شفق نيوز/ أكد صندوق النقد الدولي ان الشرق الاوسط الكبير، بما في ذلك في العراق، والذي يعاني عادة من صراعات لا تنتهي، يشهد حاليا تحولا عميقا في الجغرافيا السياسية، ويخلق إمكانيات جديدة لتحقيق الرخاء حتى برغم الصراعات الدولية القائمة في الوقت الراهن.
وفي مقال رأي على موقع صندوق النقد الدولي تحت عنوان "رمال متحركة" ترجمته وكالة شفق نيوز، اشار الى ان الشرق الاوسط ينظر إليه عادة باعتباره ساحة لصراع بلا نهاية حيث يتنافس اللاعبون الإقليميون لتحقيق تفوقهم، في حين يكافح الشباب ضد الحكم الاستبدادي والاقتصادات المتعثرة، إلا أنه رغم التحديات العديدة التي تواجهها المنطقة، من البرنامج النووي الإيراني الى الصراعات المحتدمة في الاراضي الفلسطينية والعراق وليبيا والسودان وسوريا واليمن، فإن التطورات الأخيرة تشير إلى أن مكانة الشرق الاوسط في العالم، تشهد تغيرا عميقا.
واعتبر التقرير؛ أن هناك "تحولات محورية في السياسة الإقليمية"، مشيرا في هذا السياق الى اتفاقيات ابراهيم بين إسرائيل ومجموعة من الدول العربية في العام 2020، والتقارب الاخير بين ايران والسعودية، موضحا أن الدافع الأهم لهذا التغيير هو التحول في نظرة الولايات المتحدة الى الشرق الاوسط.
وتابع التقرير أنه منذ الثورة الايرانية في العام 1979، فإن الولايات المتحدة كانت تعتبر بمثابة الدعامة الاساسية للبنية الامنية في المنطقة، مشيرا بذلك الى جهود واشنطن في السابق لاحتواء ايران اولا ثم العراق بعد غزو الكويت، والى تركيزها بعد هجمات 11 ايلول/سبتمبر على "الحرب العالمية على الإرهاب" في المنطقة، بما في ذلك خوض حروب أفغانستان والعراق والتدخلات في ليبيا وسوريا.
واضاف انه منذ الوصول الى تلك الذروة في التدخل والالتزام، حولت الولايات المتحدة اهتمامها نحو أولويات عالمية اخرى، وابرزها ادارة الصعود الصيني.
ولفت إلى أن واشنطن لم تعد حريصة على التورط في صراعات الشرق الاوسط مثلما هو واضح بالنسبة الى اصدقائها واعدائها في المنطقة، مضيفا ان الحروب الامريكية في افغانستان والعراق وليبيا انتهت بشكل سيئ، كما التأثير الأمريكي في الصراعات في سوريا واليمن، كان محدودا، مشيرا الى انه برغم استمرار سعي واشنطن لاحتواء ايران، الا ان ذلك ليس بغرض المواجهة المباشرة.
ويعني ذلك بحسب التقرير أنه يتحتم على الشرق الاوسط ان يتصور أمنه ويديره بنفسه الى حد اكبر، ولهذا فإنه في ظل غياب ضمانات أمنية أمريكية صارمة، فإن القوى الإقليمية تعتبر انه من الحكمة أن تخفف التهديدات وتحد من التوترات مع خصومها من خلال الدبلوماسية والانخراط الاقتصادي الأكبر.
ولهذا، يقول التقرير إن ذلك ما دفع السعودية والإمارات الى إصلاح علاقاتها مع قطر واستعادة العلاقات مع تركيا والعراق، ومؤخرا مع ايران وسوريا، مضيفا انه وفق النهج نفسه، تحققت اتفاقيات ابراهيم وتعزز الانخراط بين اسرائيل والسعودية، وانها بينما تستثمر ممالك الخليج في اسرائيل والعراق وتركيا، فان ايران وسوريا قد تأتيها هذه الاستثمارات لاحقا.
تكامل لا مواجهة
وذكر التقرير أن تراجع جدران الهوة منذ الربيع العربي في العام 2011 والاتفاق النووي الإيراني للعام 2015، ستأتي بالفائدة على البلدان العالقة في المنتصف، من لبنان والعراق في المشرق، إلى قطر وسلطنة عمان في الخليج.
