الكتاب القيم الذي ألّفه وأنجزه صديقنا الأخ الدكتور علي المؤمن حول الفقه الدستوري أو الفقه والدستور، والصادر عن مركز دراسات المشرق العربي؛ هو كتاب رائع وممتاز. هذا الكتاب قدّم إطاراً نظرياً للبحث وفصّل في مداخل الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، والفروقات بين الفقه الاسلامي والقانون الوضعي. ثم درس موضوع قواعد التشريع بين الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الوضعي، بعدها عرج على بيان تجارب التقنين والدسترة في البلدان الاسلامية، ولاسيما النموذجين المهمين اللذين شرح عنهما بشكل كافي ووافي، وهما تجربة تركيا وتجربة ايران في التقنين وكتابة الدستور.
وللفقهاء رأيهم في موضوع القانون عموماً، وخاصة الفقهاء (الأصوليون)، الذين يعتقدون بأنّ الاستفادة من كلمة تقنين أو قانون في حقيقة الأمر معارضة للقرآن الكريم وللسنة الشريفة والشريعة الاسلامية؛ باعتبار أنّ المشرّع الأصيل، وفق الفقهاء وكثير من المفكرين الإسلاميين هو الله (تعالي)، ومن وضع نفسه في موضع المقنن ومشرع القوانين؛ إن كانت على مستوى الدستور أو القوانين الأخرى ما دون الدستور؛ فهو يتجاوز على الشريعة وعلى المشرّع (تعالى)، ولا تزال بعض الدول تؤمن بهذه النظريات وبهذه الأفكار؛ بل أن كثيراً من الدول والحركات الاسلامية، كحزب التحرير وغيرهم، يعتقدون بأن قانوننا هو القرآن ولا غير.
هذا التفكير ربّما نعتبره نوعاً من الجمود الفكري في فهم للقران الكريم وفهم موضوع التقنين وفهم الفقه الاسلامي بمداه الواسع الشامل لكل شؤون الحياة؛ فحينما لا يكون هنالك قانون واضح المعالم يبين علاقة الحكام بالمحكوم، والشعب فيما بينه، والثروات، وكيفية تداول السلطة؛ ستكون البلد مسيرة بواسطة الأفراد المستبدينأ وتكون الحياة مقادة من قِبل ديكتاتورية، لا مثيل لها. وهناك مثال السعودية التي لاتؤمن بضرورة وجود الدستور، وما ـصدروه قبل سنوات هو لوائح تنظيمية لا أكثر، في الحكم والقضاء وغيرهما، وهذا يعني انهم يخافون حتى من كلمة الدستور. هذه المخاوف جعلت كثيراً من الدول تعيش بدون أن تكون لديها صورة واضحة لعلاقة الحاكم والمحكوم.
لذلك؛ حينما يتصدّي الدكتور علي المؤمن وغيره لإشكاليات موضوع إنشاء الدستور على أساس الشريعة الاسلامية والفكر الاسلامي؛ فهي مبادرة قيمة ومهمّة جداً، وتعتبر خطوة مِفصلية لتركيز وترسيخ هذا المفهوم، والبناء على أساسه. فالحقيقة أنّ إيجاد دستور لأي بلد؛ يمنع الحاكم من الاستبداد، أو لنقل أنها البُنية التحتية لمكافحة أي نوع من الاستبداد، خاصة أنّ بلداننا واجهت تحديين كبيرين، الأول هو الاستعمار الخارجي، حسب نوع الدول؛ فربما تكون ايران من أكثر الدول الاسلامية التي عانت من ضغوط الاستعمار الخارجي؛ رغم أنها لم تخضع للاحتلال ولم يسيطر عليها الاستعمار ولم يتمكن من فرض حاكم عليها؛ بل أنّ الحكومات استمرّت بترتيبات داخلية ايرانية؛ فاعترف السلاطين السابقين بالدستور قبل أكثر من مائة سنة، وتم إنشاؤه عبر ثورة كبيرة، عُرفت بالثورة المشروطة؛ التي بدأت بإنشاء القانون الأساسي وفرض توقيعه على الشاه آنذاك، والالتزام بشروط الحكم حسب الدستور، ولذلك سميت بالمشروطة والمشروطية.
وقد عانت جميع بلداننا الإسلامية من الاستعمار الخارجي، وكافحت ضده، كما عانت من الاستبداد الداخلي، وناضلت ضده أيضاً. ولعل أهم الآليات التي تضع الحاكم في حدود صلاحيات معينة هو الدستور. ولكن حينما لا يكون هنالك دستور؛ فسيكون الحاكم مطلق العنان، ويتصرف كما يحلو له، وتصدر الفرامين والأوامر السلطوية بشكل فردي. وكلنا نتذكر أنّ العراق عاني من منذ خمسينات القرن الماضي إلى العام 2003 من عدم وجود دستور دائم له، وكان ما يسمي الدستور الموقت يفتح المجال أمام حكام العراق باستغلاله حسب أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم. ولذلك؛ كانت هناك تأكيدات لإيجاد دستور للبلد بعد 2003، كما هو الحال مع فتاوي المرجعية العليا في النجف وبيانات القوي الإسلامية في الساحة العراقية، والتي أكدت على ضرورة أن يكون للعراق دستور يحكم الشعب من خلاله بلاده ويدير أموره. وفي المقابل كانت هنالك محاولات عرقلة من المحتل؛ بل عملوا على زج مستشارين أمريكان وأجانب ليكتبوا دستوراً مفروضاً على الشعب العراقي، إلّا أن الشعب العراقي رفض ذلك، ولاحظنا كيف أن توجيهات مرجعية النجف العليا آتت أكلها وأعطت نتاجها بكتابة الدستور العراقي.
