طرح مرجع النجف الأعلى السيد علي السيستاني آراءه الفقهية بشأن مبحث ولاية الفقيه في عدد من مؤلفاته، وأهمها كتاب «الاجتهاد والتقليد والاحتياط»، وهي دروسه في مرحلة البحث الخارج، والتي حررها تلميذه السيد محمدعلي الرباني، وكذلك الجزء الأول من تعليقة السيد السيستاني على كتاب «العروة الوثقى» للسيد محمدكاظم اليزدي، والجزء الأول من كتاب «الفوائد الفقهية»، الذي جمعه الشيخ محمدكاظم الجشي، فضلاً عن الاستفتاءات المنشورة في موقعه الرسمي بهذا الخصوص.
ويُعدّ كتاب «التقليد والاجتهاد والاحتياط»، وتحديداً الفصل الرابع منه؛ المصدر الأهم الذي يكشف عن آراء السيد السيستاني في ولاية الفقيه. وقد استدلّ فيه السيد السيستاني على ثبوت الولاية للفقيه في ثلاث مجالات، هي: الفتوى والقضاء والحسبة بصيغتها الواسعة؛ لكنه لا يرى للأدلة الروائية والعقلية التي أوردها القائلون بولاية الفقيه المطلقة (الرئاسة كما يعبر عنها في مطلع الفصل الرابع) حجية في ثبوت الولاية على الحكم، ومنها: مقبولة ابن حنظلة، ومعتبرة أبي خديجة، وروايات: «الحوادث الواقعة»، و«ورثة الأنبياء»، و«أُمناء الرسل»، و«مجاري الأُمور» وغيرها؛ فهو إمّا يضعفها سنداً وإمّا ينفي دلالتها (1). كما ينفي حجية الإجماع الذي أكده المحقق الكركي في كتاب «صلاة الجمعة»، والشيخ محمدحسن النجفي في «جواهر الكلام»، والشيخ النراقي في «عوائد الأيام» وغيرهم، بشأن ثبوت الزعامة العامة للفقيه، وشمول صلاحياته على الحكم (2).
ولعل أكثر ما يلفت النظر في معرض مناقشته لآراء الإمام الخميني في كتاب البيع (المكاسب)، بشأن حجية الدليل العقلي الذي يقول بضرورة استمرار تطبيق أحكام الإسلام التي تتعلق بالنظام العام ولا يمكن تعطليها، كالحدود والتعزيرات والأموال العامة والدفاع وغيرها (3)، وهي بحاجة إلى سلطة تقوم بتنفيذها؛ فإنّ السيد السيستاني يستعيض عن ولاية الحكم بخيار توسيع دائرة ولاية الحسبة؛ لتكون بديلاً يستوعب جميع الشؤون العامة التي لا يجوز تركها. أي أنّ السيستاني أحد أكثر الفقهاء الذين يوسعون مصاديق الحسبة ويوسعون صلاحيات الفقيه بصددها؛ بما يساوق ولاية فقيه شبه عامة، كما تدلّ أبحاثه.
ويخيل إليَّ لو أنّ السيد السيستاني طرح أبحاثه في ولاية الفقيه بعد العام 2003، أي بعد سقوط النظام البعثي، الذي كان يحصي أنفاس الفقهاء، فضلاً عن آرائهم، وبعد ظهور الحاجات الجديدة للدولة العراقية؛ فإنّه ربما سيتوصل إلى شمول ولاية الفقيه على الحكم؛ لأنّ ولاية الفقيه هي مسألة فقهية كغيرها من المسائل التي يختلف فيها العلماء مع بعضهم، ومع أنفسهم أحياناً؛ فتطرأ لديهم أدلة جديدة أو تفسيرات جديدة للأدلة أو قراءة جديدة للواقع وحاجاته المتغيرة. مع الإشارة إلى أن السيد السيستاني طرح أبحاثه هذه في العام 1407هـ (1986م) كما يوضح السيد الرباني في المقدمة.
وأعتقد أنّ من الطبيعي عدم إفصاح المعتقدين بولاية الفقيه على الحكم عن آرائهم في زمن النظام السابق. حتى إنّهم في معرض مناقشتهم لآراء الإمام الخميني الفقهية أو تأييدها لا يذكرون اسمه. مثلاً: السيد السيستاني كان في دروسه يشير إلى الإمام الخميني بصفة (أحد الأكابر) (4) ولا يذكر اسمه صراحة. بينما كان السيد محمد الصدر يعبر عنه بـ (أُستاذنا الكبير) (5).