وأضاف أن تعزيز التجارة والاستثمار، هو نتيجة مهمة أخرى حيث تستثمر كل من السعودية والامارات في تركيا والعراق، بينما تزايدت تجارة الإمارات مع إيران خلال العامين الماضيين، وأشارت السعودية إلى أنها قد تستثمر في ايران اذا تمكن البلدان من تطبيع العلاقات.
ولفت التقرير ايضا الى الاستثمار الكبير في ممر تجاري يربط الخليج بالبحر المتوسط، مع وجود طرق وسكك حديدية تربط عمان بالسعودية ثم إلى العراق والأردن وسوريا وتركيا، مع روابط جانبية مع ايران واسرائيل.
واضاف انه رغم ان الولايات المتحدة ليست حريصة على ضم ايران لهذه المشاريع، إلا أنها تدعم تواصلا أوسع بين الخليج والمشرق والهند للحد من دور الصين في المنطقة ودمج الخليج في استراتيجيتها الآسيوية.
الا ان التقرير رأى أنه على قدر ما قد تبدو هذه الرؤية بعيدة عن التحقق، وان هناك عقبات كبيرة أمامها، وأهمها مصير سوريا، إلا أنها تؤكد على المدى الذي وصل إليه الواقع الجيوستراتيجي في المنطقة، اذ ان الشرق الاوسط اصبح يتخيل التكامل الاقتصادي بدلا من المواجهة.
ولفت إلى أن المخاوف الأمنية هي التي كانت تشكل عائقا أمام مثل هذا المشروع، الا انه اصبح بالإمكان التفكير في مستقبل لا يختلف عن جنوب شرق آسيا في الوقت الحاضر، ورؤية التكامل الاقتصادي باعتباره الحل للمخاوف الامنية المستمرة، مضيفا انه حتى الولايات المتحدة نفسها أصبحت تدرك الميزة الاستراتيجية في الترويج لرؤية اقتصادية للمنطقة.
وذكر التقرير أن القوتين الأكثر طموحا في الشرق الاوسط، السعودية والإمارات، تطمحان إلى أن تكونا لاعبين بارزين في الاقتصاد العالمي، ولهذا فإنهما بحاجة إلى الأمن لبناء الصناعات الخدمية وجذب الاستثمار وأداء دور المركز الاقتصادي للمنطقة. ودعا التقرير إلى الأخذ بعين الاعتبار أن الهند اليوم هي أكبر شريك تجاري للإمارات بينما تلعب الصين وشرق آسيا دورا مهما في هذه الرؤية الاقتصادية الصاعدة، كما ان الصين تعتبر أكبر شريك للسعودية في مجال الطاقة، واستثماراتها في المملكة تفوق استثمارات جميع الدول الأخرى.
وبالاضافة الى ذلك، فان العلاقات الاقتصادية الصينية مع دول الخليج الأخرى، ومع ايران والعراق ومصر وباكستان، تشهد نموا أيضا، وقد استثمرت الصين أكثر من 56 مليار دولار في باكستان كجزء من "مبادرة الحزام والطريق"، وتتفاوض حول استثمارات مماثلة في التجارة والبنية التحتية في إيران. وأوضح التقرير انه بالنسبة للصين، فإن الشرق الأوسط الكبير يمثل جزءا شديد الأهمية من رؤيتها لأوراسيا، وهي الكتلة التي من شأنها أن تربط اقتصاد الصين بأوروبا.
وتابع التقرير أن شبه الجزيرة العربية تشكل أهمية حيوية لتجارة شرق آسيا مع افريقيا وأوروبا، وتشكل إيران وباكستان ممرين فريدين يربطان أوروبا من جهة وبحر العرب من الجهة الاخرى بالصين عبر آسيا الوسطى او برا الى اقليم شينجيانغ الصيني.
وذكر التقرير أنه فيما حولت الولايات المتحدة أنظارها بعيدا عن الشرق الاوسط باتجاه آسيا، فإن الصين صارت تتطلع غربا نحو الشرق الأوسط، مضيفا أن هذا الاقتران بين المصالح المتغيرة للقوى العظمى الاولى في العالم، يمثل التغيير الأكثر اهمية في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط منذ عقود، مشيرا الى دور بكين في تطبيع العلاقات بين ايران والسعودية، ومساهمته أيضا في خلق مناخ من الترابط الاقتصادي الأكبر داخل المنطقة.