أما مايتعلق بدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ فقد كان هنالك دستور سابق انبثق عن ثورة المشروطة قبل العام 1909. لكن ملوك ايران عملوا على لي عنق هذا الدستور ويتصرفوا كيفما يشاؤون. وبعد أيام قليلة من نجاح الثورة الاسلامية، وجّه الامام الخميني (رضوان الله عليه) الى ضرورة أن يكون للبلد دستور، وأن يكتب هذا الدستور بأيدي ايرانية منتخبة من الشعب، ثم يعرض الدستور بعد كتابته والانتهاء منه مرّة أخري على الشعب في استفتاء عام؛ ليبدي الشعب وجهة نظره وتأييده أو رفضه للدستور. إذن؛ كان هنالك تركيز على موقع الشعب، أو الأمة في سيادة حياتها السياسية وعلي أعلي المستويات، وهو مستوي الدستور وآليات كتابته والاشراف عليه. وقد شارك الشهيد العظيم السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) بمسودّة للدستور أرسلها إلى سماحة امام الخميني، قبل أن يصدر الدستور الإيراني، وطرح وجهات نظره في الامور الضرورية التي يجب أن تكون في الدستور. كما قدّم المرحوم الدكتور داود العطار، أحد الشخصيات الإسلامية الحقوقية العراقية؛ مسودّة للدستور الايراني. وشارك في جهد كتابة الدستور الإيراني الجديد كتّاب وفلاسفة وحقوقيون ايرانيون مقيمون في الخارج، كالدكتور حسن حبيبي وغيره. ثم تجمّعت كل هذه الاقتراحات لدي مجلس خبراء الدستور، وناقش بنوده علماء منتخبون من جميع المحافظات الايرانية، وكان يرأس المجلس آية الله المنتظري، لكن إدارة الجلسات كانت بيد آبة الله الشهيد السيد محمد البهشتي. وكانت جميع اجتماعات مجلس خبراء الدستور تُعرض على الهواء مباشرة، لكي يطلع الناس على المناقشات لحظة بلحظة ومادة مادة، ثم يتداولها الاعلام، وتجري النقاشات في المساجد والجامعات، وتعود الاقتراحات أو الأمور التي يرغب بها المثقفون والخبراء من خارج المجلس؛ تعود إلى المجلس، وتُدرس وتًضم أو تضاف أو يتم تصحيح حتى بعض البنود والمواد وفق المقترحات الجديدة.
إذاً؛ كتب الدستور الإسلامي الإيراني من ثمانين عالماً ومتفكراً وحقوقياً، وبانفتاح كامل على جميع الآليات القانونية المعتبرة عالمياً، ثم عرض على الشعب للاستفتاء عليه بكل شفافية، وصوّت عليه الشعب بالأغلبية الساحقة.
والحقيقة هنالك أمور ضرورية لابد من الاهتمام بها في هذا المجال؛ فموضوع الاستفادة من الفقه الإسلامي في كتابة الدستور وكيفية صياغة المواد المختلفة، والاعتماد بشكل متوازن على الخصوصيات الوطنية من جهة والثوابت الإسلامية من جهة اخرى؛ إذ من البديهي أن يكون لكل بلد اسلامي دستوره الخاص، الذي يراعي الخصوصيات الاجتماعية والجغرافية والسياسية والتاريخية، وأيضاً التركيبة السكانية؛ فهي تؤثر بمجموعها في نوع الرؤية التي يمكن أن يقوم الدستور على أساسها، أي أن البنية التحتية لأي دستور لابد أن تستوحي مضامينها من الثقافة والحضارة الرائجة في ذلك البلد، وبما أن بلداننا اسلامية؛ فإن حضارتنا إسلامية وثقافتنا اسلامية وأعرافنا اغلبها اسلامية، وهي بمجموعها تشكل أرضية خصبة للاستفادة منها في خلق التوازن بين قواعد القانون الدستوري الحديث وقواعد الفقه السياسي الإسلامي، وكذا الاستفادة من الفقه المقاصدي، وهو موضوع مهم، ويعتبر آلية لحركة الحكومات الإسلامية العصرية
وبالاستناد الى النص في الفقه الجعفري (الشيعي)؛ فإن الحاكم في الدولة الإسلامية، في غياب الإمام الثاني عشر، هو نائب الامام، أي الولي الفقيه. أما في مدرسة الخلافة (السنية)؛ فإن اسلوب انتخاب الحكومة له شكل آخر. ورغم هذا الاختلاف؛ فإن صفات الحاكم بين أغلب المذاهب الاسلامية تكاد تكون مشتركة، وخاصة شروط العلم والعدالة والكفاءة. إلّا أن الصفات التي ذكرتها الكتب الفقهية استناداً الى الآيات والنصوص شيء، والممارسة العملية التي حصلت في التاريخ الاسلامي شيء آخر، ولاسيما في عصر الحكومات الأموية والعباسية وملوك الطوائف المختلفة، وصولاً الى الدولة العثمانية؛ فقد كانت مبنية على أساس وراثي وعلى استخدام العنف، وكانت منحرفة عن تعاليم الإسلام، ولا يمكن أن تمثّل نموذجاً صادقاً وصحيحاً عن الحكومة الاسلامية، أو أن يكون لها دستور ونظام قانوني مستنبط من الاسلام.
(أكاديمي وباحث، نائب وزير الثقافة الإيراني السابق)