وسأكتفي هنا بعرض عدد من نصوص السيد السيستاني حول ولاية الفقيه، وهي على شكل فتاوى منشورة في كتاب «الفوائد الفقهية طبقاً لفتاوى السيد السيستاني». كما أنّ أغلب الفتاوى موجود أيضاً في موقعه الرسمي على شبكة الإنترنيت، وهي تتطابق مع آرائه الواردة في كتاب «الاجتهاد والتقليد»:
سؤال 41: هل يجب اتّباع الفقيه في أحكامه التي يصدرها ؟
الجواب: «إذا كان حكمه في موارد ثبوت الولاية فلا تجوز المخالفة» (5).
سؤال 43: ما حدود حاكمية الحاكم وموارد نفوذها في حق مقلِّدي الغير؟
الجواب: «تنفذ أوامر من تثبت له الولاية من الفقهاء على الجميع في الأُمور الحسبية؛ بل وفي الأُمور العامّة التي يتوقف عليها نظام المجتمع الإسلامي» (7).
سؤال 49: ما حدود ولاية الفقيه عندكم؟
الجواب: «الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالأُمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، وأمّا الولاية فيما هو أوسع منها من الأُمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي؛ فلمن تثبت له من الفقهاء، ولظروف إعمالها شروط إضافية، ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين» (8).
سؤال 63: هل يجب على باقي الفقهاء الذين لا يرون ولاية الفقيه العامة؛ إطاعة الأحكام الولائية الصادرة عنه لضرورة حفظ النظام الإسلامي؟
الجواب: «حكم الفقيه الذي ثبتت له الولاية في موارد ثبوتها؛ لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبين خطؤه ومخالفته لما ثبت قطعاً في الكتاب والسنة» (9).
سؤال 90: هل الأحکام الولائية للولي الفقيه نافذة علی جميع مسلمي العالم أم هي خاصة بمنطقة نفوذه وولايته؟
الجواب: «ولاية الفقيه فيمن تثبت له مواردها لا تتحدّد ببقعة جغرافية» (10).
سؤال 93: ما معنى ولاية الفقيه ؟
الجواب: «يعني نفوذ أحكامه شرعاً في موارد ثبوت الولاية له» (11).
سؤال 146: هل يجوز تشريع القوانين استناداً إلى اقتضاء المصلحة؟
الجواب: «يجوز ذلك لمن له الولاية شرعاً ضمن شروط خاصة» (12).
هذه النصوص تؤكد أنّ السيد السيستاني يوسع مساحة حفظ النظام العام الثابتة للفقيه الجامع لشروط الاجتهاد والعدالة والمقبولية العامة من المؤمنين. وبرغم أنّه يشير إلى عدم شمول ولاية الفقيه على النظام السياسي؛ إلّا أنّه يوجب إطاعة الولي الفقيه الذي قبل المؤمنون بولايته، حتى على المجتهدين الآخرين، وخارج حدود الجغرافية الوطنية؛ كما نفهم من النصوص. ويمكن القول إنّ رأي السيد السيستاني في توسعة صلاحيات الفقيه من خلال مبدأ ولاية الفقيه يختلف عن مبنى أُستاذه السيد الخوئي، ويتطابق مع مبنى السيد محسن الحكيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) السيد السيستاني، «الاجتهاد والتقليد والاحتياط»، ص87 ـ 117.
(2) السيد السيستاني، «الاجتهاد والتقليد والاحتياط»، ص119 ـ 120.
(3) المصدر السابق، ص124.
(4) المصدر السابق، ص68.
(5) أو (سيدنا الأُستاذ) أحياناً أُخر. أُنظر: السيد محمد الصدر، «مبحث ولاية الفقيه».
(6) السيد السيستاني، «الفوائد الفقهية»، جمع: الشيخ محمدكاظم الجشي، ج1، ص35.
(7) المصدر السابق، ج1، ص36.
(8) المصدر السابق، ج1، ص38 ـ 39.
(9) المصدر السابق، ج1، ص45.
(10) المصدر السابق، ج1، ص53.
(11) المصدر السابق، ج1، ص53.
(12) المصدر السابق، ج1، ص70.