في العمل من اجل الاجماع والالتقاء بحثا عن الحلول. كان متفهما لصعود قوى إسلامية على المشهد العام عندما قال "كنا نتعامل مع قوى قومية لكننا الان نتعامل مع جماعات اسلامية.. اننا نواجه وضعا جديدا. انه موقف جديد بالنسبة الينا، وهو حالة جديدة للشرق الاوسط بأكمله. علينا التأقلم مع ذلك". هذه القوى كانت متحفظة على استخدام تعبير "الحقوق القومية" للكورد.
وكان يدرك ايضا ان القضية الكوردية حساسة ايضا بالنسبة الى الايرانيين والاتراك، ولهذا فانك ستجده يقول للصحافي الفرنسي "نحن الكورد مهتمون بتحسين العلاقات المستقبلية معهم (ايران وتركيا)، ولهذا حذفنا كلمة (القومية)" من البيان.
كما لم يتضمن البيان كلمة "مستقل" للأسباب نفسها. يقول إدريس "اذا تحسنت الثقة المتبادلة، عندها فان كل المشكلات ستتلاشى". ويؤكد "لا نقبل بما هو اقل مما نناضل من اجله، لكن من اجل انجاح المؤتمر، حتى لا يلوم احد الكورد (على فشله) فاننا كنا مستعدين من اجل القبول بالمصطلحات العامة".
هذا فن ديبلوماسي استثنائي من قبل قيادي كوردي في تلك المرحلة العصيبة والحساسة. لكن ليس أدل من نجاح ديبلوماسية ادريس بارزاني هذه سوى قول زعيم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق محمد باقر الحكيم في المؤتمر "انا أتعهد بالنضال من اجل حقوق الكورد كما لو كنت كورديا".
بعد انتفاضة العام 1991 وتحرير القسم الأكبر من ارض كوردستان العراق أعيد جثمان ادريس بارزاني برفقة جثمان والده والأب الروحي للكورد مصطفى بارزاني في 6 تشرين الأول من العام 1993 الى كوردستان ليوارى جثمانهما الثرى في بارزان وليصبح مثواهما مزاراً ومرقداً يؤمه الآلاف من المواطنين سنويا.