وبحسب التقرير، فإن حرب روسيا في أوكرانيا، عززت من هذا التحول الجيوستراتيجي، مشيرا الى ان روسيا كانت منخرطة بالفعل بشكل عميق في الشرق الأوسط من خلال تدخلها في الحرب الاهلية السورية واتفاق انتاج النفط مع السعودية ومنظمة أوبك. وتابع التقرير أنه بينما قلصت الحرب الاوكرانية من التدخل الروسي في سوريا، إلا أنها عمقت من علاقات موسكو مع طهران وبشكل أكثر وضوحا في الساحة العسكرية.
الا ان التقرير رأى أن الاعتماد الروسي على إيران يصل الى ما هو ابعد من الإمدادات العسكرية حيث تتطلع روسيا بشكل متزايد الى ممر عبور يمتد من ميناء استراخان على بحر قزوين مرورا بإيران إلى ميناء تشابهار على بحر العرب للتجارة مع العالم، مضيفا أن التجارة الروسية المتنامية، مهمة للاقتصاد الإيراني الذي يعاني من ضائقة مالية، وهي ربطت ايضا ايران بمدن الموانئ الواقعة على الشواطئ الجنوبية للخليج، والتي تعد جزءا من شبكة التجارة الروسية الصاعدة.
خطوط أنابيب جديدة
واعتبر التقرير أن الديناميكية نفسها تسري في شمال افريقيا وبلاد الشام، ولكنها هنا مدفوعة برد فعل أوروبا على العدوان الروسي، موضحا أنه في ظل تقليص اعتماد أوروبا على النفط والغاز الروسي، فإنها سوف تعتمد بشكل مؤكد إلى حد اكبر على واردات الطاقة من شمال أفريقيا، والشرق الأوسط، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وهو ما سيكون له تأثيره على الجزائر ومصر، منتجي الغاز في المنطقة.
إلا أن الآثار الأكثر اتساعا لذلك على التكامل الاقتصادي عبر البحر الأبيض المتوسط، ستكون لصالح المغرب وتونس، اللتين كانتا في طليعة سلاسل التوريد التي تخدم الاقتصادات الاوروبية.
وأضاف أن تركيا ترى أن المستقبل سيكون من خلال مركز عبور لخطوط أنابيب الطاقة القادمة من الجنوب والشرق إلى أوروبا في الغرب، مشيرا إلى أن السعودية وقطر تفكران في مد خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز الخاص بهما، بالاضافة الى النفط والغاز العراقي، الى هذا المركز التركي للطاقة.
لكن التقرير نوه إلى أن هذه الخطط تعتمد على حل النزاعات داخل هذه البلدان وفيما بينها، معتبرا أن ذلك ليس مستحيلا، ومذكرا في هذا السياق، أن لبنان واسرائيل وقعتا وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2022، (وبموافقة حزب الله) اتفاقا تاريخيا يحدد حدودهما في البحر المتوسط، وهي مقدمة ضرورية لتطوير حقول الغاز الخاصة بكل منهما، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة ساعدت في التفاوض على هذه الصفقة.
وتابع أنه فيما يعكس هذه الاتجاهات الناشئة، فان واشنطن تأمل في استبدال نظامها القديم في المنطقة بنظام يربط الهند بالخليج واسرائيل من خلال شبكة من الموانئ والطرق والسكك الحديدية، وهي رؤية امريكية تستهدف جزئيا احتواء ايران والصين.
وخلص التقرير الى القول انه على قدر ما تعتمد هذه الرؤية على العلاقات الاقتصادية، فانها ايضا ستؤكد على الواقع الجيوسياسي الجديد للمنطقة. وختم بالقول انه مثلما حدث في كثير من الأحيان خلال التاريخ، فإن التنافس بين القوى العظمى سوف يساهم في تشكيل مستقبل الشرق الاوسط الكبير، لكنها هذه المرة فإنها تعمل على ربط هذه الدول ببعضها البعض اقتصاديا بدلا من تمزيق هذه الدول، وهو ما سيفتح إمكانيات جديدة أمام المنطقة.
ترجمة: وكالة شفق نيوز