شفق نيوز- بغداد
مع حلول موسم الشتاء، تشهد العاصمة بغداد توافد أعداد كبيرة من الغربان التي تتجمع في مواقع محددة مثل نصب الجندي المجهول ومتنزه الزوراء، في ظاهرة تتكرر سنوياً وتثير اهتمام المختصين والسكان على حدّ سواء.
وتزامناً مع هذا الحضور اللافت، تتباين تفسيرات الأهالي ومعتقداتهم حول هذه الطيور بين من يراها مؤشراً على تغيّر الطقس وبين من يحتفظ برؤى شعبية قديمة ذات طابع متشائم، فيما يؤكد مختصون أن الأجواء المعتدلة وتوفر المياه ومصادر الغذاء تُعد من أبرز الأسباب التي تجذب طائر الغراب إلى هذه المواقع، في مشهد بات مألوفاً للبغداديين.
ومع هذا التباين، يحتل الغراب في الذاكرة الشعبية العراقية رمزاً مزدوجاً يجمع بين المعتقدات المتشائمة وبشارة المطر حيث الخصوبة والنماء.
وتقول الحاجة نهاية جاسم، من محافظة نينوى، إن "الناس كانوا قديما يستبشرون برؤية الغراب، لان ظهوره في القرى والوديان، يعد علامة واضحة يعرفون من خلالها موسم الأمطار".
وتضيف جاسم في حديثها لوكالة شفق نيوز، "ارتبط قدوم طائر الغراب بتغيّر الطقس ونزول الغيث، لذلك كان له حضور متميز في الذاكرة الجمعية لابناء الموصل والمناطق المجاورة لها".
إلا أن الذاكرة الجمعية لأبناء الجنوب ازاء هذا الطائر تختلف كليا عن سابقتها، ضمن اعتقاد قديم تناقله الناس جيلاً بعد جيل، إذ يقول الحاج رسن زامل، وهو من أهالي محافظة الديوانية، للوكالة، إن "الغراب كان ولا يزال يجلب لنا النحس والفأل السيئ، وحين نشاهده نتوسل الى الله ان يبعد عنا كل شر وسوء".
ويوضح زامل، قائلا: "إذا مر طائر الغراب فوق قرية من القرى فذلك يعني أن هذه القرية ستتعرض للأذى، أو يتعرض احد ابناءها للغرق، أو يموت رجل من وجهاء القرية او تشتعل النيران في أحدى البيوت".
وينوه إلى أن "العادات المتوارثة حول الغراب هي تراكم كبير من التجارب والمشاهدات التي أثبتت بشكل قاطع، أن الغراب لا يأتي إلى منطقة الا ويجلب لها الشر".
وارتبطت نظرة التشاؤم حول الغراب بجذور قديمة، تعود إلى قصة قابيل وهابيل، التي يحكي القرآن الكريم عنها، إذ ظهر الغراب لقابيل بعد قتله أخاه هابيل، وعلمه كيف يواري جثمان اخيه بعد ان شاهده يدفن غراباً آخر مات، ومن هنا ترسخ في الخيال الشعبي مفهوم الغراب باعتباره رمزاً للموت والدفن والحزن.
ويبدو أن الأفكار القديمة الراسخة في أذهان البعض لم يعد لها مكان في الوقت الحاضر؛ فمع مرور الزمن وتعاقب الأجيال وانتشار العلوم والتكنولوجيا، تبدلت تلك المعتقدات وتلاشت، وأصبح الغراب طائراً كسائر الطيور، يتميز بدور بيئي مهم.
وفي هذا السياق، يقول الخبير البيئي عمر الشيخلي، لوكالة شفق نيوز، إن "الغراب الذي يظهر بكثرة قرب نصب الجندي المجهول وفي بعض مناطق بغداد خلال الشتاء هو خليط من عدة أنواع تنتمي إلى عائلة الغرابيات"، مشيراً إلى "وجود أنواع متعددة من الغربان في العراق، وأكثرها حضوراً في موسم البرد هو الزاغ المعروف علمياً باسم الروك، وهو طائر مهاجر يأتي من المناطق الشمالية وسيبيريا والأناضول وغرب إيران".
ويضيف أن "الزاغ هو الأكثر عدداً، لكن الغربان ليست كلها من هذا النوع، فهناك أيضاً الجاك دو، وهو أصغر حجماً وله شكل مختلف، إضافةً إلى غراب بلاد الرافدين الذي يمتاز بلونه الأسود والأبيض وطبيعته الاجتماعية".
ويؤكد الشيخلي، أن "ظهور هذه الطيور بأعداد كبيرة يعد إحدى العلامات المبكرة لبداية الشتاء في المناطق الشمالية، فعندما تبدأ الهجرة، تتجمع الغربان في المناطق المنبسطة بالآلاف، وتشكل ما يشبه فرَق التنظيف الطبيعية، إذ تتغذى على النفايات وبقايا الحيوانات الميتة والقوارض والآفات الضارة، وبذلك تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على التوازن البيئي، وتحدّ من انتشار الأمراض والآفات الزراعية".
ويرجع الشيخلي، تناقص أعداد الغربان خلال السنوات الأخيرة، إلى عدة أسباب، أبرزها، كثرة استخدام المبيدات الزراعية التي تؤثر على غذائها وصحتها، والصيد الجائر الذي يهدف الى استغلال هذه الطيور في السحر والشعوذة، اضافة الى انحسار البساتين والمساحات الخضراء نتيجة التمدد العمراني".
ويبين أن "تراجع أعدادها أدى إلى زيادة انتشار بعض الكائنات الخطرة مثل الثعابين ودودة سوسة النخيل التي تُعد من أخطر الآفات الزراعية في العراق، ما يبيّن أهمية الحفاظ على الغربان كجزء أساسي من المنظومة البيئية".
كما أن لطائر الغراب دوراً أساسياً في صيد الشاهين، الذي يُعد من أندر الطيور وأغلاها في العراق.
وفي هذا السياق، يقول الصياد حاتم عزيز، إنهم "يشترون الغربان السوداء من سوق الغزل في بغداد، ثم يتوجهون بها إلى صحراء السماوة لاستخدامها بوضعها قرب الفخاخ".
ويوضح الصياد في حديثه للوكالة، أن "الغراب وحده قادر على إيقاع الشاهينة الحرة في الفخ، لأنها تهاجمه مباشرة عند رؤيته، وعند اندفاعها نحوه تقع في المصيدة"، منوهاً إلى أن "سعر الغراب الجيد يصل إلى نحو خمسين ألف دينار، وأن نجاح عملية صيد الشاهين يعتمد على جرأة الغراب وصوته وقدرته على إثارة الشاهينة ودفعها للهجوم".
ويؤكد أن "الغراب، الذي ينظر إليه كثيرون نظرة تشاؤم، يتحول إلى أداة أساسية لا غنى عنها في اصطياد أحد أندر وأغلى الطيور الجارحة في العراق".
ووفق علماء مختصين، يمتلك الغراب قدرة مدهشة على اكتشاف الأشخاص السيئين أو الخطرين؛ فقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن الغراب يستطيع تمييز الوجوه وتكوين ذاكرة طويلة الأمد عنها.