شفق نيوز- دمشق

في زقاق ضيّق من أزقة دمشق القديمة، بني البيمارستان النوري منذ أكثر من ثمانية قرون، كذاكرة حيّة تختزن تاريخ الطب العربي والإسلامي، ورمزاً لصراع السوريين اليوم من أجل الحفاظ على هويتهم الثقافية.

يقع البيمارستان النوري في دمشق القديمة، بمنطقة الحريقة قرب سوق مدحت باشا، على مسافة غير بعيدة عن سوق الحميدية والجامع الأموي، ما يجعله جزءاً من النسيج التجاري والتاريخي للمدينة القديمة.

بُني عام 1154م بأمر الملك العادل نور الدين محمود زنكي كمسشفى مجاني للمساكين، وتحوّل إلى مركز لتعليم الطب والصيدلة. 

تميّز البيمارستان بوجود أقسام متخصّصة: جناح للطب النفسي، غرف منفصلة للنساء، وأخرى للجراحة والباطنية، إضافة إلى مكتبة ومكان لتعليم الأطباء. هذه البنية جعلت منه واحداً من أكثر المؤسسات تقدّماً في العالم آنذاك.

يُعدّ المبنى تحفة معمارية أنيقة، يتميز بمدخل مزخرف وليوان جنوبي مرمّر، وآخر شرقي واسع كان يُستخدم كمكان للمحاضرات الطبية، ويُعد الليوان والفسحة السماوية والساحة الوسطى من التصميمات التي تراعي الراحة والوظائف العلاجية.

ويقول المؤرخ أنس عرنوس لوكالة شفق نيوز إن "البيمارستان النوري، كان مدرسة طبّية بكل معنى الكلمة، حيث جرى فيه تدريب أطباء أصبح لهم لاحقاً أثر في نقل المعارف الطبية إلى أوروبا كابن سينا والزهراوي".

ويضيف: "حتى في العلاج النفسي كان الأطباء يستخدمون الموسيقى والروائح الطيبة، وهو ما يثبت أن الطب العربي في دمشق سبق عصره".

واستمر في خدمته حتى القرن التاسع عشر، ثم تحوّل إلى مدرسة بنات في عام 1899، وأصبحت مدرسة تجارية، قبل أن يتم ترميمه عام 1975 وتحويله إلى متحف الطب والعلوم عند العرب، يعرض أدوات الجراحة القديمة، ورسومات لمخطوطات نادرة وأجهزة كانت تُستعمل في القرن الثاني عشر.

ويعتبر باحثون أن صمود البيمارستان هو رسالة بأن سوريا لا تملك تاريخاً سياسياً مضطرباً فقط، بل تراثاً علمياً وثقافياً يمكن أن يكون أساساً لنهضة مستقبلية.

وفي هذا السياق، يقول المهندس زياد روماني وهو يعمل في الترميم إن "من المهم المحافظة على البيمارستان لأنه حفاظ على صورة دمشق كمدينة كانت يوماً عاصمة للطب والفكر".

وفي زمنٍ تتقاذفه التجاذبات السياسية، يبقى البيمارستان النوري شاهداً على أن دمشق لم تكن فقط ساحة صراع، بل مدينة عالَمية ساهمت في صياغة تاريخ الطب، وأن الاعتناء بتراثها قد يكون أحد مفاتيح إعادة بناء هويتها الوطنية.